◄ الفلسفات السياسية المُنظّرة لـ”نهاية التاريخ” أثبتت فشلها
◄ نتحدث عن صراع حضارات ينتج ثقافة جديدة وليس صداما يدمّر العالم بأسره
◄ لا بُد للعرب من التواجد بقوة على خارطة العالم الجديد استنادًا لقدراتهم الاستراتيجية
لم يكن الفلاسفة ومنظِّرُو علم الاجتماع السياسي أو حتى خبراء المدارس الاقتصادية المُتعددة، ينطلقون من فراغٍ عندما يبدأون توقُّع أُفول نجمِ حضارةٍ ما، أو انهيار نظرية اقتصادية، أو انحسار فلسفة سياسية؛ بل كانوا يستندون إلى عدة مُعطيات؛ أولها التاريخ، وثانيها العوامل الجيوسياسية، وثالثها مبدأ تعاقب الحضارات، وكل هذه المُعطيات مُجتمعة تُفضي إلى نتيجة حتميّة مفادها أنَّ دوام الحال من المُحال، كما نقول في أمثالنا الشعبية، وأنه “لكل شيء إذا ما تم نقصان”، وأن سقوط الحضارات أشبه بسقوط أحجار الدومينو، إذا ما سقطت الأولى، توالت الثانية، فالثالثة، ثم الرابعة، وهكذا دواليك حتى آخر حجر استطاع أن يتماسك؛ فينهار البُنيان من أساسه، ويستحيل أنقاضًا بعدما ظل لفترات طويلة حصنًا شامخًا سامقًا.
في كتابه المُثير للجدل والذي قُتل بحثًا ودراسةً وتفنيدًا “صدام الحضارات وإعادة صناعة النظام العالمي”، يُسلط السياسي الشهير الراحل والبروفيسور في جامعة هارفارد صامويل هنتنجتون، الضوء على واحدة من أهم النظريات الغربية في علوم السياسة، وإحدى الفلسفات التي أثارت موجات من الانتقاد والتأييد، وأحدثت حالة من الجدل الفكري لم تتوقف حتى يومنا هذا، وما زالت هذه النظرية تُدرّس في كليات ومعاهد العلوم السياسية؛ باعتبارها النظرية الأكثر تماسكًا وتطبيقًا على واقعنا المَعيش، خاصة مع تنامي التكنولوجيات الحديثة وتطورات الذكاء الاصطناعي، وتحكُّم الآلة في مختلف مجريات الحياة. وما يزيد من قوة هذه النظرية وذاك الطرح، ما يحدث في العالم الآن، وإعادة تكرار الأخطاء التاريخية، ودخول الدول العظمى في حالة حرب لا نهاية لها؛ سواء مُباشرة أو بالوكالة، بينما يئن فقراء العالم تحت وطأة غلاء المعيشة أو انعدم الغذاء أو تفشي الصراعات المُسلحة.
ورغم أنَّ هنتنجتون في نظريته “صدام الحضارات” يتوقع أن يسود الصدام القائم على الآيديولوجيا، وليس صدام القوى العظمى، إلا أن الواقع الراهن يُشير إلى أنَّ الآيديولوجيا باتت جزءًا لا يتجزأ من هذه القوى العظمى، فما كان يُحذر منه هنتنجتون؛ وهي الصراعات الدينية والثقافية، لا يمكن القول إنها في معزلٍ عمّا يحدث الآن، خاصة الحرب في أوكرانيا. فالرئيس الروسي فلاديمير بوتين ومنذ فبراير 2022، يقود حربًا كبيرة في أوكرانيا، يُؤكد من خلالها أنه يسعى لحماية “الأمن القومي الروسي”، ويتحدث هنا عن الروس باعتبارهم قومية وعرقية، لا دولةً بمفهومها المعاصر، ولذلك نراه يُبرر سيطرته على 4 مناطق أوكرانية، بأنَّه تحرك يهدف لحماية القوميات الروسية التي تقطن هذه المناطق، طبعًا إلى جانب هدفه الأول المُعلن سابقًا والمتعلق بمسألة الأمن القومي لبلاده، في ظل ما يراه اقتراب المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي “ناتو” من حدوده، ما بات يمثل خطرًا على القومية الروسية وليس فقط الدولة الروسية المعروفة باسم جمهورية روسيا الاتحادية.
وتتقاطع مع نظرية هنتنجتون “صدام الحضارات”، نظرية أخرى وضعها الأمريكي (من أصول يابانية) فرانسيس فوكوياما باسم “نهاية التاريخ” يعتقد فيها أن ما وصلت إليه الحضارة الأمريكية من تقدم وحرية وليبرالية اقتصادية، هي ذروة التطور البشري، وأنه لا حضارة بعد أمريكا، التي تتزعم منفردةً العالم، وتقوده وفق ثقافتها ونموذجها الخاص القائم على الديمقراطية الليبرالية! وفي المُقابل- وكما ذكرنا في المقال السابق- نجد أن الفيلسوف الروسي ألكسندر دوجين عرّاب الفكر السياسي الروسي حاليًا، يطرح “النظرية السياسية الرابعة” كبديل لتلك النظريات الغربية، يؤكد فيها أهمية التحرك نحو “بناء نظام عالمي مُتعدد الأقطاب”.
