وأنا أستعد لكتابة إحدى المقالات، ألقيتُ نظرة سريعة على بعض الكتب كمراجع علها تُسعفني؛ وكان من ضمن هذه الكتب كتاب «محاوراتي مع السادات» للصحفي الراحل أحمد بهاء الدين، وهو كتابٌ صدر عن دار الهلال المصرية وأهدانيه الزميل المذيع محمد بن مرهون الحسني فور صدوره عام 1987، إبان فترة دراسته الجامعية في مصر. ورغم أني قرأتُه حينها إلا أني عدتُ إليه من جديد وكأني أقرأه لأول مرة. وميزةُ الكتاب أنّ مؤلفه يقدّم للقارئ أهم المفاتيح لمعرفة القرارات التي اتخذها الرئيس السادات في مصر في فترة وجيزة جدًا من حكمه، بلغت عشر سنوات، إلا أنّ تلك القرارات كان لها التأثير البالغ على الوضع الداخلي في مصر مثل «سياسة الانفتاح»، وعلى الوضع السياسي في المنطقة، خاصةً بعد زيارة السادات للقدس وما أعقبها من اتفاقيات كامب ديفيد، التي كانت السبب الرئيسي لكلّ ما نراه ونشاهده الآن في الوطن العربي من الهرولة لإسرائيل تحت مسمى السلام. يقول بهاء الدين في مقدمة الكتاب: «ليس مقصودًا تسجيل كلّ ما دار من حوارات ممّا يتعلق بمئات الأحداث ومئات الأشخاص؛ ولكنني عمدتُ إلى الانتقاء الشديد لما تصورتُ أنه يُلقي ضوءا مباشرًا على تفكير الرجل ودوافعه، وطريقة نظرته للأشياء والأشخاص من الزاوية التي أتيح لي أن أراها بشكل مباشر».
كان رأي بهاء الدين أنّ الأوضاع التي كشفت عنها سياسة الانفتاح في مصر كانت بداية الشرخ الحقيقي بينه والسادات، وهو الشرخ الذي أخذ في الاتساع بعد سنوات، كتب فيها بهاء الدين مرارًا ضد ما أسماه سياسة «السداح مداح» بمعنى لا حسيب ولا رقيب، داعيًا إلى التنمية والبناء، والاعتماد على النفس، وعدم تكرار مأساة التبعية الاقتصادية، «لكنني كنتُ نغمة نشازًا.. كنتُ أقول للسادات عن يقين، إنّ أسلوب المساعدات الأجنبية نحونا ليس هو الأسلوب البريء المطلوب؛ إنهم لا يريدون لمصر أن تغرق؛ فغرقُ مصر يمتد أثره المدمر غير المعروف إلى المنطقة كلها، وهم في نفس الوقت لا يريدون لها أن تقف على قدميها من جديد، ففي كلّ مرة وقفَتْ على قدميها صارت هي العامل المؤثر في المنطقة، إنهم يريدونها طافية على سطح الماء فحسب، لا تنزل رأسها عن سطح الماء فتختنق، ولا ترفع رأسها عن سطح الماء فتتنفس بحُريّة».
وإذا كان كتاب «محاوراتي مع السادات» ليس الوحيد الذي تناول فترة حكم السادات لمصر، إذ أصدر الراحل محمد حسنين هيكل كتابًا مهمًا أثار ضجة كبرى وقت صدوره، وهو «خريف الغضب» عن قصة بداية ونهاية السادات، فإنّ ما ميّز كتاب بهاء الدين أنه جاء تشريحًا لسياسات الرئيس الراحل من خلال جلسات طويلة جمعت الإثنين، امتدت إحداها إلى أكثر من اثنتي عشرة ساعة. يقول بهاء الدين إنّ الخلاف بينهما كان شديدًا حول الانتفاضة الشعبية في مصر عام 1977، بسبب غلاء الأسعار، والتي أصرّ السادات أن يسمّيها «انتفاضة الحرامية»، ورفض الأخذ بمقترحات بهاء الدين لحلّ الأزمة، الذي كان رأيه «إنّ الطريق الأسلم هو أن يتصرّف السادات على أنّ العاصفة قد مرّت وأصبحت وراءه، وأن يحشد عددًا أكبر من الطاقات لوضع سياسة اقتصادية أكثر تماسكًا وواقعية واقترابًا من مشاعر الناس»؛ فيما كان السادات يريد انتهاج سياسة بالغة العنف من الردع والشدة، وأنه «لا بد من الضرب بشدة وبلا هوادة». ويورد بهاء الدين في فصل «ترزية القوانين لعلاج انتفاضة الحرامية»، النقاشات المطولة والجدال الشديد بينهما، حتى ضاق السادات ذرعًا من بهاء الدين، بعد أن أدرك بوضوح أنّه لن يشارك في كتابة مشروع خطاب يلقيه الرئيس، وهو السبب الذي جعل السادات يستدعي بهاء الدين من الكويت التي كان يرأس فيها تحرير مجلة «العربي». ويقول بهاء الدين، «إنّ السادات سكت طويلا، ثم قال لي في لهجة رقيقة ومجاملة: طيب يا أحمد تقدر تروح تستريح، واعتبرْ أنك لا صلة لك بهذا الموضوع كله. وودّعني – لدهشتي – في مجاملة شديدة، وإن كنتُ أيضًا قد حملتها على محمل الوداع الذي لا لقاء بعده». وفي أقل من أسبوع من ذلك اللقاء، ظهر الرئيس السادات على التلفزيون فهاجم «انتفاضة الحرامية» بشدة بالغة، وأعلن عن القوانين الاستثنائية العجيبة التي أجرى عليها استفتاء «أعجب وأغرب» كما سماه بهاء الدين.
