عندما بشَّر أقطاب قوى الامبريالية الدولية بما سُمِّي الفوضى الخلاقة في المنطقة عام ٢٠٠٥م كانوا قد فرغوا من وضع مخططهم الاستعماري وحددوا البلدان المستهدفة، وكان الحديث عن حقوق الإنسان والقضايا الإنسانية، فوضعت تشكيلة اللاعبين الأساسيين للعبث بمقدرات الشعوب وضرب الأمن والاستقرار في عدة دول عربية. ولم يكن ذلك خافيا على أحد سوى فئات المغرر بهم الذين انساقوا وراء تلك الشعارات، وهي بالفعل كانت شعارات براقة ووعودا زائفة هدفها تجاوز ضرب الأمن والاستقرار لينسف حقوق الإنسان في الحياة الكريمة، وهو ما حدث للأسف الشديد لتنفجر الأوضاع، وتم ضخ المليارات لتنفيذ هذا المخطط وهُيِّئت أجهزة إعلام عالمية وإقليمية لتنفيذ هذا المشروع لتقلب الحقائق والمفاهيم ويجند الملايين من الإرهابيين الذين تلقوا كل ما يحتاجونه من تدريب وضمانات ووعود. كما أطلقت صرخات على منابر دينية تزكي هذه الفوضى، فلم يغب الأمن والاستقرار فقط، بل غابت الحياة الكريمة برمَّتها. فكل ما حدث لم يكن عشوائيا أو بالصدفة على الإطلاق وقد تحدثنا عن ذلك منذ عام ٢٠١١م كما أشار إليه العديد من المراقبين. لكن تلك الشعارات الزائفة التي غررت بالكثير من أبناء الشعوب أدَّت إلى دمار الأوطان في ظاهرة استغل فيها ظروف الإنسان لتنفيذ ذلك المشروع الخبيث، ولله الأمر من قبل ومن بعد.
شعارات الإنسانية التي رافقت تلك المرحلة تحت ستار أهداف خبيثة غابت اليوم في مواجهة الحقيقة وكارثة الزلزال المدمِّر الذي ضرب كلا من سوريا وتركيا فجر الاثنين الماضي ٦ فبراير ٢٠٢٣م لتصل تأثيراته إلى عدة دول أخرى. والمفارقة هنا تتلخص في أن رفع شعارات الإنسانية وحقوق الإنسان والتباكي خلف شاشات الإعلام ومنابر الأمم المتحدة لتمرير ذلك المشروع اليوم تتكشف في الكارثة الإنسانية التي تتعرض لها سوريا، حيث غاب الكثير من الدول المنادية بحقوق الإنسان عن سوريا وهي نفسها التي كرَّست تلك المفاهيم المقلوبة عبر خطوط تأثيرها السياسية والإعلامية، ولم نجد هبَّتها الإنسانية التي تدَّعيها بحجج وذرائع مختلفة رغم أن الوضع في سوريا اليوم لا يحتمل أي تلكؤ أو تأجيل، فهناك آلاف القابعين تحت الأنقاض في ظروف مناخية شديدة من ثلوج وأمطار وهزات ارتدادية فاقمت الأوضاع سوءا، وفاقت قدرات الدولة على احتوائها، ولم نسمع صوت الإنسانية تلك الشعارات التي تدثرت بها تلك الدول وفي مقدمتها الدول الغربية التي كانت رأس الحربة في ذلك المشروع التخريبي، مما يُمثِّل حالة من الازدواجية عهدناها في المشاهد السياسية. نعم لكننا لم نعهدها من قبل في الحالات الإنسانية التي تتطلب اليوم هبَّة عالمية لمجابهتها وسباقا مع الزمن لإنقاذ ما يمكن إنقاذه في مثل هذه الكوارث الطبيعية.
