قسمًا بالله أن جنين هذه تمثل حكمة الرحمن؛ فالجنين أصلاً يمثل طهر خلق الله للإنسان، وجنين فلسطين هي نكاية الله في قهر الطغيان، إذا كانت جنين بنصف كيلومتر من الأرض، وهي تمثل هذه القوة والعنفوان من الصمود والشموخ، فكيف بها إن كانت هي نقطة الارتكاز في تحرير فلسطين من رجس اليهود الجائسين خلال الديار بالطغيان؟! إن جنين هذه لن تحدها جدران ولا أسوار، بعدما بلغ صيتها كل مكان، وأجزم صادقاً إذا كشفت بصمت أهلها الوراثية، فلن تجد شبه مقارنة بينهم وبين زمرة رام الله، أو أي وجه نسب بينهما على الإطلاق، أولئك القوم اليائسون من الحرية والكرامة، والقانطون من نصر الله لهم، وذلك بعدما بصموا بالعشرة ألا حل إلا من خلال خطيئة أوسلو المشؤومة، أما جنين وأهلها الأبطال، فدماؤهم تغلي في العروق بالحرية والكرامة والكبرياء، وذلك من هول رفث الخيانة والعمالة والنذالة وانحطاط قيم البعض.
جنين يا كبرياء العروبة والأمجاد، ويا عوض فلسطين في كل متآمر متخاذل أفّاك، إن “الجنين” جعله الله مشروعاً لخلق آخر، فأودع في مصطلح “جنين” خلق البشر.. وأكثرهم الأخيار، فالجنين يحمل الطهر والخير والأمل، والعطاء والمستقبل الباهر، فجنين أنت شقيقة غزة العزة، فلكما كل التحايا والإكبار والإجلال من أحرار الأمة العربية الأوفياء.
أتذكرين يا جنين هذه القصيدة التي كتبها اللواء الركن محمود شيت خطاب الموصلي (بتاريخ 26 أبريل 1949م وكان أحد ضباط الجيش العراقي الذين اشتركوا في معركة جنين في فلسطين عام 1948، وقد ألقاها بعد أن دفنوا قتلى الجيش العراقي وعددهم 207 شهداء، كان ذلك لأجلك يا جنين.. وبعد أن صدرت الأوامر لهم بالانسحاب، فنظر إلى القبور وبكى، وقال مخاطبًا الناس المجتمعين لوداعهم:
هذي قبور الخالدين فقد قَضَوا
شهداءَ حتى أنقذوا الأوطانا
قد جالدوا الأعداء حتى استُشهدوا
ماتوا بساحات الوغى شجعانا
ماتوا دفاعًا عـن حياضٍ دُنِّسَتْ
بأحطِّ خلق الله في دنيانا
المخلصون تسـربلوا بقبورهم
والخائنون تسلّموا البنيانا
أجِنيـنُ إنكِ قـد شهدتِ جهادنا
وعلمتِ كـيف تساقطتْ قتلانا
ورأيـتِ معركةً يفوز بنصرها
جـيشُ العـراق وتُهـزم «الهاجانا»
أ«جنـيـنُ» لا أنسى البطـولةَ حيّةً
لبنيكِ حتى أرتدي الأكفانا
إنـي لأشهد أن أهلكِ كافحوا
غَزْوَ الـيهود وصارعوا العدوانا
فإذا نُكِبتِ فلستِ أوَّلَ صارمٍ
بهظته أعباء الجهاد فَلانا
أجنـيـنُ يـا بلدَ الكرام تجلّدي
ما مات ثأرٌ ضرَّجته دِمانا
لا تأمني غدرَ اليهود بُعيدنا
جُبلوا على لؤم الطّباع زمانا
المجدُ للبلد المناضل صابرًا
حتى ولـو ذاق الردى ألوانا
لا تعذلـوا جـيش العراق وأهله
بلواكمُ ليست سوى بلوانا
إن السِّنان يكون عند مكبَّلٍ
بالقيد في رجليه ليس سنانا
مَرْجُ ابنِ عـامـرَ ضرَّجته دماؤنا
أيكـون مُلكًا لليهود مُهَانا
المسجدُ الأقصى ينادي أمّةً
تركتْه أضعف مـا يكون مكانا
إنـي لأعلم أن دين مُحَمَّدٍ
لا يرتضـي للمسلمين هَوانا
إن الخلـودَ لمن يموت مجاهدًا
ليس الخلـود لمن يعيش جبانا
صدق والله ابن العراق في الذي قال، ويشهد الله لكم يا أهل جنين، أنكم ما زلتم أسدًا على الظلم والطغيان، وها أنتم تشنفون أسمعنا كل يوم بخبر يسر الصديق، ويغيظ الأعداء في كل مكان، ليس في محيط فلسطين السليبة وحدها، وإنما في طول الوطن العربي وعرضه.
