حديث الساعة، الحدث الراهن، هو تبني الغرب، أخيراً، صيغةً جمعيةً لفرض سقف سعري على النفط الروسي هو 60 دولاراً للبرميل، سواءٌكان ذلك البرميل متجهاً إلى أوروبا أم إلى أي مكان آخر في العالم.
بعد أن تداول صناع القرار الغربيون صيغاً مختلفة لتقليص عائدات روسيا من صادرات حوامل الطاقة، من مقترح فرض ضريبة شاهقة علىمستوردات النفط الروسي إلى مقترح تشكيل احتكار مشترين للنفط الروسي يفرض تنازلات سعرية على روسيا، قر قرارهم على فرض سقفسعري على النفط الروسي المشحون بحراً، إلى أي وجهة في العالم، فهل ينجحون في فرض مثل ذلك السقف عالمياً؟ وما هو أثر ذلكالإجراء على سوق النفط التي شهدت مؤخراً قدراً من عدم الاستقرار؟
نقول “عودة إلى تسقيف سعر النفط الروسي” لأن هذا الموضوع سبق تناوله مرتين في الميادين نت من قبلُ، في 6/7/2022، تحت عنوان”هل يرتفع سعر النفط إلى 380 دولاراً للبرميل؟”، وفي 8/9/2022، تحت عنوان “هل يفرض الغرب سقفاً سعرياً على النفط الروسي؟”.
لذلك، فإن اقتصاديات تسقيف سعر النفط الروسي وإحصاءاتها جرى بسطها في هاتين المادتين لمن يرغب في العودة إليهما. والمطلوبالآن، بعد تبني الاتحاد الأوروبي ومجموعة الـ7 + أستراليا قرار تسقيف سعر النفط الروسي، هو تقييم:
أ – قابلية ذلك القرار للنفاذ عملياً، في ظل ميزان القوى الحالي وبنية العلاقات الدولية اليوم.
ب – أثره المحتمل على السوق النفطية، ومن ثم على الاقتصاد العالمي الذي يغذ الخطى نحو الركود.
تسقيف سعر النفط الروسي أيديولوجياً وسياسياً
شهد فصل الحرب الأوكرانية ارتداداً غربياً جماعياً عن مقولات العولمة التي طالما رفع الغرب راياتها، مثل السوق الحرة وقدسية الملكيةالخاصة ورفض تدخل الدول في الاقتصاد، ولا سيما التجارة الخارجية، إذ ظهر بوضوحٍ أن ضرورات الأمن القومي غربياً تبيح المحظوراتالنيوليبرالية أيديولوجياً، وأن “اليد الخفية” للسوق، التي بشر بها آدم سميث في كتابه “ثروة الأمم”، كمفتاحٍ سحريٍ لمغاليق الازدهاروالتراكم غير المحدود للثروات، أفسحت المجال لليد الثقيلة للتدخل البيروقراطي في التجارة الخارجية وحركة رأس المال عبر الحدود، وصولاًإلى مصادرة “ثروة الأمم”، الروسية منها نموذجاً، جهاراً نهاراً، حتى تجللت رؤوس تلامذة آدم سميث المزعومين، في مؤسسات “إجماعواشنطن” بخاصةً، بأكاليل النفاق.
وحيث جادل آدم سميث منهجياً ضد السياسات الحمائية واحتكارات التجارة الخارجية التي تستدعيها المنظومة “المركنتيلية”، ولا سيما فيالكتاب الرابع من كتب مجلد “ثروة الأمم” الخمسة، فإن من يلوحون اليوم بيافطة آدم سميث لم يكتفوا بشن حرب تجارية ضروس علىروسيا، وأخرى تتسع جبهاتها وتتعمق، يوماً بعد يوم، على الصين، إلى جانب الحروب الاقتصادية الضارية التي يٌصلون الدول المستقلةنارها في شرق الكرة الأرضية وجنوبها، بل أوقعهم استبطان تلك النزعة الحمائية “المركنتيلية” المستجدة، المناهضة لألف باء العولمةبالتعريف، في صراع حلفاءٍ بين الاتحاد الأوروبي من جهة، والولايات المتحدة من جهةٍ أخرى، حتى أن رئيسة المفوضية الأوروبية، أورسولافون دير لاين، “رجّحت نشوب حرب تجارية جديدةٍ بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على خلفية القانون الأمريكي لخفض التضخم”.
جاء ذلك أمس، وسبقه انتقاد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون سلوك ألمانيا في أزمة الطاقة، منذ تشرين الأول / أوكتوبر الفائت، علىخلفية إعلان برلين رصدَ 200 مليار يورو لمواجهة أزمة الطاقة من دون مشاورة الاتحاد الأوروبي. فالتناقض الألماني-الفرنسي، على هذاالصعيد، يضع تماسك الاتحاد الأوروبي على المحك.