إلا أنَّ النظريات والنماذج الفكرية الغربية ترتكز في صلبها على نرجسية مقتية تمجد الذات، وترى في نفسها القدوة والأسوة، وتريد فرض هيمنتها وسطوتها على الجميع وفق رؤية أحادية للعالم، ولذلك رأينا المعايير المزدوجة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والحريات والديمقراطية وغيرها من التناقضات التي عرّت هذا النموذج الأمريكي، وكشفت سوءاته، ولم ينفعها أي ستار؛ بل تمادت في مساعيها لإجبار العالم على تبني فكرها، حتى لو كان شاذًا.
نظريات مثل “صدام الحضارات” و”نهاية التاريخ”، ظلت تمجّد في النموذج الأمريكي، لكنها تغافلت حتمية تاريخية سطرتها الأحداث منذ فجر الإنسانية، وهي أن الصراعَ أحد محركات التاريخ، وواحدٌ من العوامل الفاعلة في تطور البشر، وأن الأمة التي لا تقرأ التاريخ لن تتمكن من المواصلة في المستقبل، فلكل حضارة ذروة، حتى إذا بلغتها انهارت وشاخت وتآكلت، وصعدت حضارة أخرى، وليس كما يظن فوكوياما أنَّ أفول الحضارة الأمريكية يعني نهاية التاريخ. فالصراع والتناقضات الثقافية والفكرية والمعرفية بين الحضارات تمثل جميعها عناصر أساسية لبناء ونمو حضارة جديدة؛ الأمر الذي يفرض علينا ضرورة فهم ما يدور في العالم من صراعات، ليس فقط من باب أننا بتنا نتأثر بالحروب والصراعات، ولكن لمعرفة درونا الحضاري المرتقب، فالصراع وتناقضات المصالح لن تتوقف؛ بل إن الثابت في هذه الحياة هو التغيير، والذي هو سنة كونية. ولا ريب أن استيعاب حركة التاريخ بما فيه من صراعات لا تتوقف، يساعدنا على قراءة المستقبل ومن ثم اتخاذ القرار المناسب في وقتنا الحاضر، حتى لا يأتي على الدول يوم وتعض أصابع الندم.
ما يحدث الآن ليس سوى مخاض صعب لعملية ولادة نظام عالمي جديد، تأفل فيه شمس الهيمنة الأمريكية على العالم، نظام لا يعترف سوى بصاحب الرؤية والقوة معًا، وليس فقط القوة، نظام يرتكز على التعددية القطبية، وليس فقط الثنائية ولا الأحادية بطبيعة الحال. وفي هذا النظام تصعد حضارة جديدة تقودها القوى القادرة على قيادة العالم بعد انهيار الولايات المتحدة، وأرى أن هذه القوى ستتألف من الثلاثي: الصين وروسيا والهند، وقد يُضاف إليها بعد 10 أو 20 سنة القوة العربية، وتحديدًا الخليجية، الآخذة في النمو، والتحول لتكون بؤرة اهتمام العالم، وبوتقة الاستثمارات، بفضل ما تزخر به منطقتنا من مزايا استراتيجية وجيوسياسية.
وثمّة عوامل تُسرِّع من ولادة النظام العالمي الجديد، فإلى جانب الحرب الروسية الأوكرانية وشيخوخة أمريكا، وتخبط الكتلة الأوروبية الموحدة، وتنامي النفوذ الصيني، والتقدم الهندي، نجد أيضًا الصعود الملحوظ لليمين المتطرف في أوروبا، سواء على مستوى الحكومات والسياسيين أو الأفراد والمجموعات الحزبية، وكلهم لا يتورعون عن إظهار العداء والتطرف لكل ما يتعارض مع توجهاتهم؛ ولا يرون سوى ضرورة القضاء على الآخر، والنيل منه، لاغتياله معنويًا وإذا تطلب الأمر تنفيذ الاغتيال المادي!
ويبقى القول.. إنَّ أفول شمس الحضارة الغربية والأمريكية على وجه التحديد، قادم لا مُحال، وصراع الحضارات حتميّة تاريخية لا مفر منها، غير أن هذا الأفول وذلك الصراع لن يكون “نهاية التاريخ”؛ بل بداية لتاريخ جديد، ونظام عالمي في ثوب لا يُشبه ما قبله، وما يحدث من صراعات الآن ليس سوى مقدمة لما هو آتٍ من تغيرات جيوسياسية تتغير معها جغرافية عالم ما بعد الحرب الباردة والذي بات قديمًا.. فخريطة العالم الجديد تتشكل الآن كفسيفساء عملاقة، ولا يجب أن نُفوّت الفرصة- كعرب وخليجيين- من أن نكون جزءًا لا يُستهان به على خريطة العالم الجديد.
حاتم الطائي