إن البلاغة مرت بمراحل عديدة لاختلاطها بكتب التفسير وكتب علوم القرآن، وكتب اللغويين، لتأتي بعدها مرحلة التقعيد لقواعد البلاغة، ومن ثمالشروح مثل (مفتاح العلوم) للإمام السكاكي الذي جمع الصرف والنحو والبلاغة، ثم شروح على المفتاح، وحواشي على الشروح، ثم حواشيعلى الحواشي وغير ذلك، ليدخل في البلاغة الكثير أيضاً من علم المنطق.
البلاغة هي عبارة عن روح جمالية، وهي تظهر بمستوى أعلى من مستوى النص طبعاً في مستواه النحوي، من حيث المحاسن البديعية التيفيها، حيث أن البلاغة تتذوق النص بعد تهذيبه نحوياً ولغوياً، مع مراعاة التطور العلمي المرتبط بكل ما يحدث في المرحلة التي يكون فيها منكل النواحي، سياسية كانت أم اجتماعية وغير ذلك، بالتالي إن القصد من دراسة البلاغة بالمطلق، هي الوقوف على دلالة الإعجاز القرآني،بالتالي، إن القرآن الكريم نمط من القول غير مسبوق، بما له من سحر التأثير وروعة البيان، وكمال الإعجاز، وبما تفرد به من بيان ونظم كانسر لإعجازه، من تصوير حسي متسلسل إلى تخيل حسي، والأساليب الإنشائية وأسرارها البلاغية، قال تبارك وتعالى: (ما أنزلنا عليكالقرآن لتشقى)، واستكمالاً لتفسير سورة طه، حيث أن أحرف (ط و هـ) من الأحرف النورانية، كما أشرنا في مقالٍ سابق، وأحد أهم أسبابنزول القرآن الكريم، إزالة الشقاء، عن الإنسان بشكلٍ خاص، وعن المجتمعات بشكلٍ عام.
بالتالي، إن القرآن الكريم إجمالاً، نجد فيه صوراً جمالية للكلمات والألفاظ من خلال الأساليب اللغوية والبلاغية وأثرها في معنى الآيات الكريمة.
وكثيراً ما ذكرنا أن بيان وجوه إعجاز القرآن الكريم البلاغة والفصاحة التي أعجزت العرب، المشهورين بالفصاحة، وبلاغة وفصاحة القرآنتتجلى في شكله وحرفه ورسمه وتكوينه، وهذا سرّ تفرده، فضلاً عن اهتمام العلماء قديماً وحديثاً بدراسته وكل يوم يتم اكتشاف سحره بطرقمختلفة، فالقرآن الكريم جلّت بلاغته على أن يؤتى بمثلها، قال تبارك وتعالى: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لايأتون بمثله)، وبالتدبر في القرآن الكريم، نجد أن كل الوجوه شاهدة على إعجازه، فتارة يكون الإعجاز بخبر غيبي، وتارةً أخرى بأسلوب بلاغي، فالإعجاز دائماً ما يكون بعدم التناقض لا بالأسلوب ولا في درجة البلاغة من بدايته إلى نهايته.
لقد جعل الإمام عبد القاهر الجرجاني، الفصاحة والبلاغة والبيان بمعنى واحد كما في قوله: (تحقيق القول على البلاغة والفصاحة والبيانوالبراعة، وكل ما شاكل ذلك مما يعبّر به عن فضل بعض القائلين على بعض من حيث نطقوا وتكلموا وأخبروا السامعين عن الأغراضوالمقاصد..).
وهنا لا بد من القول إن عناصر البلاغة بشكل مختصر، هي الالتزام بما ثبت في متن اللغة وقواعد النحو والصرف، واختيار الفصيح منالمفردات والجمل والقواعد، والبعد عن الخطأ في تأدية المعنى المطلوب، وكذلك البعد عن التعقيد، سواء من جهة اللفظ أو من جهة المعنى،فضلاً عن انتقاء الكلمات الجميلة التي تشد القارئ أو السامع، وتزيينها بالمحسنات، وكذلك من الأمور المهمة لأي مفسر أن يهتم ببيان وجهمناسبة الآية الكريمة، حتى يتضح للقارئ الوحدة الموضوعية للقرآن الكريم، يقول الإمام الشاطبي رحمه الله: (فالذي يكون على بال منالمستمع والمتفهم الالتفات إلى أول الكلام وآخره بحسب القضية وما اقتضاه الحال فيها..).
