يأتي طرحنا لهذا الموضوع متزامنًا مع حدثيْنِ: الأول ويتمثل في الحملة الوطنيَّة الإعلاميَّة بعنوان «أطفالنا أمانة» التي تُنفِّذها وزارة التنمية الاجتماعيَّة واللجنة الوطنيَّة لشؤون الأُسرة، ومكتب منظَّمة الأُمم المُتَّحدة للطفولة: «اليونيسف» بالتعاون مع عددٍ من الوزارات والجهات الحكوميَّة والخاصَّة مِثل وزارات: التربية والتعليم، والصحَّة، والإعلام، والمركز الوطني للإحصاء والمعلومات ومؤسَّسات المُجتمع المدني وجمعيَّات المرأة العُمانيَّة ومؤسَّسات القِطاع الخاصِّ، حيث تطرح في أهدافها حوارًا وطنيًّا نَحْوَ رفع درجة الأمان والسَّلامة والثقافة الوقائيَّة لدى الأبناء في ظلِّ ارتفاع التحدِّيات والحوادث التي يتعرَّض لها الأطفال. وأمَّا الثاني فيتعلَّق بانطلاقة البرنامج الصَّيفي لطلبة المدارس والشَّباب بهدف احتوائهم في الإجازة الصَّيفيَّة، والذي تُنفِّذه العديد من مؤسَّسات الدولة المعنيَّة بالتعليم والثقافة والشَّباب والرياضة وغيرها في تقديم مناشط متنوِّعة موجَّهة في مختلف المجالات الصحيَّة والثقافيَّة والشَّبابيَّة والاجتماعيَّة والتعليميَّة والعمل التطوُّعي وغيرها.
ومع أنَّ تناولنا للموضوع لا يقتصر على فئة الأطفال، بل يشمل الناشئة بصفة عامَّة؛ نظرًا لأنَّ التحدِّي الذي بات يُواجِه الناشئة اليوم فكريًّا ونفسيًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا أكبر من اختزاله في مفردة، أو حصره في مرحلة، كما أنَّ ما يترتب عليها من حوادث جسديَّة ونفسيَّة وغيرها لَمْ يقتصر على الأطفال؛ بل شمل الشَّباب الذين هُمْ في عُمر الزهور، ولأنَّ البرنامج الصَّيفي اليوم يُراد منه أن يُعِيدَ إنتاج مسار التوعية والتثقيف والتَّوجيه بطريقة أخرى تتكيَّف مع معطيات الواقع الاجتماعي الذي يعيشه الناشئة، لذلك فإنَّ إيماننا بالشعار الذي طرحناه في عنوان مقالنا «أبناؤنا أمانة» يحتِّم اليوم توجيه القدرة الوطنيَّة بمختلف مجالاتها ومُكوِّناتها وتفاصيلها نَحْوَ تعزيز مساحة الأمان في حياة الناشئة، وربط سلوك الناشئة بخيوط اتِّصال قويَّة تربطها بدِينها وقِيَمها وأخلاقيَّاتها ومبادئها وثوابتها الوطنيَّة، فتعصمها من الانحراف، وتحافظ عليها من الانسلاخ وتمسكها من الانزلاق في هاوية الجرائم والمخدرات والظواهر السلبيَّة التي باتت تُشكِّل تحدِّيًا يدقُّ ناقوس الخطر، وفي الوقت نفْسِه رسالة للوالدين والأُسرة في أن تكُونَ ممارساتهما في إطار الحياة الأُسريَّة والزوجيَّة نموذجًا لاحتواء الأبناء والمحافظة عليهم، وصون عقيدتهم وثقافتهم وفكرهم وقناعاتهم وشخصيَّتهم من أن تمسَّها أيادي العبث أو تؤثِّر عليها صيحات المُروِّجين للفكر السَّقيم والدعاية المُهيِّجة للإثارة والغريزة والسفور والانحلال الأخلاقي؛ كما تفرض الإجازة الصَّيفيَّة واقعًا جديدًا في حياة الأُسر والناشئة، وتضع كُلَّ شركاء التربية الوالديَّة والأُسرة ومحاضن التربية ومؤسَّسات الإعلام والإعلام الرَّقمي والتوعية والصحَّة وغيرها أمام التزام صادق نَحْوَ تحقيق شعار «أبناؤنا أمانة» بكُلِّ تفاصيله في سبيل مزيدٍ من الحماية الآمنة للأطفال والناشئة عامَّة من كُلِّ حوادث الصَّيف، خصوصًا ما يتعلَّق مِنها بالإهمال والتحرش وحوادث الغرق والدهس والسقوط وغيرها من الحوادث التي باتت تنشط في الصَّيف نظرًا لنشاط الناشئة الواسع فيها.
