تُمثِّل الإجازة الصَّيفيَّة مساحة استراحة وفترة نقاهة يعيشها الفرد خارج إطار الالتزام الرسمي في إطار الأُسرة والعائلة ومع النَّفْس، فهي مساحة لالتقاط الأنفاس، وإعادة إنتاج الذَّات، ورسم صورة أخرى تستنطق من خلالها النَّفْس فِقه الإرادة وحسَّ المبادرة ورغبة العطاء؛ كما أنَّها مساحة لمزيد من الأمان النَّفْسي والفكري تتيح للفرد استغلالها في القراءة والاطلاع والتجوال والسَّفر والسياحة والتعرف على ثقافات الشعوب وأساليب العيش والتعايش، ولكن كيف يمكن أن تكُونَ الإجازة الصَّيفيَّة محطَّة لتجديد التواصل العائلي وخلق منصَّات التقاء أكثر قوَّة وارتباطًا بالأُسرة والأهل والأرحام والأقرباء؟ هذا المدخل الذي ينطلق منه التساؤل المطروح، قد يرجع إلى أنَّ ضغوطات العمل وارتباط الأبناء في أوقات العمل بالمدارس وانشغالهم بأداء الالتزامات البيتيَّة والمدرسيَّة والتزامات الوالدين، قَدْ لا يعطي مساحة كافية من أجْل البحث في تفاصيل الحياة الأُسريَّة والعائليَّة أو فترة أوسع في الجلوس مع الأبناء والالتقاء بهم والاستماع إليهم وتكوين أجواء عاطفيَّة أُسريَّة ومحطَّات عائليَّة تتناغم خلالها الأفكار وتبني القناعات وتتجدَّد أشرعة التواصل، وترتفع المعنويات وتبرز فيها مساحات الألفة والتعاون والتكامل والحوار، لتصبحَ الإجازة الصَّيفيَّة محطَّة لتدارك القصور العائلي وغياب الحوار الأُسري وتعويض نقص الاحتواء العاطفي بما يحمله من مزيد رعاية وحنان وعطف وأُلفة، وتجديد العهد معهم بأن يكُونَ هذا التواصل ممتدًّا والحوار مستمرًّا. هذه الصورة الجَماليَّة التي يُمكِن أن تفصحَ عَنْها الإجازة الصَّيفيَّة باتت اليوم بحاجة لأن يكُونَ لها حضورها في تفاصيل الحياة الأُسريَّة، ومساحة في أجندتها، حتى لا تكُونَ الإجازة الصَّيفيَّة حالة عابرة أو كغيرها من الأيَّام، بل إنَّ ما ترسمه من استحقاقات تُمثِّل ميزة تنافسيَّة قلَّ حضورها في غيرها من الأيَّام، لذلك كانت الحاجة إلى قراءة جديدة للإجازة الصَّيفيَّة تقترب فيها النفوس من فلذات الأكباد، وتتناغم الأفئدة مع أرواح الحياة وضمانات العيش، وهي الأُسرة وتنسجم خيوط التفاعل الأُسري منتجة للحياة معنى جميلًا ومساحة أمان فكرية ونفسيَّة لَنْ تعوَّضَ، لذلك يبقى الخيار للفرد نفْسِه كيف يصنع من الإجازة الصَّيفيَّة محطَّة قوَّة لبناء العهد وتجديد العلاقة بالأُسرة وتأصيل فِقه الاستفادة من محطَّات الفراغ في تقوية جسور الترابط العائلي والتكامل الاجتماعي؟ إنَّ ما تعانيه الأُسر اليوم من شحوب في العلاقات وضمور في التواصل وقسوة في الطباع، والحساسيَّة الزائدة من أبسط الأمور، ورفع تكلفة الاختلاف حتى تعالت معها صيحات الخلاف، وهاجس الظنِّ السيِّء الذي بات يلوح في أُفق العلاقات الأُسريَّة والاجتماعيَّة، ومفهوم المعاملة بالمِثل الذي شاع تداوله بَيْنَ أبناء العائلة والأُسرة الواحدة والأرحام والأقرباء، كأحد أساليب التعامل مع الآخر، دُونَ مراعاة لظروف الآخر، والحالة الأُسريَّة والاجتماعيَّة التي يعيشها، والتي قَدْ تُعِيد النظر في هذا المسار وترمِّم فجوة التباعد وموجات التباين والخلاف. إنَّ الدفع بهذه الصورة من العلاقات الاجتماعيَّة نَحْوَ النُّمو والقوَّة بحاجة اليوم إلى استشعار دَور الأُسرة وقيمة الحياة في كنف الأمان الأُسري ووهج العاطفة المتوقدة حنانًا وحُبًّا واحترامًا ومودَّة ورحمةً، واستدراك القِيَم الإيمانيَّة العظيمة