تعرف الصين جيداً أنها ، وهى تطمح لأن تصبح قوة عالمية شريكة فى قيادة النظام العالمى، أنها مطالبة أولاً بأن تفرض نفسها كـ “قوة إقليمية مهيمنة” فى الإقليم الذى هى جزء منه، أى إقليم شرق وجنوب آسيا أو ما يعرف فى الاستراتيجية العالمية بإقليم المحيطين الهادى والهندى. أول هذه الشروط أن تكون القوة الأقوى فى الإقليم، وثانيها أن تكون قادرة على منع وجود أو ظهور أى قوة أخرى، من داخل الإقليم أو من خارجه، يكون فى مقدورها منافستها على هذه الزعامة.
الولايات المتحدة فعلت ذلك قبل أن تصبح قوة عالمية، فعلته عندما أكملت وحدتها وحققت استقرارها الداخلى وتمكنت من امتلاك كل أنواع القوة اللازمة فقررت إبعاد كل القوى الاستعمارية الأوروبية من القارة الأمريكية، وأصدرت مبدأ سياسياً حمل اسم وزير خارجيتها “مونرو” وأصبح “مبدأ مونرو” مقرراً بأن الولايات المتحدة لن تسمح بوجود أى قوة من خارج القارة الأمريكية تتدخل فى شئونها، وأنها هى وحدها القوة الإقليمية المهيمنة على هذا الإقليم الممتد إلى كل أمريكا الوسطى والجنوبية. وتطورت السياسة الأمريكية بعد ذلك طردياً مع صعود القوة الأمريكية فمن شريك فى قيادة متعددة للنظام الدولى قبل الحرب العالمية الثانية فى سنوات عصبة الأمم إلى قوة عالمية مسيطرة فى نظام ثنائى القطبية تم اقتسام مناطق النفوذ فيه مع الاتحاد السوفيتى، وبعد سقوط الاتحاد السوفيتى تحولت الولايات المتحدة، أو بالأحرى سعت إلى فرض نفسها كقوة عالمية أحادية مسيطرة على النظام العالمى، وكان هذا كله يتضمن حقيقة مهمة هى أن الولايات المتحدة تسعى إلى أن تكون قوة إقليمية فى كل نظام إقليمى على مستوى العالم إما قوة مهيمنة مسيطرة وإما قوة شريكة فى التنافس على النظام العالمى، ومن أبرز هذه النظم الإقليمية كان النظام الإقليمى الأوروبى (الغربى) بعد الحرب العالمية الثانية والنظام الإقليمى لجنوب شرق آسيا، حيث تتواجد القوة الأمريكية فى هذا الإقليم وعلى مدى عقود مضت كقوة مهيمنة من خلال أساطيلها وقواعدها العسكرية فى الإقليم ومن خلال تحالفاتها العسكرية وشراكاتها الاستراتيجية مع أبرز الدول فى هذا الإقليم خاصة اليابان وكوريا الجنوبية واستراليا ، دون تجاهل للصديق الهندى الذى ظلت واشنطن تداعبه من أجل تعظيم التنافس بينه وبين الصين كوسيلة مهمة لاحتواء الصين، وتوظيف “الصراع الهندى – الصينى” لغرض احتواء القوة الصينية الصاعدة ومنع تحول الصين إلى قوة إقليمية مهيمنة على إقليم المحيطين الهادى والهندى.
الصين مدركة لكل ذلك، وتعرف أنها لكى تصبح “قوة عالمية” قادرة على تغيير النظام العالمى الحالى أحادى القطبية الذى تسيطر عليه الولايات المتحدة إلى نظام بديل “متعدد الأقطاب” و”أكثر ديمقراطية وعدالة” لابد أن تنجح أولاً فى أن تفرض نفسها كقوة إقليمية مهيمنة على إقليم المحيطين الهادى والهندى (شرق وجنوب أسيا) ، وثانياً أن تحد من النفوذ الأمريكى فى الإقليم كخطوة أولى نحو طموحها فى إنهاء هذا النفوذ.
بوضوح شديد تدرك الصين أنها مطالبة بأن تكرر التجربة الأمريكية كقوة مهيمنة إقليمية فى القارة الأمريكية، أى أن تكون قادرة على تخليق “مبدأ مونرو الصينى”. وأنها لكى تحقق ذلك عليها أن تمتلك القوة اللازمة والمتفوقة عسكرياً واقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً، وأن تتبنى سياسات وتلتزم بمبادئ فى إدارة علاقاتها الإقليمية أولاً والدولية ثانياً، أشبه بمبدأ مونرو الأمريكى فى شرق وجنوب أسيا، وأن تدخل فى مناوشات مع الولايات المتحدة ضمن هدف إبعاد النفوذ الأمريكى وتفريغ الإقليم من أى قوة منافسة لمسعى فرض الصين كمهيمن إقليمى، وفى مقدمتها القوة الأمريكية، وأن تفكك التحالفات الأمريكية فى ذلك الإقليم، وأن توسع هى من تحالفاتها الإقليمية.
