منذُ وفاة الزَّعيم جمال عبدالنَّاصر قبل أكثر من نصف قرن، ونحن نرى أن المواطن العربي ما زال يبحث عن رمز ينتخيه في وقت الشَّدائد، وأنا لا أنكر للرجل زعامته، وحضوره إلى اليوم والغد، حتى وإن مات في عام سبعين من القرن الماضي، وقد أشبعه خصومه ذمًا وقدحًا وتحقيرًا، وخاصة زمرة الإخوان، الذين تؤكد بعض الدراسات، أنهم أناس أوجدتهم المخابرات البريطانية، حتى يقتلون في النفس العربية الانتخاء بالقومية العربية، بداية نكاية في عبدالناصر، وثانيًا كي لا تكون القومية العربية رابطة للعرب، وثالثًا لفتح ثغرة في جدار القومية العربية، لأجل خلق فتن كثيرة، بداية بين الأديان، ومن ثم بين المذاهب، وقد أنجزوا الكثير من هذا المُخطط لحد الآن.
وقد بذلوا كل شيء لصرف النظر عن القومية العربية، وحاولوا الاستعاضة عنها بالقومية الإسلامية، والحقيقة الإسلام دين.. وليس هوية، وحتى الإسلام نفسه هويته عربية، فالقرآن الكريم يؤكد على ذلك في آيات كثيرة، لقوله تعالى: “إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ” (يوسف: 2)، وقوله: “كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ” (فصلت: 3)؛ وإذ أستشهدُ بهاتين الآيتين لضيق المساحة في هذه المقالة، وإلاّ فإن القرآن قد ذُكرت عروبته في أكثر من 11 موضعًا في الكتاب الكريم.
إذن، لا يجوز الخلط بين الدين والقومية؛ فالدين عبادة، والعروبة وعاؤه الذي يحمله ويحافظ عليه، فيجب أن نعترف أن الإنسان العربي، سيظل تائهًا ويبحث عن هوية، مثله مثل كل القوميات الأخرى على هذه الأرض. فالإنجليزي مثلًا يعتز بقوميته الإنجليزية وإن كان يحمل الجنسية البريطانية، لكن إن سألته من يكون سيقول لك إنه “إنجليزي” ولن يقول لك إنه بريطاني، إلا إذا كان من أصول غير إنجليزية، والأتراك سيقولون لك بصيغة المفرد إنه “تركي” ولن يقول لك أنا مسلم أو عثماني، رغم أنهم عرفوا كقوة عظمى يوم كانوا ينتسبون للدولة العثمانية.
فما بالنا نهرب من هويتنا العربية، ونظل نبحث عن زعيم ننتخي به، فمرة ننتخي بالرئيس السادات يوم كنَّا نظنه وريثًا طبيعيًا لعبد النَّاصر، ولكن بعد الصلح مع إسرائيل نبذه العرب، واتهموه بالخيانة، ثم الانتخاء بالزعيم الليبي العقيد معمر القذافي، ومرة ننتخي بالزعيم صدام حسين، وأخرى بالرئيس جعفر النميري، وحتى أننا في مرة من المرات كنَّا نجد ضالتنا في الزعيم الباكستاني ذو الفقار علي بوتو، أو بالرئيس البنجالي مجيب الرحمن، والرئيس مهاتير محمد الماليزي، واليوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان!
تُرى ما الذي نبحث عنه حتى نجده في هذه الزعامات؟ إنَّ الذي نبحث عنه هو الزعامة القوية والهوية المشرفة، فلو رجعنا إلى أيام الزعيم جمال عبدالنَّاصر، ودققنا في كنه محبة الناس لهذا الزعيم، لوجدناه يتحدث عن عزة النفس والكرامة العربية، فعبدالناصر لم يكن لديه “نفط أو مناجم ذهب” حتى يُغدق العطايا على الناس بالدولارات، لكي ينقادوا إليه ويحبون هباته لهم، وإنما كان يُخاطب فيهم العواطف الإنسانية لدى الناس، ويوعدهم بتحقيق الكرامة وعزة النفس.