أما السلوك الحمائي الأمريكي، فوضَعَ تماسك حلف الناتو على المحك، وهي الخلفية الواضحة لزيارة الرئيس الفرنسي ماكرون الأخيرة إلىالولايات المتحدة، كأن الرئيس الأمريكي بايدن والدولة العميقة من خلفه تقمصا برنامج الرئيس السابق دونالد ترامب الحمائي الأمريكي، وإنبواجهة بيئوية خضراء مناهضة للوقود الأحفوري، ولترامب شخصياً، وللجمهوريين انتخابياً.
تكمن المعضلة هنا في أن المنظومة العسكرية-الأمنية الناتوية تستند إلى تحالف أنكلو-ساكسوني أمريكي-بريطاني، فيما يستند الاتحاد(الاقتصادي) الأوروبي إلى تحالف جرماني-لاتيني، عماده العلاقة بين ألمانيا وفرنسا. ومن لدن ذلك التناقض الجوهري بين ما هو أوروبيقارّي، وما هو أطلسي، أو بين الأساس الاقتصادي لأوروبا من جهة، وأساسها السياسي-العسكري من جهةٍ أخرى، نشأ عديدٌ من التوتراتالعابرة للأطلسي.
نشب في ظلال ذلك التناقض نفسٌ أوروبيٌ مناهضٌ للهيمنة الأمريكية، وللبعد الأنكلوساكسوني، وخرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبيالقارّي استعلاءً عليه، لكنّ تلك النزعة ظلت تحت السيطرة عموماً، وظل من الممكن تجاوزها، بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، على جناح: أ – تمدد العولمة، ب – تمدد حلف الناتو شرقاً.
أما بعد صعود الاقتصادات المستقلة دولياً، ولا سيما الصين التي اخترقت الغرب في ميدانه المعولم ذاته، فإن النزعة الحمائية ذاتها التيدفعت النخب الغربية للتقوقع قومياً، ودولتياً، بدلاً من الدفاع عن برنامج العولمة في مواجهة صعود الأقطاب الدولية الجديدة، خلقت تشققاتكبيرة في الصف الأوروبي والناتوي ربما تكون ذات آثار كارثية على تماسك الغرب الجماعي على المدى البعيد، وهي تعنينا هنا من زاويةمحددة هي قدرة الغرب على فرض قيود على سعر النفط الروسي هنا والآن، مع أنها مهمة أيضاً كمؤشرٍ عام على قدرة الغرب على تعبئة قواهفي معركة دولية كبرى.
من السابق لآوانه طبعاً الانجراف خلف التفكير الرغائبي أن الغرب تفكك وانتهى، كما يذهب البعض، إنما نشير إلى تشققات متزايدة، ربمايوجد مثلها وأكثر في الصفوف المقابلة للغرب شرقاً وجنوباً، بكل صراحة، ومن ذا الذي يزعم أن التحالفات، في أي زمانٍ ومكان، تتألف منكلٍ منسجمٍ متماهٍ؟
تبقى العبرة في نقطة استراتيجية محددة هي أن الارتداد عن برنامج العولمة نحو النزعة الحمائية، وأن التقوقع قومياً في الدول الغربية، يزيدمن تلك التشققات ويعوق تبني سياسات موحدة إزاء الدول والحركات المستقلة الخارجة عن ربقة الهيمنة الغربية حول العالم، لكن الحرب ضدالهيمنة الغربية ما تزال في بداياتها تاريخياً، وما برح “الناتو” يسعى للتوسع، كما نرى.
الرافعة المالية لفرض سقف على النفط الروسي
أما بعد، فإن فكرة فرض ضريبة شاهقة على صادرات حوامل الطاقة الروسية، تدفع معظمها روسيا، كما بينت في مادة سابقة، بحكم قلةمرونة عرض الموارد الطبيعية عموماً، تصطدم بأمرين أساسيين: أ – قدرة روسيا على حجب عرض صادراتها عن الأسواق الغربية، مع وجودأسواق أخرى لحوامل الطاقة الروسية، خارج الغرب، لا سيما في الاقتصادات النامية، الصينية والهندية وغيرها، ب – قدرة الغرب الجماعيعلى فرض مثل تلك الضريبة في كل دولِه ومناطق نفوذه على قدمٍ وساق، في ظل التشققات السياسية التي يعانيها.