من هذه المقدمة نستكمل تفسير سورة طه الكريمة، قال تبارك وتعالى: (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا وما أكرهتنا عليه من السحر)، فيتفسير البغوي، روي عن الحسن أنه قال: كان فرعون يكره قوماً على تعلم السحر لكيلا يذهب أصله، وقد كان أكرههم في الابتداء، حيث قالتالسحرة لفرعون: أرنا موسى إذا نام، فأراهم موسى نائما وعصاه تحرسه، فقالوا لفرعون إن هذا ليس بساحر، إن الساحر إذا نام بطل سحره، فأبى عليهم إلا أن يتعلموا.
وفي التفسير الوسيط، خصوا السحر بالذكر مع دخوله في خطاياهم، للإشعار بشدة نفورهم منه، وبكثرة كراهيتهم له بعد أن هداهم الله إلىالإيمان، وأن الله تبارك وتعالى، خير ثواباً منك يا فرعون، وأبقى جزاء وعطاء، فإن ثوابه- سبحانه – لا نقص معه، وعطاءه أبقى من كل عطاء.
أما في تفسير الإمام الطبري، إنا أقررنا بتوحيد ربنا، وصدقنا بوعده ووعيده، وأن ما جاء به موسى حق، ليعفو لنا عن ذنوبنا فيسترها علينا،وليغفر لنا ذنوبنا، وتعلمنا ما تعلمناه من السحر، وعملنا به الذي أكرهتنا على تعلُّمه والعمل به، وذُكر أن فرعون كان أخذهم بتعليم السحر.
وفي تفسير السعدي، الإيمان مكفر للسيئات، والتوبة تجب ما قبلها، والظاهر -والله أعلم- أن موسى لما وعظهم، أثر معهم، ووقع منهم موقعاًكبيراً، ولهذا تنازعوا بعد هذا الكلام والموعظة، ثم إن فرعون ألزمهم ذلك، وأكرههم على المكر الذي أجروه، ولهذا تكلموا بكلامه السابق قبلإتيانهم، ووفقهم للإيمان والتوبة، والله خير مما وعدتنا من الأجر والمنزلة والجاه، وأبقى ثوابا وإحسانا، وجميع ما أتى من قصص موسى معفرعون، يذكر الله فيه إذا أتى على قصة السحرة، أن فرعون توعدهم بالقطع والصلب، ولم يذكر أنه فعل ذلك، ولم يأت في ذلك حديث صحيح،والجزم بوقوعه، أو عدمه، يتوقف على الدليل، والله أعلم بذلك وغيره، ولكن توعده إياهم بذلك مع اقتداره، دليل على وقوعه، ولأنه لو لم يقع لذكرهالله، ولاتفاق الناقلين على ذلك.
بالتالي، إن سورة طه، من السور القوية، لأن فيها خطاب مباشر بين نبي الله موسى عليه السلام، والله تبارك وتعالى، كما أشرنا في الآياتالسابقة، وهذا ليس الأمر الوحيد، فدائماً ما ظهر بهذه الآيات الكريمة، السر الإلهي المعجز، إن كان إلقاء موسى في اليم ومن ثم مكوثه لدىالفرعون، وليس آخراً موضوع السحر ورحلته ووضع بني إسرائيل وما إلى هنالك، فكما الأمس احتاج مجتمع موسى إلى إثبات، نحتاج اليومإلى ترسيخ الثقافة القرآنية مجدداً وتقوية الإيمان من خلال حلقات التفسير البسيط وتقريبه لكل الشرائح بعيداً عن الخطب الرنانة والشعاراتالمبالغ فيها، والتي غالباً ما تحتاج إلى متخصصين لفهمها، الأمة اليوم تائهة، ولن يعيدها إلى رشدها سوى تفعيل الثقافة القرآنية بين عموم الناس وبالأخص فئة الشباب لإنقاذ هذا الطيف الواسع.
القرآن الكريم يستحق منا أن نلتزم بتعاليمه ونبين مقاصده ونقتدي بما أمرنا به الله تبارك وتعالى ونبيه الأكرم، محمد صلى الله عليه وآلهوسلم، فليكن هذا شعارنا اليوم وغداً وإلى قيام الساعة.
في تفسير ابن كثير، (إنا آمنا بربنا ليغفر لنا خطايانا) أي: ما كان منا من الآثام، خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر لنعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.