خطَتِ المملكة العربيَّة السعوديَّة وجمهوريَّة إيران الإسلاميَّة خطوة كبيرة متقدِّمة بتوقيع اتِّفاق بكين الذي تضمَّن عودة العلاقات الدبلوماسيَّة بَيْنَ البلدَيْنِ الجارَيْنِ المُسلِمَيْنِ. وها قد شاهد العالَم الأسبوع الماضي تجلِّيات ذلك الاتِّفاق بإعادة افتتاح سفارتَي البلدَيْنِ وقنصليتَيْهما في البلدَيْنِ الكبيرَيْنِ. ولا شكَّ أنَّ العالَم بأَسْره يبارك هذا الاتِّفاق إذا ما استثنينا الكيان الصهيوني وبعض القوى الدوليَّة التي وجدت نَفْسها فجأة أمام هذا الاتِّفاق التاريخي، ولَمْ تجد سبيلًا من التماشي معه وقَبوله براجماتيًّا. هذا الاتِّفاق الدبلوماسي الكبير لا يعني فقط طهران والرياض، بل يعني كُلَّ الدوَل العربيَّة والإسلاميَّة والدوَل السَّاعية إلى ترتيب أبجديَّات السَّلام والاستقرار العالمي، والعمل لمستقبل عالَم جديد متعدِّد الأقطاب .
رعاية جمهوريَّة الصين الشَّعبيَّة لهذا الاتِّفاق التاريخي تعني دلائل مُهمَّة في سياق حركة العلاقات الدوليَّة، وسياسة المحاور ضِمْنَ استراتيجيَّة صينيَّة تجاوزت حدود السياسة والاقتصاد إلى ما هو أبعد في منظور رؤية استشرافيَّة لمستقبل العالَم الجديد تأكيدًا على أهمِّية هذه المنطقة الحسَّاسة بالنسبة للقوى الدوليَّة الصاعدة، حيث تتطلع الصين لتبوؤ الصدارة العالميَّة مع ضرورة وجود محور الرياض ـ طهران ضِمْن هذه الاستراتيجيَّة العالميَّة الصينيَّة. وتكمن أهمِّيتها في تهيئة المناخ لعلاقات إيجابيَّة ومصالح متبادلة تعتمد على الأمن الإقليمي والذي يقف على طرفَيْه هذان البَلدانِ الكبيران، إضافةً إلى أهمِّية ضمان نجاح مبادرة الحزام والطريق الصينيَّة التي ترتبط غالبًا بهذا الإقليم العالَمي الذي يتوسَّط قارَّات العالَم، وضرورة أن يكُونَ طريق الحرير سالكًا دُونَ عوائق أو عراقيل، كما أنَّ هناك نقطة جديرة بالاهتمام من خلال حرص السياسة الصينيَّة على توقيع عدد من الاتفاقيَّات الاقتصاديَّة بَيْنَ الصين وكُلٍّ من الرياض وطهران، وتوسيع دائرة الاستثمار والتجارة مع البلدَيْنِ الكبيرَيْنِ وما يُمثِّلانه من ثقل اقتصادي كبير، خصوصًا مع انضمام المملكة إلى مصرف بريكس تمهيدًا للانضمام للمجموعة الدوليَّة لاحقًا، إضافةً إلى محوريَّة الرياض على الخريطة السياسيَّة للوطن العربي، وبالتالي فإنَّ كُلَّ هذه المعطيات دعمت اهتمام الصين برعاية الاتِّفاق بَيْنَ طهران والرياض .
اليوم وقد مضى الاتِّفاق قُدمًا في تنفيذ أهمِّ بنوده باستئناف العلاقات بَيْنَ البلدَيْنِ وسعْيِهما الحثيث لتحقيق نتائجه الإيجابيَّة على أرض الواقع وما تلاه من انفراجات سياسيَّة في الإقليم، مِنها عودة سوريا إلى جامعة الدوَل العربيَّة، والجهود التي بذلتها الرياض في سبيل ذلك، وكذلك المساعي التي تُبذَل لإنهاء الصراع في اليمن والذي نأمل أن يُحقِّقَ المأمول خلال المرحلة القادمة بمشاركة عُمانيَّة لَمْ تتوقف منذ بداية الأزمة، وكذلك الجهود السعوديَّة في السودان والتي أسفرت عن إجلاء رعايا عددٍ كبير من الدوَل عن طريق الرياض من ضِمْنها رعايا إيران؛ ممَّا قدَّم انطباعًا جيِّدًا وبوادر إيجابيَّة للعلاقات بَيْنَ البلدَيْنِ، كُلُّ هذه التطوُّرات جاءت ضِمْن الأجواء الإيجابيَّة المستجدَّة بعد اتِّفاق بكين .
المخاض الطويل الذي سبقَ اتِّفاق بكين يؤكِّد أهمِّيته الاستراتيجيَّة، وكذلك صعوبة معادلته التي ـ بلا شك ـ تستوجب المحافظة عليه وتوثيق عراه، وتطويق أيِّ عراقيل من شأنها تقويض استمراره وصموده، كما لا يفوتنا التأكيد على الإرادة السياسيَّة التي قادت البلدَيْنِ نَحْوَ هذا الاتِّفاق التاريخي، ومع ذلك ينبغي التحذير من بعض الملفات التي يدرك الطرفان حساسيَّتها، وبالتَّالي فهي تتطلب تعريفها وتعريبها وإيجاد صيغة مناسبة لتفادي حدوث أيِّ تماس حَوْلَها ممَّا قد ينسف ما تمَّ البناء عليه كليًّا. وبلا شك أنَّ مكانة هذا الاتِّفاق وأهمِّيته الاستراتيجيَّة ينبغي ألَّا تعطِّله أيَّة شُبهات يدرك البَلدانِ تناقضاتها في الثقافة السياسيَّة والأيديولوجيَّة بَيْنَهما. ومن هنا تتضح أهمِّية كبح جماح تلك التفاصيل الشيطانيَّة وتقبُّل ثقافة الآخر سياسيًّا وعقائديًّا وأيديولوجيًّا في سبيل تحقيق الهدف الأسمى، وتنفيذ أهمِّ اتِّفاق سياسي له ما بعده على صعيد الأمن والاستقرار، وصياغة مستقبل جديد تكُونُ فيه الرياض وطهران ضِمْن أقطاب العالَم الجديد.
خميس بن عبيد القطيطي