تمثل تلك التشققات، على المقلب الآخر، عائقاً في وجه تشكيل احتكار مشترين monopsony لحوامل الطاقة الروسية، هو وحده الكفيلبفرض تنازلات سعرية على البائع الروسي في وجه تكتل مشترين غربي وحليف. فثمة دافع للغش هنا، وللف والدوران من خلف “الاتفاق”على عدم شراء حوامل الطاقة الروسية فوق سعر محدد. ولو كان الغرب متماسكاً، لكان ذلك هو الحل الأفضل له لتسقيف سعر النفط والغازالروسيين.
وجد الغرب الحل، بعد 6 أشهر من المداولة، في خضم حرب أوكرانيا، في لندن، التي تحتضن 95% من الشركات التي تؤمن ناقلات الشحنالبحري. وهو حلٌ مؤسسي، يشبه منظومة “سويفت” بالنسبة إلى حركة رأس المال المالي العابر للحدود، أي أنها ليست خاضعة لقرارجمعي، بل لقرار بيروقراطي، يتحكم حلف “الناتو” بمفاتيحه.
مُنِعَ التمويل والتأمين، إذاً، وأي خدمات مالية أخرى، عن أي ناقلة تشحن النفط الروسي بحرياً بسعر أعلى من 60 دولاراً للبرميل، إلى أيمكان في العالم. فالناقلات النفطية يصعب أن تشحن النفط وأن تمخر عباب المحيطات من دون تمويل وتأمين، وهذا هو المفصل المركزي، أوكعب أخيل النفط الروسي، الذي يراهن عليه الغرب لتسقيف سعره، ومن دونه فإنه لا يملك إلا أن يفرض حظراً جزئياً غير متماسك علىحوامل الطاقة الروسية. وهي آلية يمكن التحكم فيها “من فوق”، بقرار بيروقراطي، من دون حاجة إلى وجود إرادة سياسية موحدة غربياً.
في الحاجة إلى منظومة مالية ومصرفية بديلة
إن سيطرة لندن، والأطلسي عموماً، على خدمات تمويل الشحن البحري وتأمينه، يضع روسيا والصين خصوصاً، والدول المستقلة عموماً،أمام تحدٍ مؤسسيٍ كبير، يشابه تحدي تجاوز التعامل بالدولار واليورو، أو تحدي تحويل الأموال عبر منظومة بديلة لـ”سويفت”. فالمنظومةالاقتصادية الدولية تسيطر عليها منظومة مالية دولية، يسيطر عليها رأس المال المالي الدولي، وعلى الرغم من كل التقدم الذي حققته الدولالصاعدة اقتصادياً وتكنولوجياً، فإنها ما برحت متأخرة عن الغرب على صعيد الخدمات المالية والمصرفية. ولولا ذلك، لكان فك الحصار مالياًومصرفياً عن الدول المحاصرة، مثل إيران وسورية وكوريا الشمالية، هيناً، ولكنه ليس كذلك بعد: لا بد إذاً من عملة تداول دولية غير الدولارواليورو (الذهب مثلاً، أو العملات الرقمية)، ولا بد من منظومة إلكترونية لتحويل الأموال غير “سويفت”، ولا بد من مؤسسات مالية مصرفيةوغير مصرفية مستعدة وقادرة على تأمين الشحن البحري وتمويله مثلاً، لا حصراً، من دون خوفٍ من جنوح السفن المستقلة إلى جزرٍ قصيةٍخارج محيط الاقتصاد العالمي.
ومن دون ذلك كله ربما ينجح تسقيف سعر النفط الروسي وغيره من الإجراءات الغربية إلى حدٍ ما، لأن شركات الشحن لن تخاطر بشحنالنفط الروسي إذا كان ستخرج من الصناعة برمتها.
يتطلب الانفصال مالياً ومصرفياً عن الغرب قراراً سياسياً من روسيا والصين ما برحتا تناوران من أجل تجنبه، مع أن واقع المجابهة التيفرضها الغرب عليهما تدفعهما إليه دفعاً. فهناك، من جهة، حقيقة أن روسيا والصين والهند والبرازيل بنت ثرواتها واقتصاداتها من خلالاختراق العولمة كمشاريع مستقلة، بدرجةٍ أو بأخرى، وهناك من جهة أخرى، حقيقة أن الغرب يخوض صراعاً مستميتاً مع تلك القوى الصاعدةلإخضاعها.
إن مأساة روسيا والصين (والهند والبرازيل) هي أنها اتبعت قوانين اللعبة الغربية، تحت سقف العولمة، وربحت، ولكن الغرب يرفض أن يعترفبتلك القوى أنداداً، وهي مشكلة أيديولوجية، قبل أن تكون سياسية، يعانيها مثقفون وحركات سياسية كثيرة جنوب الكرة الأرضية وشرقهاأيضاً، ولا سيما في الوطن العربي، وما دامت عقدة الانخراط في المنظومة الغربية قائمة، فإن الوزن المكافئ للغرب الذي تنتجه الدول المستقلةاقتصادياً وتكنولوجياً لن يتحول إلى مشروع سياسي، أو إلى نظام دولي بديل، وستبقى الدول المستقلة في موضعٍ دفاعي، وستبقى المبادرةالاستراتيجية غربية.