إذن؛ الإنسان العربي لا ينظر إلى المال على أن فيه نخوته، وإنما ينظر إلى الجوانب المعنوية قبل كل شيء، لأنَّ فيها جاهه بين القبائل أولًا، ثم بين الأمم الأخرى، فيريد أن يكون شيئًا مذكورًا بين الناس، والإنسان العربي جُبِل على بغض بريطانيا والغرب، بما لاقاه منهم من قسوة وظلم، وإذا شخّصنا مواقف الساسة الذين ذكرناهم، سنجد أن كل واحد منهم، كان له موقف صلب من هذا الغرب الظالم، ومضاد له في وطنه ومواقفه، وخاصة مع بريطانيا مستنقع الشَّر حول العالم.
الرئيس أردوغان سجل أول نقطة محبة في رصيده مع العرب، على إثر مشادة كلامية مع الرئيس الصهيوني الأسبق شمعون بيريز في منتدى دافوس الاقتصادي العالمي، فكان مدافعًا عن الفلسطينيين في غزة، والنقطة الثانية من خلال “سفينة مرمرة” التي أراد أن يكسر بها الحصار على غزة، وبرغم أن السفينة لم تصل غزة، وإنما اختطفها الكوماندوز الإسرائيلي، بعدما قتلوا بعض الركاب، وجرحوا بعض آخر، واقتادوها إلى ميناء إسرائيلية، واحتجزوها مع ما تبقى من ركابها، ولم يحرك أوردوغان الأسطول التركي للإفراج عنها، وعن ركابها الذين كان جُلهم من الأتراك، ولم يقطع علاقاته بالكيان الصهيوني.
ولكن ظل العرب وعلى رأسهم الإخوان، يغفرون له كل الزلات، ويعتبرونه الزعيم القومي صاحب الخوارق الكونية، وقد كانت فرحتهم بفوزه الأخير لا توصف، رغم أنه كان فوزًا صعبًا بالرئاسة التركية، فاعتبروه فوزًا إلهيًا للأمة الإسلامية جمعاء، وأن ذنبه مغفورًا فيما تسبب فيه من أزمات.
ولا ننسى الزعيم الإيراني آية الله الخميني، وقد قيل فيه ما لم يقله مالك في الخمر، ومع ذلك ظل هناك من ينظر إليه على أنه زعيم محرر، وخصم لدود للغرب، والرجل بريء من كل تلك التهم التي ألصقت به.
وقد انبرى لهم من بين الصفوف السيد حسن نصر الله في حرب 2006 على لبنان، وقد صفَّ معظم العرب إلى صفه، وذلك قبل أن يتداركه المؤمنون بالقدر الأمريكي (خيره وشره) بأنه خير لهم.. والغرب بأجمعه، فيشوهون صورته بخبثهم، وبعض الوسائل كانت تقوم بفبركات صوتية، فرتبتها بعض أجهزة المخابرات.. وجعلت السيد حسن وكأنه هو الذي نطق بها على أنه عميل لإسرائيل، وطبعًا كان ذلك كذبًا وبهتانًا على الرجل، وقد صدَّقها بعض السذج المساكين من الذين يصدقون بسهولة، ممن يقال عنهم إنهم مجرد كِيِس قطن، وليس كَيّسٌ فطنٌ.
إنَّ المواطن العربي الذي أُبعد عن انتمائه القومي، سيظل يبحث عن رمز وعن هوية، وكمن يبحث عن إبرة في كوم من الغفة (القش)، فمرة ينتخي بالجندي سليمان خاطر، ومرة بالشرطي محمد صلاح وهما مصريان، أو الجندي الأردني “أحمد الدقامسة” الذي قتل من مجموعة اليهود عندما استفزوه وهو قائم للصلاة، ولا ننسى انتخائهم بأبطال فلسطين في الداخل، أو الانتخاء بالقائد قاسم سليماني، الذي دعم مجموعات المقاومة الإسلامية في فلسطين، أو حولها والذي استشهد في سبيل القضية الفلسطينية.
إذن؛ لو كان للعرب مراكز للدراسات الإستراتيجية لتقرأ سلوكيات الناس وتحللها، لوجَدت هذه المراكز، أن المواطن العربي فاقدٌ للرمز والهوية والزعامة الراشدة، فلن يُشفي ظمأ الإنسان العربي، أو يجد ضالته إلا في الكرامة وعزة النفس، فمن يحقق له ذلك فهو سيده وتاج رأسه.
حمد بن سالم