معضلة الصين الأساسية الآن هى أن الولايات المتحدة تخطط هى الأخرى لمنع تحول الصين إلى قوة إقليمية مهيمنة فى إقليم شرق وجنوب آسيا، وتقوم بكل ما يلزم القيام به لتحقيق ذلك، بزيادة وتكثيف وجودها العسكرى فى الإقليم، والسعى إلى “عسكرته” أمام الصين أى جعله مفعما بالقدرات والأنشطة العسكرية المكثفة المناهضة للصين، وبتوسيع وتمتين تحالفاتها الإقليمية فى ذات الإقليم، وربط هذه التحالفات بالحلف الأمريكى الأساسى أى “حلف شمال الأطلسي” بحيث أضحى هذا الحلف بمثابة “شبكة أحلاف إقليمية يديرها ويقودها حلف شمال الأطلسي . وقد تكشفت هذه الحقيقة من خلال ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي “ينس ستولتنبرج” خلال اجتماعه بوزراء خارجية دول الحلف فى بروكسل (15/2/2023) من تبنى مفهوم جديد للتخطيط العسكرى للحلف يأخذ فى الاعتبار “التهديدات الصينية”.
وقد أكدت استراتيجية الأمن القومى الأمريكى الصادرة فى أكتوبر الماضى محورية التواجد العسكرى الأمريكى المكثف فى إقليم المحيطين الهندى والهادى، إلى جانب محورية التصدى للصين باعتبارها القوة المهيأة لمناطحة النفوذ الأمريكى إقليمياً وعالمياً. وتوسعت الولايات المتحدة فى فرض هذا المهفوم بإدخال الدول الصناعية السبع (الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وكندا واليابان وألمانيا وإيطاليا) شريكاً فى سياسة احتواء الصين فى عمق إقليم جنوب شرق آسيا الذى هو عنوان الطموح الصينى لتنفيذ “مبدأ مونرو” بمفاهيمه الصينية.
ففى مؤتمرها الأخير الذى عقدته فى مدينة هيروشيما اليابانية أصدرت قمة الدول الصناعية السبع التى أضحت عنواناً لقيادة أمريكية للنظام العالمى بيانا عقب قمتها فى هيروشيما التى استمرت ثلاثة أيام (19-21/5/2023) تضمن مبادرة أعطوها اسم “برنامج التنسيق بشأن الإكراه الاقتصادى” لمواجهة الصين، التى وصفت بأنها تمارس “الإكراه الاقتصادى” وتعهدوا “باتخاذ خطوات لضمان فشل محاولة أى طرف تحويل التبعية الاقتصادية إلى سلاح ومواجهة العواقب” معتبرين أن الصين “تمثل تهديدا للأمن الاقتصادى”. كما حرص الرئيس الأمريكى جو بايدن على تحذير الصين ، ضمن هذه القمة، من القيام بأى عمل عسكرى ضد تايوان، وقال بايدن أنه “يجب ألا يكون هناك تغيير أحادى فى الوضع الحالى بمضيق تايوان” موضحا أنه “هناك تفاهم واضح بين معظم حلفائنا، بأنه فى حال تحركت الصين، بصورة أحادية، فسوف يكون هناك رد على ذلك”.
الصين، من جانبها، كانت واعية بالمغزى والمعانى الكامنة وراء هذا كله، خاصة ما ورد فى بيان قمة الدول السبع من اتهام الصين بـ “عسكرة بحر الصين الجنوبى”، وندد متحدث باسم وزارة الخارجية الصينية فى بيان بـ “إصرار مجموعة السبع على التلاعب فى قضايا على صلة بالصين، وبتشويه سمعة الصين ومهاجمتها” مشيرا إلى أن بكين “تدين بشدة هذا الأمر وتعرب عن استيائها الشديد وعن معارضتها الحازمة، وقد قدمت احتجاجا رسميا لدى اليابان – البلد المضيف للقمة، ولدى الأطراف المعنيين الآخرين”.
الصين ترفض الممارسات الأمريكية ، التى تقول بوضوح شديد ” لا للمساعى الصينية للتحول إلى قوة إقليمية مهيمنة فى شرق وجنوب آسيا” فكيف سيكون فى مقدور الصين امتلاك “مبدأ مونرو صينى” يجبر الأمريكيين وحلفاءهم على الاستسلام له والقبول به .. هذا هو التحدى الحقيقى لتصبح الصين قوة عالمية .
د. محمد السعيد إدريس
جريدة الاهرام : 30 / 5 / 2023م