من يقرأ محاورات بهاء الدين مع السادات لا يملك إلا أن يُعجب بالرجل؛ فرغم علاقته بالرئيس، الذي اعتمد عليه في كتابة بعض خطاباته، إلا أنّ الرجل ظلّ ناصحًا أمينًا ولم يدخل في الصراعات، ولم يفعل كما فعل بعض الصحفيين الذين كانوا مخبرين ضد بعضهم البعض، وظلّ بهاء الدين على مسافة كافية من السلطات الحاكمة، رغم إعجابه الشديد بجمال عبد الناصر وأفكاره، وكان معروفًا بحرصه الدائم على حرية الصحافة، وكتب في إحدى يومياته منتقدًا أوضاع الصحافة: «إنّ الحكومة تتعامل مع رؤساء المؤسسات الصحفية بمنطق أن يؤيّدوها إلى أقصى حد، مقابل أن يفعل رؤساء المؤسسات ما يريدون». ومكمنُ الإعجاب بالرجل أنه لم يسع إلى مكسب شخصي، لذا ملك الجرأة في أن يتحدّث وينصح بإخلاص، ويقول: «كنتُ أتحدّث أمام السادات بصراحة كاملة عن كافة الأمور العامة مهما كانت دقتها، وكان بعض أهل السلطة يبدون دهشتهم وأحيانًا استنكارهم من مصارحتي الكاملة للسادات، كنتُ أقول لهم إنّ السادات يعرف آرائي بالتفصيل في كلّ الأمور والسياسات والاتجاهات جيدًا، ولو قلتُ له أيّ شيء يخالف معتقداتي المدونة لديه، لنزلتُ من عينيه، ولم يصدقني؛ فالأحسن أن يكرهني إذا شاء ويعتبرني صادقًا».
ولكن ما الذي جعل أحمد بهاء الدين صريحًا إلى هذه الدرجة، رغم علمه بأنّ صراحته قد تغضب الرئيس السادات؟! كان الرجل حرًا وكان صادقًا مع نفسه؛ فما كان يقوله في مقالاته كان يقوله في مجالسه الخاصة، حتى وإن كان أمام الرئيس السادات، وكان نزيهًا في سيرته المالية، ولم يقبض مبالغ سرًا، وكلُ ذلك أعطاه مساحة كبيرة من الحُريّة، كان لديه رؤية لرسم خريطة جديدة لمصر، ولعلاقات مصر مع أشقائها العرب، وهي الأفكار التي ركز عليها في كلّ مقالاته وكتبه التي بلغت 37 كتابًا، منها كتاب «محاوراتي مع السادات». وقد يرى البعض أنّ هذه المحاورات قد ولى عهدها، لكني أقول إنّها مهمة جدًا لمن يهتم بتاريخ المنطقة، لأنها تحمل مفاتيح معرفة الرئيس أنور السادات الذي طبّق في كلّ قراراته، ما عُرف بـ«سياسة الصدمة الكهربائية»، ثم هي تؤكد أنّ من يسعى إلى المساعدات الأمريكية، فإنه يقدّم مقابل ذلك الكثير، أهمّه أنه يرهن قراره ووطنه ومقدرات بلاده لغيره.
إنّ من يهتم بمعرفة الرئيس السادات وقراراته وكيف اتخذها، لا بد أن يقرأ الشهادات المتعددة عنه من وجهات نظر متعددة، لأنّ الرئيس السادات بسياساته وقراراته غيّر تاريخ المنطقة، وفي هذا السياق هناك من يرى أنّ الكاتب الراحل محمد حسنين هيكل عندما كتب كتابه الشهير «خريف الغضب» كان يُعبّر عن ضغينة شخصية ويهدف من وراء ذلك، إلى الانتقام من الرئيس السادات الذي سجنه ضمن حملة اعتقالات سبتمبر 1981؛ وهو رأيٌ قد نتفهّمه، لأنّ الكتاب كان قاسيًا على السادات بكلّ المقاييس، إلا أنّ هدفه كان «رواية قصة سياسية كبرى كان ضروريًا أن تُروى، إذا أريد لنتائجها المأساوية ألا تتكرر في المستقبل» – كما قال هيكل -. وأرى أنّ هذا هو ما فعله أحمد بهاء الدين في كتابه «حوارات مع السادات»، بمعنى أنّ الخلافات بين الإثنين – وكثيرين غيرهما – مع السادات، كانت بسبب اختلاف وجهات نظر واختلاف في الرؤى.
وأنا أغوص في فصول كتاب «حواراتي مع السادات» كثيرًا ما دارت في ذهني بعض الأسئلة، منها مثلا، ماذا لو أخذ الحكّام والحكومات وبقية الأجهزة الحكومية بآراء أبنائها من المفكرين والمثقفين وأصحاب الرأي؟ ألن يكون ذلك ضمانًا للنجاح وعدم التخبط؟!
زاهر المحروقي كاتب عماني مهتم بالشأن العربي ومؤلف كتاب «الطريق إلى القدس»
جريدة عمان : عدد الأثنين 30 أبريل 2023م