وعليه، كيف يُمكِن أن تُسهمَ الإجازة الصَّيفيَّة في تحقيق شعار «أبناؤنا أمانة»؟ وما الموجِّهات التي يُمكِن للبرنامج الصَّيفي أن يُعزِّزها في سبيل المحافظة على أمن الناشئة ورفع مستوى الإيجابيَّة لدَيْهم حَوْلَ واقعهم وحياتهم ومستقبلهم؟ إنَّ استشعار هذا المبدأ يجِبُ أن يكُونَ انطلاقة أساسيَّة للبرنامج الصَّيفي، بما يؤسِّسه في منصَّاته من محطَّات للتغيير وإدارة السلوك، لتبدأ المسألة بما يطرحه البرامج الصَّيفي من محتوى نوعي، وما يضمُّه من موضوعات ومحطَّات توعويَّة وتثقيفيَّة ومهنيَّة وفكريَّة وممارسات عمليَّة يستشعر فيها الناشئة تنوُّع الفرص، واستنطاق المواهب، واستنهاض الروح الإيجابيَّة، بالشكل الذي يضمن النُّمو المتكامل لشخصيَّة الأبناء وقدرة البرنامج الصَّيفي على تقديم محتوى ثري ونوعي يتَّسم بالتعدديَّة والتشاركيَّة والتنوُّع والإثراء والمهنيَّة والمرونة والتأثير والاحتواء، ويجد فيه الناشئة مساحة أكبر للانطلاقة إلى آفاق رحبة عَبْرَ مشاركاتهم وطرح التجارب والأفكار والتعامل معها بمزيدٍ من الوعي والإدراك لمتطلباتها وتبسيط الكثير من المفردات والمفاهيم لدَيْهم، وإعادة إنتاجها بطريقة أكثر احترافيَّة تتناغم مع اهتمامات الناشئة وتتفاعل مع نُموِّهم الفكري، وتتقاسم المشترك في صناعتها لتنسجمَ مع الصورة القادمة التي تُشكِّلها في حياة الناشئة. وفي الوقت نفسه يرتبط هذا الشِّعار بجملة المرتكزات والمعطيات التي تعمل على رفع استحقاقات الأمان في حياة الناشئة، وعَبْرَ تحصينهم ذاتيًّا في مواجهة ثورة الواقع والمؤثِّرات السلبيَّة والعوامل التي باتت تتَّجه إلى محاولة التأثير في حياة الناشئة وفكرهم من خلال المنصَّات الاجتماعيَّة وما يروِّج له البعض من أفكار ومفاهيم الإلحاد والنسويَّة والحُريَّات المطلقة والاستقلاليَّة خارج ضوابط الأبوَّة والأمومة والأُسرة، ثم مستوى التكامليَّة في مفاهيم الأمان والأمن والسَّلامة والاحتواء والمسؤوليَّة التي تطرح في واقع الناشئة، والمعاني والاستراتيجيَّات التي تحملها.
