في السنوات الأخيرة ازداد الحديث عن قصة ما حدث في زنجبار يوم الثاني عشر من يناير 1964، بعد أن ظلّ الحديث عن ذلك الحدث غائبًا عن الساحة الرسمية والإعلامية، إلا من أفواه من عايش الحدث – وهم كثيرون – حتى أخرج الباحث ناصر بن عبد الله الريامي دراسته القيّمة عن زنجبار بعنوان “زنجبار شخصيات وأحداث”، وركز على الفترة ما بين عامي 1828 و 1972، وكان هدفه من تأليف الكتاب – كما ذكر – هو التأمل في نهوض وسقوط دولة وُصفت يومًا بأندلس أفريقيا “ليس للتفاخر ولا للتعاظم؛ وإنما للاعتبار من دروس الأولين، وقد جاءت الإشارة إلى بعض السير الشخصية، لا لأجل التغني بالأمجاد، ولا للقول إنها الأصلح، وإنما للاعتبار منها كلما أمكن؛ وللاطلاع على شطر من تاريخ كاد أن يُنسى متعمدًا؛ وللوقوف على ما حدث في مذبحة – هي بحق – من أسوأ مذابح القرن العشرين”. وميزةُ الكتاب أنه أول كتاب لكاتب عُماني عن أحداث زنجبار وعن ضحايا الانقلاب، الذين تفاوت عددُهم عند الكثيرين من 5 آلاف إلى 20 ألفًا عند آخرين، فيما ذكرت بعض الصحف الغربية أنّ عدد الضحايا كان ما بين ألفين إلى أربعة آلاف شخص. وقد اعتمد المؤلف على لقاءات شخصية مع الشخصيات التاريخية الفاعلة، منهم السلطان جمشيد بن عبد الله بن خليفة، والكثير من الباحثين والمهتمين بالشأن العماني في أفريقيا، كما كان له زيارات للأرشيف الوطني الزنجباري، وكذلك اعتمد على الوثائق البريطانية وغيرها، وكلّ ذلك أعطى لكتابه تلك القيمة التاريخية، لأننا نجد أنّ معظم من كتب عن زنجبار اعتمد في معلوماته على المصادر الغربية فقط، وهي التي تناولت أحداث زنجبار من وجهة النظر الغربية؛ فكان لها ذلك التأثير على الرأي العام.
ونحن في عُمان نعاني بصفة عامة من قلة التوثيق؛ فتاريخُنا موجودٌ أغلبه في المصادر الأجنبية؛ البريطانية والألمانية والبرتغالية والتركية والهندية والأمريكية والفرنسية وغيرها، وهي بقدر ما تعطي لمحات عامة عن التاريخ العماني، إلا أنها تتحدّث على لسان كاتبيها ولا تمثل وجهة النظر العُمانية، ومع ذلك فإنّ من ينقّب عن التاريخ العماني في تلك المصادر سيجد الكثير. والعجبُ كلّ العجب أنّ العُمانيين من أغنى شعوب المنطقة تجاربًا، لكن أصحاب تلك التجارب ذهبوا فذهب معهم التاريخ وذهبت معهم تجاربهم؛ ولنا أن نتصوّر كيف لو أنّ أهل صور وثقوا مثلا تجارب رحلاتهم البحرية إلى الشرق والغرب وأفريقيا؟ وكيف لو أنّ من عاش أحداث الانقلاب في زنجبار وثق لتلك الفترة؟ وكيف لو أنّ من عاش في الشرق الأفريقي كتب عن تلك التجربة؟ وكيف لو أنّ من عاشوا في الخليج كتبوا عن تجربتهم؟
حقيقةً منذ فترة طويلة كان يدور في ذهني سؤالٌ، إلا أني احتفظتُ به لنفسي، خوفًا من إيذاء مشاعر البعض، خاصةً أهالي ضحايا الانقلاب في زنجبار، وهو: هل فعلًا وصل عدد الضحايا إلى 20 ألفًا؟ وما هو مصدر هذا الرقم؟ فمن خلال قراءتي لكتاب ناصر الريامي ولبعض الكتب الأخرى، وجدتُ أنّ عدد الضحايا أقل من هذا الرقم بكثير، وعندما كنتُ أسأل البعض هل لك قريبٌ قُتل في الأحداث؟ كنتُ أتلقى إجابات عائمة ضبابية، كأن يقال لي “إنّ جارهم قُتل” أو أن تتكرر بعض الأسماء عند الكثيرين، في إشارة إلى أنّ العدد مبالغٌ فيه. بالتأكيد ما جرى في زنجبار كان مأساة إنسانية كبرى – لا ريب على ذلك – وفي اعتقادي أنّ الاهتمام الآن بتوثيق أسماء الشهداء واجب، لأنّه إذا تُرك الأمر هكذا، سيأتي يومٌ على الناس ينسون ما حدث، بل وسيرونه من الأكاذيب لعدم كفاية الأدلة. وقد أحسن فريقٌ إيطالي صنعًا، عندما وثّق قتل الأسرى العرب ودفنهم في مقابر جماعية، وتم التصوير من على متن طائرة مروحية لعمل فيلم اسمه “Africa Addio”، فكان هذا المقطع من الفيلم هو الوثيقة المرئية الوحيدة المعروفة عن عمليات القتل تلك، وكان الإثبات المصوّر الوحيد على تلك الجريمة البشعة.