التي أصَّلها الدِّين ورسمتها حياة الرسول الكريم وصحابته والتابعين، والصورة النموذجيَّة التي أثمرت عن وجود أُسرة مترابطة متكاملة. إنَّ تقويض حاجز الأنانيَّة والفردانيَّة والفوقيَّة والسطحيَّة، والبحث في أرفق العلاقات الأُسريَّة وأغصانها الجميلة وما تحمله من نضج ثمرات الحُب والأُلفة والتكامل والاحتواء، محطَّة تحوُّل يجِبُ أن تستدركَ، لتمنحَها الإجازة الصَّيفيَّة قوَّة تتصدر خلالها المشهد الاجتماعي، ومعنى ذلك أنَّ ما يثار حَوْلَ الإجازة الصَّيفيَّة من قِبل البعض بأنَّها مملَّة أو روتين يومي، خصوصًا إن كانت تفتقر لأجندة السَّفر والتنزُّه والتنقُّل بَيْنَ الوجهات السياحيَّة، سيذوب في ظلِّ وجود هذا الاحتواء الأُسري، عندما ترفرف على أجواء الأُسرة شآبيب السَّلام والحُب والحنان والعطف، وتقوى صورة التكامل الأُسري والعائلي، وتتفاعل روح التجديد والتغيير، ويتقاسم أفراد الأُسرة مشترك الحُب في تحقيق الأهداف والغايات التي يُمكِنهم تحقيقها في ظلِّ الأولويَّات والفرص المتاحة، لتحقيق أعلى درجات السعادة وتقوى جسور التواصل وتتفاعل الأفئدة أُلفة وحُبًّا وحنانًا. إنَّ الإجازة الصَّيفيَّة بذلك جسر ممتدٌّ نَحْوَ الوصول إلى الضفَّة الأخرى، وهي الضفَّة التي قَدْ يكُونُ الوصول إليها في فترات أخرى من العام صعبًا نظرًا لكثرة الارتباطات وعدم وجود الوقت الكافي لضمان التعامل الصحيح معها أو الاستغلال السليم لها، في حين أنَّ الإجازة الصَّيفيَّة سوف تجيب عن الكثير من التساؤلات المحبوسة في ضمير الأبناء والأُسرة والتي لَمْ تجد الوقت الكافي للبوح بها والإفصاح عَنْها، أو إطلاق العنان لها، لتبرزَ الإجازة الصَّيفيَّة هذه الحقيقة وترسم على وجود الأبناء والأُسرة ابتسامة ناصعة نابعة من القلب. إنَّ استغلال المناسبات وأوقات الإجازات ومَنح الأُسرة والأبناء فرص الحوار والاحتواء سوف يكُونُ له نتائجه على حياة الأُسرة في قادم الوقت، وقدرتها على التغلُّب على التحدِّيات والصعوبات التي تواجهها، والتقليل إلى حدٍّ كبير من حجم التكاليف التي باتت تشغل تفكيرها، إذ إنَّ هذه الصورة الجديدة التي قدَّمها الوالان وبادرا بها نَحْوَ الأبناء كفيلة بإعادة إنتاج الواقع الجديد للأُسرة وخلق روح الصَّفاء والنَّقاء من جديد، ورسم استحقاقات قادمة تضْمَن نُمو فرص التكامل الأُسري وتعزيزه، وغلبة فرص التعاون والإيثار والشعور بالمسؤوليَّة. إنَّ الإجازة الصَّيفيَّة بما تفرزه اليوم من تحدِّيات وما يرتبط بها من مشكلات الفراغ، وما قد تضيفه على الأُسر من أعباء وهموم؛ إن لَمْ يتمَّ توجيه الأبناء فيها التَّوجيه السَّليم، ولَمْ يتمَّ فيها إشغالهم بما يصلح أحوالهم وينفعهم في حياتهم وآخرتهم، وتركت الأُسرة لهم المجال في ما تحلو لهم أنفسُهم فلَمْ تشاركهم في التخطيط لها ووضع أهدافها، وخلق أجندة التغيير التي تسري في دمائهم كما تسري في أفكارهم وقناعاتهم وتتفاعل معها رغباتهم واهتماماتهم، ويتقاسم الجميع خلالها مشتركات البناء الذَّاتي وصقل المهارات وبناء القدرات، وتعميق فرص البحث عن الفرص، ولَمْ يتمَّ فيها أو خلالها توجيه الأبناء التَّوجيه الأمثل؛ قد تكُونُ نتائجها مجانبة للمأمول وغير قادرة على إنتاج الفرص، لتتَّجهَ بالأبناء إلى مسارات غير مرغوبة، وتوجُّهات غير مأمونة، ومنطلقات غير موثوقة. وما المشكلات الفكريَّة والقناعات السلبيَّة التي باتت تتولَّد لدى الأبناء حَوْلَ واقعهم