وفي هذا المقام، أجد من المناسب أن أقتطع جزءًا من التقرير الذي رفعه قائد عملية جنين الصهيوني والمرفوع منه لوزير الحرب الإسرائيلي فيقول؛ وهو الفقرة الثالثة من تقرير طويل (مسرب بعد الترجمة إلى العربية):
يقول في الفقرة الثالثة: “أعلم أن حديثي في هذه النقطة لربما يحيلني إلى التقاعد ولفحص سلامتي العقلية، لكنني لست وحدي، وإنما شاهد الجنود ما شاهدته، في البداية شاهد أحد جنودي الطبيب عبدالله أبو التين، وهو يحاول قنصنا من إحدى البنايات في المخيم، فقلت في رأسي إن الجنود يهذون الآن تحت الضغط، ثم شعرت أنا شخصياً بوجود محمود طوالبة في المكان، أنا لم أره.. لكنني عشت كمائنه مرة أخرى، كل شيء كان يحمل بصمته، نوافذ مُلغمة أبواب مُلغمة بيوت مُلغمة من يفعل هذا سواه؟ هل نحن متأكدون أننا قمنا بتصفيته في العام 2002؟. أم أنه درب الأطفال بعد تصفيته؟ علينا التأكد سيدي الجنرال؛ كما أن علينا التأكد من مقبرة الأرقام، لأنني أعتقد أن جميل العموري، وداوود زبيدي قد هربوا من قبورهم هناك، لقد رأيتهم، حين اقتحمنا منزل زكريا، رأيت داوود ينظر إلينا ويضحك من إحدى النوافذ، فقلت هذا وهم ثم ظهر فجأة جميل العموري أمامي، وأطلق النار واختفى، ثم شاهدتهم في الأزقة يطلقون النار علينا ويضحكون، هدمنا الجدران بحثاً عنهم، حفرنا الشوارع لكي نقبض عليهم مرة أخرى، لكنني رأيتهم يأتون من السماء، ولم يكن هناك خلاص، أرجوكم تأكدوا مما يحصل هناك في مقبرة الأرقام، فلربما حفروا نفقاً من هناك إلى جنين وعادوا، أعرف أنكم ستقولون في القيادة إن هذا جنون لكنها جملتي الأخيرة لكم، إن الدخول إلى مخيم جنين هو ضرب من ضروب الجنون”.
لقد صدق والله هذا الصهيوني في الجملة الأخيرة من تقريره، وذلك يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أنهم كلما تخلصوا من مقاتل وطني حر، أنجبت لهم جنين العشرات من الأبطال الذين يعشقون الشهادة، والاستبسال من أجل الوطن، وباستشهاد مقاتل تولد كتيبة أخرى من المقاتلين الأشداء في فلسطين عامة، وفي جنين خاصة.
إذن؛ هي جنين التي جنَّنت بني صهيون، وجنين هذه التي ستعيد الرشد إلى المتخاذلين، والمهزومين من الداخل، وذلك نتيجة ضعف الإيمان، وضعف العقيدة، وضعف الأمل بالنصر، ولو اعتقدوا بالقدرة على النصر، كما هي قناعة أبطال جنين الأشاوس، لعلموا أن إسرائيل هذه حقاً أوهن من بيت العنكبوت، وذلك كما قال عنها السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله قبل سنوات، وقد تأكدت حقيقة ذلك بمرور الأيام.
حمد بن سالم العلوي