وبالتالي ما يعنيه ذلك من أهمِّية امتلاك مسار التوعية والتثقيف لمنهج الوضوح والتفاعل وقدرته على الغوص في الأعماق والبحث في الأبعاد التوعوية في حياة الناشئة، وعَبْرَ استخدم الأدوات والأساليب التي يصنع من خلالها الناشئة فرص الاستجابة للتغيير، ومساحة الأمان في ترقية السُّلوك والانضباط الشَّخصي، وتوجيه منظومة العادات والتقاليد، والقوانين والتشريعات، ونُظُم التعليم والمنهج والبرامج والإعلام، والتَّوجيه الأُسري والضبط الاجتماعي لِمَا فيه رفع مستوى الجاهزيَّة والاستعداد لدى الناشئة في تقبُّل الواقع وقراءته وفَهْم متغيِّراته، والتعامل الواعي مع مستجدَّاته وأحداثه، وامتلاكه فِقه الثقافة الوقائيَّة والأمنيَّة التي تحفظ للناشئة هُوِيَّتها وخصوصيَّتها ومبادئها وثوابتها الوطنيَّة. فيرفع من مستوى الأمان النَّفْسي والفكري والقناعات الإيجابيَّة لدى الناشئة، وفي الوقت نفْسِه يحافظ على درجة المهنيَّة والاحترافيَّة لدَيْهم في قراءة الواقع، وإدراك مساحة الاحتواء التي يقدِّمها هذا البرنامج، فيقف على الأولويَّات ويرفع من فرص التوازن في حياة الناشئة، ويُعيِد تشكيل شخصيَّاتهم في ظلِّ الطموحات الوطنيَّة، والتوجُّهات التي تسعى لبناء مواطن مخلِص ومواطنة منتِجة، وناشئة تحفظ للوطن حقوقه وحدوده، وتحافظ على إنجازاته وتطلُّعاته، وتؤمِن بقِيَمه وأخلاقه شرعة لها ومنهاجًا وطريقًا لها وسبيلًا لبلوغ القوَّة.
من هنا نعتقد بأنَّ مسؤوليَّة البرنامج الصَّيفي اليوم تتعدَّى عادات التدريس المعتادة والممارسة التعليميَّة المعروفة في المدارس إلى مرحلة جديدة، يقف فيها على الواقع ويستقرئ سلوك الناشئة وأفكارها لتبني عليها محطَّات النجاح القادمة، كما أنَّ محتوى البرنامج الصَّيفي يقوم على شراكة فاعلة متكافئة من كُلِّ الأطراف، لأهمِّية أن يكُونَ التطبيق لها يتمُّ بأريحيَّة واستشعار للجميع وإحساس من الكُلِّ بأنَّ ما يحمله البرنامج الصَّيفي في محطَّاته من مواقف وأحداث؛ إنَّما يستجلي في الناشئة عزيمة الإرادة ومنهجيَّة العمل وحسَّ الشعور الذَّاتي ومهنيَّة التطبيق، ورفع درجة الالتقاء والالتفات حَوْلَ القِيَم والمبادئ والضرورات الشخصيَّة يرتبط بطريقة التعريف بها وآليَّات توجيهها والأساليب التي تحملها، وتبسيطها في حياة الناشئة وتقريبها من طموحاتهم، وأنَّ هذه المرتكزات والمبادئ والقِيَم لا تقف حجَر عثرة أمام التطوير، ولا تتعارض مع القِيَم ونموذج التحضُّر ومفاهيم المستقبل، وعندما تصنع بيئة التعليم والمدارس والأُسرة تآلفيَّة القِيَم في حياة الناشئة، ويجد الناشئة في سلوك المُجتمع وتصرُّفاته مثالًا للقدوات وصناعة النماذج والإكثار مِنها، عندها يُمكِن لمِثل هذه البرامج في تكاملها مع البرامج التعليميَّة والإعلاميَّة خارج إطار الصَّيف أن تحقِّقَ معادلة التوازن في حياة الناشئة.
إنَّ مسؤوليَّة الالتزام والتعهد بالمحافظة على الناشئة ورعايتهم وحمايتهم عمليَّة مستدامة، لا تقتصر على الإجازة الصَّيفيَّة دُونَ غيرها، بل هي مسؤوليَّة مشتركة، وعمليَّة التربية يجِبُ أن يقومَ عليها الوالدان والأُسرة انطلاقًا من عاطر النُّطق السَّامي لجلالة السُّلطان هيثم بن طارق المُعظَّم ـ حفظه الله ورعاه ـ في لقاءات جلالته بشيوخ المحافظات في عام 2022 حيث ورَدَ في معرض حديثه السَّامي: «أنَّ تربية الأبناء لا تتمُّ عَبْرَ شبكات التواصل الاجتماعي، بل هي جزء من أصل المُجتمع العُماني»، وأنَّه «عندما يتشرب أبناؤنا عاداتنا وتقاليدنا والتمسُّك بالأُسرة والمُجتمع يتحقَّق نجاح المُجتمع»، كما أنَّ «التقنيَّات الحديثة وُجدت لخدمة البَشَريَّة، لكنَّنا مع الأسف نستغلُّها بطريقة سلبيَّة جدًّا، وقد أثَّرت على النشء، ليس في بلدنا وحسب ولكن في جميع أنحاء العالَم». ووجَّه جلالته أفراد المُجتمع إلى المحافظة على «إرثنا وترابطنا الاجتماعي، وعلى تربية أبنائنا وبناتنا التربية الصالحة»؛ عكس هذا الهاجس الأبوي لجلالة السُّلطان بالمخاطر التي باتت تواجهها الناشئة، وحجم المسؤوليَّة التي تقع على الوالدين والأُسرة والمؤسَّسات ذات الصِّلة، ومؤسَّسات المُجتمع المَدني في التعاطي مع هذا الأمْرِ، بما يؤكِّد دَوْر مختلف محاضن التربية ومؤسَّسات التنشئة والأُسرة في إيجاد بيئات تربويَّة حاضنة للناشئة، قادرة على بناء ذواتهم والأخذ بأيديهم ومنحهم مساحة أكبر لنُموِّ شخصيَّاتهم في إطار من التربية السليمة والعلاقة الأبويَّة والروح الإيجابيَّة والنماذج والقدوات واستثمار الفرص واستغلال الإجازات الصَّيفيَّة في خلق اندماج عائلي أُسري يستطيع أن يقلِّصَ من حجم الفجوة الحميميَّة، وحالة النفوق العاطفي التي يعيشها الأبناء.