ازدواجية المعايير تبرز في الحالة السورية، حيث لم يصل حتى الآن ـ وللأسف الشديد ـ سوى عدد محدود من فرق الإغاثة والمساعدة الدولية، فغابت الدول الغربية عن بكرة أبيها، كما غابت بعض الدول العربية المقتدرة للأسف عن المشهد الإنساني والمساندة العاجلة للأشقاء في سوريا، وهذه الدول التي كانت تتباكى لتصوير المشهد الإنساني في سوريا خلال الأزمة المفتعلة منذ عام ٢٠١١م لتجسد مشهدا ازدواجيا بأقبح صوره، وهو موقف مخزٍ في ظل هذه الكارثة المهولة التي ضربت الجمهورية العربية السورية.
نعم هناك هبَّة دولية واضحة لإغاثة تركيا، وهذا أمر مهم بلا شك، ولكن في مثل هذه الظروف الإنسانية المأساوية التي تمرُّ على سوريا والتي تقتضي تجاوز كل الخلافات السياسية، وتسخير كل جهود الإغاثة الدولية، فهؤلاء العالقون تحت الأنقاض والمتضررون بفعل الزلزال من أبناء الشعب السوري هم أنفسهم الذين تم توظيف المشهد السياسي والإعلامي الدولي بدعوى تقديم المساعدة لهم لتمرير مخطط الفوضى الخلاقة، هؤلاء اليوم يئنون تحت الأنقاض بانتظار الإغاثة الإنسانية للتكفير عما لحق بهم من جرائم الإرهاب، فمتى سيتم تدارك هذا المشهد المختل إنسانيا وتسجيل موقف إنساني حقيقي من قبل تلك الدول التي أحجمت عن تقديم المساندة الإنسانية العاجلة، فهل الإنسان في سوريا غير مسجل في قوائم الإنسانية لدى هذه الدول؟!!
الحصار الجائر المفروض على سوريا خلال السنوات الماضية الذي يكمل مخطط الامبريالية والصهيونية يجب إنهاؤه على الفور من أجل القِيَم الإنسانية وتقديم الإغاثة العاجلة إلى سوريا. ولا شك أن إقدام دول عربية وأخرى حليفة لسوريا على كسر الحصار أصبح من الضرورات الماسَّة، وكان من الأجدر بجميع دول العالم التصدي لهذه الكارثة الإنسانية، فكفى ما تعرض له أبناء الوطن السوري من إرهاب وحصار ودمار، وقد حانت لحظة الحقيقة للتكفير عن تلك الذنوب، وبات على المجتمع الدولي بجميع هيئاته الإنسانية أن تهب لانتشال الإنسانية في سوريا مما ألمَّ بها. وهنا ينبغي أن تدرك كافة دول العالم أن القِيَم الإنسانية لا تتجزأ ولا تتوزع وفقا لحسابات خاصة، ففي ذلك تجاوز لكل المواثيق والأعراف والقوانين الدولية، وعلى جميع هيئات الإغاثة في العالم ومنظمات المجتمع المدني التفاعل مع هذا المشهد الإنساني في سوريا الذي تشكل بفعل كارثة الزلزال، وبات من الضرورة العاجلة تنسيق جسور جوية من مختلف دول العالم لتقديم العون لسوريا، وعلى الأمم المتحدة تحمُّل مسؤولياتها الإنسانية، فهذا الابتلاء العظيم الذي تعرضت له سوريا هو اختبار للقِيَم الإنسانية التي تتشكل منها النظم والقوانين الدولية في سبيل حياة كريمة للإنسان.
ما حدث في زلزال سوريا ـ تركيا بلا شك هو ابتلاء من الله سبحانه لعباده المؤمنين وبالصبر والشكر والذكر والتقوى، وسوف يتجاوز الأشقاء في سوريا وتركيا هذا المصاب الجلل الذي أدمى القلوب، ولا نملك إلا أن نتقدم بخالص التعازي والمواساة للأشقاء في سوريا وتركيا والدعاء لهم بأن يفرج الله عنهم، ولا شك واجبنا يتجاوز ذلك ونحن معكم أيها الأشقاء بكل ما تقتضيه الكلمة والمسؤولية والواجب، فاصبروا وصابروا واستعينوا بالله والصلاة ومن يتوكل على الله فهو حسبه سيجعل الله بعد عسر يسرا، لله الأمر من قبل ومن بعد والحمدلله على كل حال.
خميس بن عبيد القطيطي