في الطبعة الجديدة من كتاب “زنجبار شخصيات وأحداث” يقول ناصر الريامي في صفحة 308 “إذا أردنا أن نستعرض أمثلة لحالات القتل والتعذيب التي مورست ضد الجنس العربي تحديدًا، فلن يسعنا المقام ولأدّى بنا ذلك حتمًا إلى الابتعاد عن مضمون الكتاب”، لكن يبدو أنّ الظروف الآن تحتّم تناول تلك الأمثلة، حتى لو في كتب أخرى مستقلة ومن كُتّاب آخرين؛ فليس الأمر مقصورًا على ناصر فقط. يقدّم ناصر في الصفحة نفسها من الكتاب قصةً لها مغزاها، وهي بحاجة إلى التركيز، إذ أنها إشارةٌ لقصص كثيرة من النوع نفسه؛ فالقصةُ التي وقعت في قرية بامبي تقدّم مثالا واضحًا للكره العنصري البغيض والدفين في نفوس الأفارقة تجاه الجنس العربي والذي زرعه الإنجليز. فعدا عن الأسلوب الوحشي الذي استُخدم في إزهاق أرواح أطفال أبرياء، “فإنّ الذي يبعث في النفس أسى وحسرة، أن تعلم أنّ الذي نفذ هذه الجريمة النكراء هو معلم هؤلاء الأطفال في مدرستهم؛ فعندما امتدت أعمال الشغب والعنف إلى تلك القرية، رأى المعلم علي محسن الشيرازي بعض تلاميذه يستحثون السير في الطريق، يبحثون عن ملاذ يؤويهم ويجنّبهم مخاطر الشغب، فاعترض طريقهم، مستغلا معرفتهم به، فأوهمهم بأنه سيؤويهم في مكان آمن، لم يكن ذلك المكان سوى تنور أرضي يستخدمه العامة في تجفيف ثمار النارجيل، وما كان ليخطر على بال الأطفال أنّ معلمهم سيغدر بهم، فما أن أنزلهم إلى قعر التنور حتى رفع السلم منه، وأخذ يسكب عليه وقودًا، ثم ألقى عليهم عود ثقاب مشتعلا، دون أن يرده عن عمله البربري بكاء الأطفال وصرخاتهم، بل وتوسلاتهم لهم بالشفقة والرحمة، ذلك التنور كان قبرًا لأولئك الأولاد، لا لأجسادهم وإنما لرمادهم”. ولقد أحسن الريامي في توثيق القصة وتوثيق اسم المعلم، ولكن للتاريخ، فإنّ الأمر يحتاج إلى التركيز على الضحايا من الأطفال، كما في قصص أخرى كثيرة تشبه هذه. ويمكن الاستماع إلى تفاصيل هذه القصة كاملة وإلى الكتاب صوتيًا عبر تطبيق “عين” التابع لوزارة الإعلام العُمانية بصوت الزميل محمد المرجبي.
لا يمكن أن يُفصل تاريخ زنجبار عن التاريخ العماني، ولا يمكن أن يُذكر التاريخ العماني دون العروج إلى حقبة زنجبار، وليس معنى هذا التغني بالماضي وبالأمجاد، وإنما هو توثيق مهم لهذا التاريخ؛ فكثيرون ممن عاشوا فترة الانقلاب ذهبوا إلى بارئهم دون أن يوثقوا لتلك الفترة، ومن ذلك مثلا أسماء الضحايا وعددهم، والكثير من قصص الانتصار والانحسار. وكما قلتُ سابقًا وأكثر من مرة إنّ الوجود العماني في الشرق الأفريقي، يوفّر مادة غنية وثرية للباحثين والكتّاب والمؤرخين والشعراء والروائيين والمسرحيين وغيرهم، فقد كانت تلك الفترة إنسانية بما حملته من قصص مفرحة ومحزنة وبطولات حقيقية ووهمية، كأي تجربة إنسانية أخرى.
زاهر بن حارث المحروقي