حين نطق التار ألحانه الشجية، تذكرت الصبية والدها برديا وكيف علمها الأوتار الصعبة ونظم الأشعار في الأسفار والعيش في الأصقاع البعيدة التليدة، وعرفت فريال أن للدنيا أسرارها المنسية ومكنوناتها المخفية.
اختارتها الحياة لتكون الصبية التي ستحكي للملك البهي تلك الحكايا المروية فقط بين الرحالة الأحرار ممن يدخلون إلى الحياة ويخرجون منها دون أن يشعروا بالضجر أو السأم.
لم تشعر فريال بالضجر حين كانت تلهو بين الأحراش وتراقب العالم المتكون من الربوع والسهول من أعلى شجرة ما.
كان العالم واسعًا وسامعًا للمغنى والمعنى الذي كانت تأتي به فريال دون غيرها، وتمنت فريال أن يكون هذا العالم لا يدعي إنصاته وأنه بالفعل يستمتع بالقصص التي تسردها الصبية.
لكن هذه الحكايا لم يصلها الوجد يا فريال.
هل يعلم العالم اليوم أن الصبية ذات الخيال اللذيذ قد باتت أسيرة للوجد والمشاعر الليلية التي تسكن عروق الملك البهي كل ليلة، خصوصًا حين يود الوجد أن يعيش لوهلة بين حنايا روحها العابرة لجسده. فتكون أحجياتها غير مجدية، وقصصها الناطقة بالكائنات الظلية غير نافعة، وحكاياها الممتلئة بالصبيان واللصوص غير حاضرة أمام وجدها الجليل للرجل الوسيم أمامها.
قدم لها الملك كرمًا لامس شفتيها، تناولته بمهل شديد وعروقها تندد بمصير مريب، طمأنها أنه لا يخبأ بين مشاعره غير الوجد.
ما الوجد يا فريال؟
هل هو شعور يخص الليل الستار، العالم بالأسرار؟ أم يخص الصباحات الندية حين تفيق الصبية وقد توغل الضياء الجريء إلى زوايا القصر، ووجدت أنوار الخورشيد العظيم مكانها المعتاد وسط السماء.
لكن الملك يخشى كل ليلة أن يتسلل النوم العميق إلى عقل الصبية فتغدو غير قادرة على نسج الحكايات المعنية بالظلال الطائشة.
اقترب منها ليسألها:
– الملك فرصاد: يا ترى ماذا جرى؟
الله وحده وفريال يعلمان ما هو قدر الظلال الطائشة.
قدر يسوقك إلى الأحلام والأماني، قدر قريب ربما من حسن المعاني.
– فريال: إليك ما جرى أيها الملك البهي.
قرر الصبي إيليا بدلًا من سرقة الظلال الثرثارة أمثال سمير الظل، أن يحرم السماء من الغيوم السابحة إلى الآفاق البعيدة وإلى الكون الممتد خلف الربوع والسهول.
إيليا: هذه الظلال غير نافعة.
وغير آبهة بإيليا الذي توغل الضجر إلى نفسه، أراد أن يلتقط غيمة جديرة بأن تكون غيمته التي سيبتاعها لأحد السيارة في الصحراء العريضة والتي تخلو من أي غيم ماطر، لا بُد أن تكون ذات همرة مختلفة لا تشبه السحب الشحيحة الخالية من الماء والتي يدفعها الهواء بخفة عالية.
– إيليا: تذكر يا سمير أنك ظل!
لم ينسى سمير في حياته أنه ظل حتى يتذكر الآن!
– إيليا: وتذكر أن الغيمات كائنات قطنية مخادعة لا يمكن الوثوق بها.
وهل يمكن الوثوق بإيليا؟ إنه صبي صعب المنال، يعشق إفساد الظلال. وأي ظلال، تلك الظلال البهيجة السعيدة أمثال سمير الظل.
عقد إيليا عدة حبال، وأراد بها أن يلتقط أحد الغيم السابح في الهواء، وطلب من سمير أن يراقب كل غيمة قريبة كانت أو بعيدة، ويعلن بصوته وصولها نحوه.
– إيليا: راقب الغيوم جيدًا يا سمير.
وجد سمير الظل أن الصبي يسكن عقله الجنون والمجون.
لا يستطيع سرقة البشر فقرر سرقة الغيوم المسكينة التي تحمل بين أكتافها الزخات الثقيلة، وكيف لسمير الظل أن يسرقها فهي قد تتعرف عليه، فقد كانت تعبر الصحراء وأحيانًا الواحات التي كان يسكنها سمير حين كان ظلًا طيبًا يطير ويسير في الدروب دون أن يزعجه أحد.
حاول سمير التركيز في كل غيمة عابرة، إنها سريعة لا يمكن إيقافها، لا يمكن الإمساك بها بالحبال ومن أعلى الجبال، إنها كائنات حرة مثل ما كان هو كائنًا حرًا سابحًا في الهواء، وسط السماء، كائنًا يعلو ويهبط كيفما يشاء.
لكنه الآن مكبل، مقيد وبعيد عن أي معنى للحرية، هل يستطيع الهروب نحو تلك الدروب؟
بالتأكيد لن ينتبه إيليا وسط الغيوم التي ستتلبد فجأة وتنهر تلك الهمرة المختلفة.
هل ستشعر الغيمة بالغربة؟
حين تكون بين أحضان الظل والصبي، كما شعرت فريال بالغربة بين جنبات القصر.
وكيف هي الغربة يا فريال؟ هل هي الغربة المختلطة بالوجد؟
وجل الملك فرصاد لوهلة، حين طُرق الباب وكان خلفه أحد حراسه، قال الحارس كلمات بدت مغمورة وغير مفهومة، هز الملك فرصاد رأسه معلنًا إنزعاجه، عاد ليوصد الباب من جديد.
– فريال: ماذا هناك أيها الملك البهي.
– الملك فرصاد: الأعداء كثر، والأصدقاء قلة.
لم تعرف فريال الأعداء أو الأصدقاء، عرفت فقط الحكايا المعجونة بالكلام اللذيذ، عرفت الأحلام الملونة والمدونة بين ثنايا القصص المصورة، وفي مسرح الدمى المصنوعة من الظل.
من شخوص تعرف الخير وحده، وتدرك النور وتنسى الظلامات التي قد تزين الليالي الكثيرة القادمة والتي ستشعر فيها فريال بالغربة الأكيدة.
مُزنة المسافر