أخيرًا، يبقى شعار «أبناؤنا أمانة» محطَّة لإعادة تقييم مسار البرنامج الصَّيفي، وتصحيح ثغراته، وتوجيه الاهتمام إلى كُلِّ ما يحفظ للأبناء حياتهم ويحافظ على درجة الأمان النفسي والفكري والبدني لدَيْهم في ظلِّ حجم المتغيِّرات والمؤثرات التي تتَّجه إلى الأجيال وتدقُّ ناقوس الخطر بما يتعرض له الناشئة من تحدِّيات باتت تدق ناقوس الخطر، بحيث يأخذ البرنامج الصَّيفي في الاعتبار كُلَّ المعطيات الداعمة لصيف آمن، وناشئة يحتويها الأمان، وتعيش في محاضن الوعي، وتلتزم الثقافة الوقائيَّة؛ فإنَّ الوصول إلى جودة الممارسة التي تتمُّ في هيكليَّة البرنامج الصَّيفي وخطَّة عمله يستدعي تعزيز مبدأ التنوُّع في المسارات وتعدُّدها، وتمكين المستهدفين مِنها في الاستفادة من المتاح من بيئات تعلُّم، وحلقات عمل، وبرامج إثرائيَّة وتطويريَّة، وبرامج محاكاة للواقع، بما يُسهم في تقوية جانب الميول المهنيَّة والشخصيَّة للملتحقين بهذه البرامج؛ مع مراعاة مستوى تناسب البرامج المقترحة مع مختلف الفئات والأعمار المستهدفة وشموليَّتها للجنسيْنِ بصورة متكافئة، يراعي اختيارها وفق أُطر محدَّدة، وضوابط مدروسة، واستراتيجيَّات تعليم وتعلُّم منتقاة، تعطي جانب التوعية والتثقيف والوعي والترفيه المتوازن نصيبًا أكبر، وتعتمد على التعلُّم الذَّاتي وممارسة النشاط وفق الاختيار مع وضوح آليَّات التَّوجيه والمتابعة والرصد والتقييم؛ وأن يستهدفَ البرنامج الصَّيفي في عمله تأصيل جانب الثقافة الوقائيَّة للناشئة، وتعزيز فرص دعم تغيير السلوك وتطوير الإرادة الذَّاتيَّة في الحياة والعمل بروح الفريق، ومواجهة الضغوطات اليوميَّة والتعامل مع الأحداث والأفكار والإشاعات التي يتعرض لها الناشئة، والأسلوب الذَّكي في التعامل مع ما يبث في منصَّات التواصل الاجتماعي وما يتمُّ تناقله فيها، بما يتطلبه ذلك من تعريض المستهدفين بالبرنامج الصَّيفي إلى مواقف محاكاة مماثلة، وتجريبهم في ظروف حياتيَّة خارجيَّة متنوِّعة، وتأكيد مسؤوليَّتهم الاجتماعيَّة ودَوْرهم الرِّيادي الإيجابي في البيئة الواقعيَّة والافتراضيَّة.
د.رجب بن علي العويسي