لا يزال النوع الحديث للقصة القصيرة في مصر شاباً نوعاً ما، نشأت القصة في مطلع القرنين التاسع عشر والعشرين، بعد صحوة الشعب المصري على الحياة سياسية والاجتماعية النشطة على النضال من أجل الاستقلال الوطني، فكان التطور السريع للأدب بأشكاله الحديثة، التي تختلف كثيراً عن تلك التي كانت موجودة في العصور الوسطى، خلال فترة ازدهار الأدب العربي الكلاسيكي.
كانت مصادر تشكيل هذا النوع، من ناحية، المقامة، أو القصة القصيرة الكلاسيكية، ومن ناحية أخرى، مقال صحفي – قصة عن موضوع موضعي، وأخيراً المصدر الذي كان له أعظم التأثير – القصة القصيرة الأوروبية في أواخر القرن التاسع عشر – أوائل القرن العشرين.
لم تتطور محاولات إحياء نوع المقامة أكثر من ذلك، لأن تقاليد الشكل الكلاسيكي حدت من تنوع المحتوى الحديث.
فقد ورثت القصة المصرية روح الموضوعية المميزة للصحافة، واهتمامها الشديد بمشكلات اليوم، كما جذبت كفاءة أسلوب الصحيفة كتاب القصة القصيرة إليها، بالتالي، ليس من قبيل المصادفة أن العديد من الكتاب المعاصرين بدأوا حياتهم الإبداعية في الصحف والمجلات، وحتى يومنا هذا، يجمع الكثير منهم بين الإبداع الأدبي والصحافة، وأكبر مثال على ذلك المبدع أنيس منصور.
أما تأثير القصة القصيرة الأوروبية والأدب الغربي بشكل عام، فهو لا يزال قوياً كما كان في بداية القرن، إذا كان أي من الروائيين من الجيل الأكبر قد اعترف عن طيب خاطر بموباسان وتشيخوف كملهمين لهما، فإن الأجيال اللاحقة من الروائيين تعلمت الكثير وأخذت الكثير من غوركي وهمنغواي، من كامو وكافكا وغيرهم، ومع ذلك، فقد تغيرت طبيعة التأثير بشكل كبير، مثل التقليد المباشر، وإعادة سرد المؤامرات بدون فن، وتغيير طفيف في الطريقة المصرية، ما أفسح المجال لتقليد الشكل والأسلوب واستعارة الأفكار والحالات المزاجية.
وجدت جميع التيارات الأدبية الغربية الحديثة طريقها إلى القصة المصرية، في بعض الأحيان، في إطار قصة قصيرة واحدة، يكون تأثير الحركات الأدبية المختلفة، من الواقعية إلى التجريدية، مختلطاً بشكل غريب، لكن هذا ليس نتيجة التأثير من جهة والتقليد من جهة أخرى، هذا أيضاً نتيجة للتطور السريع للأدب المصري، حيث مر بوتيرة متسارعة بنفس المراحل التي مر بها الأدب الأوروبي في تطوره، يحدث هذا التطور في صراع حاد مستمر بين الاتجاهات الأدبية والمدارس، بدعم من قوى اجتماعية وسياسية معينة في مصر المعاصرة، إنها تعرف تقلباتها المرتبطة أيضاً بالوضع الاجتماعي والسياسي في البلاد في مراحل مختلفة من تاريخها.
طوال النصف الأول من القرن كان هناك صراع عنيد من أجل الواقعية في الأدب المصري، ففي عشرينيات القرن الماضي، ارتبط جيل من الكتاب أيديولوجياً بالثورة القومية البرجوازية المصرية عام 1919، محمد تيمور، طاهر لاشين، الأخوين عيسى وشحاته عبيد، وكذلك عميد الأدب العربي، طه حسين، محمود تيمور، توفيق الحكيم، يحيى حقي، الكتّاب الذين أرسوا أسس الواقعية في جميع الأنواع الأدبية بما في ذلك القصة القصيرة.
تعتبر قصص “العودة” لمحمود تيمور و”الشيخ البلبيسي” لتوفيق الحكيم على سبيل المثال، نموذجية لعمل هؤلاء الكتّاب. إنها أمثلة على الواقعية المصرية عندما كانت لا تزال في مهدها وكانت وصفية في الغالب، دون الادعاء بأنها تحليل متعمق للواقع، فقد وضع محمود تيمور، الذي استلهم أعمال تشيخوف، على نفسه مهمة “بصدق ودون زخرفة يصور حياة المصري البسيط” في بداية نشاطه الأدبي، حيث قام بهذه المهمة لما يقرب من خمسين عاماً، وأبدع العديد من القصص، من أبطالها الفلاحون والحرفيون والمسؤولون الصغار وسكان أفقر أحياء القاهرة، تتميز قصصه دائماً بالتعاطف الصادق مع الطبقات البسيطة.
قصة “الشيخ البلبيسي” لتوفيق الحكيم هي وصف لأعراف المجتمع المحلي في مصر في بداية القرن، هذه الأخلاق معروفة للكاتب، فقد عمل كمسؤول قضائي في عدد من المدن بالمحافظات المصرية، وقام بتجميع مواد لعدد كبير من القصص.