وظروفهم وحياتهم ومستقبلهم، والصورة الأخرى التي باتت تسقطها المنصَّات الاجتماعيَّة التي يتَّجه إليها الأبناء عندما يزيد وقت الفراغ لديهم وتتسع التباينات في حياتهم، وتنعدم مساحات الحوار والنصح والتَّوجيه وأساليب الاحتواء من واقعهم، لتتَّجهَ بهم الأمور إلى هذه المنصَّات يرتمون في أحضانها غير واعين لمخاطرها أو مدركين لنتائجها، لذك دائمًا ما يثار من أنَّ مشكلات الأبناء والأُسر بشكل عام تبدأ من الإجازات الصَّيفيَّة لمظنَّة الفراغ والهدر الحاصل في الوقت، إن لَمْ يشغل في حياة الأُسرة بما يفيد، أو ينمَّى بالمفيد، أو ينقل الفرد في الأُسرة إلى مرحلة الشعور بالهدف واستشعار المسؤوليَّة والترويج لها في رفع درجة النضج في التفكير بالتوسيع في الخيارات والبدائل واغتنامها، واستثمار الأدوات المتاحة في الأُسرة والعائلة، وحفز مسار المنافسة في حياة الأُسرة عَبْرَ تقديم مشاريع اقتصاديَّة وابتكار أدوات نوعيَّة يحتاجها المُجتمع مستفيدًا من هذه المنصَّات الاجتماعيَّة في التسويق لمشروعه أو تعلُّم المفيد له من أجْل إبراز مواهبه وقدراته. لذلك نعتقد أنَّ هذه المعطيات اليوم تؤسِّس لمرحلة متقدِّمة في حياة الأُسرة، وتبرز مسارات أكبر في البحث عن معالجات يشترك فيها أفراد الأُسرة في إدارة العمليَّات الأُسريَّة في الإجازات الصَّيفيَّة وتحويلها إلى فرص مواتية يتسابق حولها الأبناء في إثبات بصمة حضور لهم في واقعهم. أخيرًا، تبقى مسؤوليَّة الأُسر اليوم في البحث عن كُلِّ الخيارات والتعامل مع مختلف السيناريوهات، والاستفادة من كُلِّ الآراء والأفكار التي يطرحها الرواق الأُسري وتتفاعل معها أجندة الإجازة الصَّيفيَّة، في تحقيق معادلة التكامل الأُسري والتواصل العائلي وسدِّ كُلِّ الثغرات المقلقة التي قَدْ تسيء أو تعكِّر مزاج الأُسرة أو ترفع من درجة القلق الأُسري في ظلِّ غياب محطَّات الالتقاء ومنصَّات التواصل، فهل ستكُونُ الإجازة الصَّيفيَّة حدثًا جديدًا في حياة الأُسرة والعائلة تُعِيد تشكيل نواميسها وضبط أدواتها وآليَّاتها وتتقاسم المشتركات فيما بَيْنَها؟ وعندها ستكُونُ الإجازة الصَّيفيَّة فاكهة جديدة تضيف إلى بقيَّة الأيَّام رونق الحُب والحنان والعطف والاحترام، وتبني من أجْل الأيَّام الأخرى العجاف أيَّامًا سِمانًا بالحُب والعطف والحنان، نموذج احتواء لا ينتهي مَددُه، ولا ينقطع وصْلُه، ولا تضيع فرصُه، إنَّها دعوة لأن تكُونَ الإجازة الصَّيفيَّة مساحة اكتمال لسدِّ النقص ووحشة الغربة التي تعيشها بعض الأُسر في أوقات أخرى حيث يتحجج الجميع بالدوام والالتزام بالعمل وقضاء ثلثي الوقت خارج المنزل، دعوة للمراجعة والتأمل والتفكير، بأنَّ مستقبل الأبناء على المحكِّ، وأيُّ قيمة أعظم من أن يكُونَ الوالدان قلبًا على هذا الوطن؛ الوطن الذي يتجلَّى في فلذات الأكباد حياتنا المتجدِّدة وآمالنا الحالمة، دعوة لأن تمنحوهم الحقَّ في الحياة، تلك الحياة التي تتجاوز الأكل والشرب والملبس والمنزل والهديَّة، والاحتفال بأيَّام ميلادهم ومناسبات نجاحهم، إنَّها حياة الأفئدة وسخاء الحُب وحنان القلب والاحتواء والحضن، لتتجلَّى الحياة فيهم من جديد، ويعيشون الحنان الذي يفتقدونه لفترات طويلة من العام حيث تراكمات الحياة والبحث في كسب الرزق الذي لا ينتهي، لتكُونَ الإجازة الصَّيفيَّة مساحة جديدة للبحث، ولكن هذه المرَّة في أعماق الأُسرة، وفي خلدها وحضنها ودفئها.
د.رجب بن علي العويسي