ليست العبرة في أن تكون يسارياً في العنوان أو أن لا تكون، بالمناسبة، فالرئيس اليساري المعاد انتخابه للبرازيل، لولا دي سيلفا، مرتقبٌ فيواشنطن قبل نهاية العام، قبل تتويجه رئيساً، وكأن الأمر خصومة شخصية مع ترامب الذي اصطف مع الرئيس البرازيلي السابق جاييربولسونارو.
جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي، من عمق أعماق الدولة العميقة الأمريكية، يحل في البرازيل اليوم! وفك الحصار النفطيالأمريكي عن فنزويلا يسير حالياً بالتوازي مع تشديده على روسيا… ولولا موقف إيران الصلب من العدو الصـ.ـهيـ.ـوني، لسار الاتفاقالنووي بالاتجاه ذاته لفك الحصار نفطياً وغازياً عن إيران أيضاً، على حساب روسيا (وكل الدول المستقلة في المحصلة).
ثمة مشكلة حقيقية في وعي معنى مصطلح “إمبريالية”، ومعنى مناهضتها في جبهة عالمية موحدة. وهذه ليست دعاية أيديولوجية، إنماتحديدٌ لحقيقة بديهية هي أن السماح باستفراد أي دولة مستقلة، تحت عنوان “المصالح”، يعني إخضاعنا جميعاً في المحصلة. والمقصود،براغماتياً، هو أن الولايات المتحدة تبحث عن بدائل لحوامل الطاقة الروسية وهي تحاصرها، ومن المعيب أن تجدها في دول مستقلة أخرى،فذلك يساعدها على فرض سقف سعري على النفط الروسي، لأن حجب المعروض الروسي عن السوق العالمية لا قيمة له في ظل توافر بدائلأخرى.
من البديهي، بالمقابل، أن ذلك يتطلب من روسيا والصين أن تفكرا بمنطق دعم الدول المحاصرة من خلال منظومة دولية بديلة، من سورية إلىكوريا الشمالية إلى إيران إلى فنزويلا، فمن المعيب أن تعاني سورية مثلاً أزمة حوامل طاقة، ازدادت شدةً مؤخراً، فيما روسيا أكبر مصدّرللنفط عالمياً، يمكنها بسهولة توجيه 1% من النفط الروسي الذي تحجبه عن الغرب إليها، كمسألة أمن قومي روسي، حتى لو فكرنا بمنطق”المصالح”، لا بمنطق مناهضة الإمبريالية “الإيديولوجي”.
مع روسيا والصين والدول والحركات المستقلة ضد الهيمنة الغربية بكل تأكيد، لكنْ ثمة استحقاقات بالاتجاهين.
الظروف الحالية للسوق النفطية وتسقيف سعر النفط الروسي
أكدت “أوبك +”، من جهتها، على موقفها الملتزم بتخفيض إنتاج النفط مليوني برميل يومياً، ما يدعم الموقف الروسي، ويضعف قدرة الغربالجماعي على تسقيف سعر النفط الروسي، في غياب بدائل له، وهو مؤشر جيد.
يدلف الاقتصاد العالمي، بالمقابل، نحو الركود، ما يضعف الطلب العالمي على النفط وحوامل الطاقة عموماً، ويخفض موشور أسعارها، ويعززهذا الاتجاه قيود كوفيد على الاقتصاد الصيني، ويحسن هذا طبعاً من قدرة الغرب على تسقيف سعر النفط الروسي تحت 60 دولاراًللبرميل.
يدفع الشتاء، على صعيدٍ آخر، إلى زيادة الطلب على النفط وحوامل الطاقة، وذلك يضعف قدرة الغرب على تسقيف النفط الروسي.
لكنّ ذلك كله يمثل عوامل عرضية أو دورية، أما العوامل البنيوية، وعلى رأسها التناقض مع منظومة رأس المال المالي الدولي، والحاجة إلىالتخلص من قيودها المفروضة على تنمية دول الشرق والجنوب، فتدفع باتجاه إنشاء نظام اقتصادي عالمي بديل، موازٍ، ومختلف، لأن الحديثعن تعددية قطبية عند البعض بات يعني الحصول على رخضة من الغرب لوجوده كقطب دولي، للأسف. وشتان ما بين المناورة من أجل نيلالمقبولية في منتدى الغرب الجماعي، وما بين تأسيس نظام دولي بديل.
إبراهيم علوش – الميادين نت