يحيى حقي، الذي يصف أيضاً بشكل أساسي حياة الطبقات المتوسطة والفقيرة، يتميز بديمقراطية عظيمة ويقترب أكثر من أبطاله، لذلك، فهو قادر بشكل أفضل على نقل السمات الشخصية لشخص بسيط، كما أن روح الدعابة المتأصلة في الكاتب تنقذه من العاطفية، نجده يتعاطف مع أبطاله، وفي نفس الوقت يسمح لنفسه بالضحك بلطف على نقاط ضعفهم البشرية.
يحيى حقي هو متذوق جيد في الحياة اليومية، وغالباً ما تشبه قصصه، المليئة بالتفاصيل اليومية الخلابة، صوراً من النوع.
بالإضافة إلى ذلك، تم تطوير الاتجاه الديمقراطي، الذي وجد أقوى تعبير له في أعمال يحيى حفي، من قبل الكتاب الذين دخلوا الأدب في أواخر الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي، حيث أصبحت الأجواء الاجتماعية والأدبية المفعمة بالحيوية في هذه الفترة، وبذات الوقت المشبعة بالصراع الأيديولوجي الحاد، أرضاً خصبة لظهور عدد كبير من الكتاب الجدد، الجدد في الروح وأسلوب الأعمال، على سبيل المثال، لعب عبد الرحمن الشرقاوي وعبد الرحمن الخميسي ويوسف إدريس ويوسف الشاروني وعدد من الكتاب الآخرين دوراً رائداً في القصص القصيرة لهذه السنوات.
تُرجمت أعمال العديد منها وانتقلت إلى العالم، بفضل أنشطتهم، أصبحت الواقعية الاتجاه الرائد في الأدب المصري في الخمسينيات من القرن الماضي، جلبوا معهم نظرة جديدة على مهام الأدب والغرض منه، يطالبون، بدلاً من التعاطف السلبي مع الفقراء والجهل، بالخدمة الفعالة لقضية تحريره، والنضال من أجل حياة أفضل، حيث تتميز باهتمام متزايد بالموضوع الاجتماعي، لقد أدخلوا بطلاً مقاتلاً نشطاً جديداً في أعمالهم، وحاولوا التقاط علامات التغيير في الحياة المحيطة، مما يشير إلى ظهور علاقات اجتماعية جديدة في مصر.
في بعض الأحيان، ربما كان بعضهم قد تقدم قليلاً في تصوير جوانب جديدة من الحياة وبالغوا إلى حد ما في وعي أبطالهم والفلاحين والمفكرين، لكن هذا نابع من إيمان حقيقي بقرب التغييرات الجذرية في كل من الريف والمدينة، حاولوا رصد علامات التغيير في الحياة المحيطة، مما يشير إلى ظهور علاقات اجتماعية جديدة في مصر.
وتمثل هذا الاتجاه في المجموعة قصص “شربات” ليوسف الشاروني، و “الحجر الذي سقط من السماء” و “نهاية الشيخ تهامي” لصلاح حافظ، و “منى من الجنة” ليوسف إدريس، “ماكلر” لألفريد فرج. هذه القصص، التي يعود تاريخها إلى أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات، تشهد على السمات الجديدة نوعياً للقصة القصيرة المصرية، يجمعهم الموقف الاجتماعي العام للمؤلفين، والإيمان بالقوة الأخلاقية للرجل العادي، والطابع النشط للشخصيات، لم يعد أبطالهم مخلوقات متواضعة ومضطهدة، بل أناس يستطيعون الدفاع عن أنفسهم، على سبيل المثال، هي بطلة قصة يوسف الشاروني، الخادمة شربات، في قصة “شربات”، المكتوبة حول موضوع القصة القصيرة المصرية التقليدية المتمثلة في الطفولة المدمرة والأساتذة القاسيين والشتائم غير العادلة، تتمتع شربات الصغيرة بشخصية عنيدة ومستقلة، رغم تهديدات المالك وضرب الأب، لا تريد أن “تعمل خادمة” بل تريد الذهاب إلى المدرسة.
هناك أيضاً، العلامات الجديدة في حياة القرية المصرية، والتغلب على الخرافات القديمة – هذا هو الموضوع الرئيسي لقصص صلاح حافظ. في مقدمة كتابه للقصص، كتب أن الناس أنفسهم اقترحوا حكاياتهم عليه، يصف بروح الدعابة حلقة من طفولته – ظهور أول طائرة في مدينة الفيوم والاضطراب الذي أحدثه هذا الحدث (“حجر سقط من السماء”)، وقصة العم الفلاح العجوز رمضان، وخيبة أمله في الشيخ تهامي، لا يسعها إلا أن تسبب ابتسامة، حيث لم يكن من السهل على الفلاح العجوز أن يتغلب على تقديسه للشيخ، لكن الظلم ووعي صلاحه يعطي رمضان العزم على اتخاذ خطوة جريئة.
وتظهر شجاعة أكبر من قبل قصص الكاتب العظيم يوسف إدريس الذي يقول إنه على الرغم من الحاجة الأبدية للنضال اليومي من أجل قطعة خبز، يعرف الناس كيف يقدرون النكتة ويقدرونها بما لا يقل عن الخبز.
ولطالما قلت وسأقول دائماً إن مصر أم الدنيا، شهدنا فيها على أسماء حفرها التاريخ وخلّدها، بالدين والأدب والتاريخ والفن وكل شيء، فمن يريد أن يحقق ذاته، عليه أن يسكن مصر، فهي تصقل الإنسان، بسيطة وثرية بالثقافة والحياة، هي بلد لا تنام خيرها في ناسها، وناسها هم كل الخير.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.