نشأت العلمانية في البلدان الأوروبية بسبب استغلال رجال الكنيسة لسلطتهم الدينية بغية تحقيق مطامعهم الشخصية , وبسبب الصراع بين الكنيسة والعلم , الأمر الذي أدى إلى ثورة الأوروبيين على الكنيسة الغريبة والمناداة بفصل الدين عن الدولة , إن الأقلام العلمانية في بلداننا الإسلامية قد زين لها الشيطان أن اللحاق بركب الحضارة الغربية لا يكون إلا من خلال الفصل التام بين الدين والحياة , وعزله في ساحات دور العبادة فقط ليصبح الدين بين المسلمين كما في الغرب علاقةً فقط بين المرء وربه, يقول د. محمد رشاد عبد العزيز: كان في مقدمة من نادي بالعلمانية في المجتمعات الإسلامية وحمل لواءها وكرث جهده لها بعض النصارى ومن سقط في دعوتهم من المسلمين, وقد أخذ هؤلاء النصارى يشجعون الاتجاهات العلمانية المتحررة ويدعون أولا إلى ما يسمى بالفكر الحر, الفكر الذي لا يحدد موقف الدين من الموضوعات العلمية و الحضارية التي يتكلم فيها ولا يبالي به, وهذه هي العلمانية التي تقوم عليها حضارة الغرب في صميمها, ولقد اعترف كرومر في كتابه مصر الحديثة بأنهم من الطوائف التي أعانت السياسات الاستعمارية في تحقيق أهدافها, كما أعانوا الخديوي إسماعيل من قبل حين استخدمهم في تنفيذ سياسته التي تقوم على إدخال الحضارة الغربية في مصر, ولذا كانوا أسبق الناس إلى تأسيس الصحف, بعض هذه الصحف كان يوميا يحمل أنباء وأحداث العالم والأفكار والمذاهب السياسية مثل صحيفة المقطم وغيرها, وأهمية هذه الصحف لا ترجع إلى ما كانت تذيعه من آراء فحسب, ولكن أهميتها الكبرى ترجع إلى أنها كانت مركز لتنشئة الجيل التالي من الصحفيين على هذه المبادئ العلمانية, وهو الجيل الذي ربي بدوره جيلا آخر, جاءت وتجئ من بعده أجيال على شاكلته, فلم تمض فترة وجيزة حتى كانت الصحافة كلها في أيدي العلمانيين كما لاحظ ذلك جب.
النيل من التراث والإشادة بالحضارة الغربية هدف أصيل للأقلام العلمانية.
إن التقدم المادي الذي شهدته الحضارة الغربية كان عن طريق التخلي عن كل القيم الثابتة المطلقة وهذا ما أكده الدكتور عبد الوهاب المسيري قائلا: الحضارة الغربية أنجزت ما أنجزت من تقدم من خلال التخلي عن كل القيم الثابتة المطلقة بما في ذلك الإنسان ذاته, أي من خلال علمانيتها الشاملة, حتى أصبح التقدم العلمي غاية في حد ذاته لا تحده حدود أو قيود, ولكن ما نعرفه جميعا أن هذا العلم كان المارد الذي خرج من القمقم, وبدأ يُخضع العالم لحركته وتراكمه, دون أي اكتراث بالإنسان, وتحول الإنسان من كونه غاية في حد ذاته إلى كونه وسيلة توظَّف وتُستخدم, لقد ظهر عدد من المفاهيم المختلفة التي تحررت تماما من القيمة, فهناك العلمانية الشاملة المتحررة من القيمة والديمقراطية المتحررة من القيمة والحرية المتحررة من القيمة, وأخيرا هناك العلم المتحرر من القيمة, ولكن التحرر من القيمة يعني في واقع الأمر التحرر من الإنسانية, هذه الشهادة من الدكتور المسيري تؤكد أن الحضارة المادية الغربية قد تخلت عن القيم الإيمانية السماوية المطلقة في سبيل بناء حضارتها , ورغم هذا نجد بعض الأقلام تثني على هذه الحضارة وتسبح بحمدها داعين إلى عدم التمسك بالتراث الإسلامي إذ إنه من وجهة نظرهم سبيل إلى التخلف والرجعية, يقول المستشار سالم علي البهنساوي: جاء لويس عوض ونشر في القبس بتاريخ أول إبريل عام 1976م أن العودة إلى مناهج السلف الصالح ( وهم الصحابة) عودة إلى الرجعية, ونادي بالأخذ بمدنية الغرب وتقاليده وقيمه, ومعلوم أن الإباحية واللاأخلاقية جزء لا يتجزأ منها , فهل آن الأوان لتمييز الخبيث من الطيب ولنحدد مواقع وأغراض هؤلاء الكتاب ثم تتحدد أحجامهم تبعا لذلك؟ هؤلاء الكتاب الذين أُريد لهم الشهرة إنما يرددون ما كتبه وأوحى به سدنة الفكر الغربي أو سدنة الفكر الماركسي وذلك تحقيقا لأغراض لا تخدم أمتنا , وإن شاء هؤلاء لتتبعنا أقوال سدنتهم ونشرناها مقرونة بما تولد عنها من المقالات ليعلم القاصي والداني أنهم أبواق لجهات معلومة.
فشل الحداثيين العرب في تنحية المنهج الإلهي.
فشل أذناب الغرب في عالمنا الإسلامي في استقطاب الشباب المسلم, وذلك بسبب قصور الأفكار والمناهج التي يدعون إليها, حيث إن الحداثيين يسيرون في خط معاكس ومغاير ومناقض لما في مجتمعنا من مثل إسلامية وقيم إيمانية, ومما يؤكد عداوة الحداثة للإسلام خلو إنتاجها الأدبي والفكري من أي إشارة للقرآن والسنة إلا ما كان من باب الطعن والغمز واللمز مع اكتفائها برموز الوثنية والإلحاد القديمة والمعاصرة, يقول أحمد الشقيري: ويمكن تحديد أسباب فشل المشروع الحداثي الليبرالي فيما يلي:
أولا: عدم القدرة على استخدام مناهج الاستدلال العقلي الموجودة في النص الديني, والبحث عنها في التراث اليوناني وعند فلاسفة الأنوار , ما جعل الدعوة إلى العقلانية لا تنفذ إلى الأعماق.
ثانيا: الحرب على الدين مع العجز عن نقض المرجعية الإسلامية, فلقد اجتهد غلاة المشروع الحداثي الليبرالي في نقض القرآن والسنة , وهم في ذلك كله عالة على المستشرقين الذين ينظرون بخلفية صليبية للثقافة الإسلامية.
ثالثا: عجز المشروع الحداثي عن الاستقلال عن الدوائر الغربية ما جعله عرضة للاختراق من منظمات سرية تخريبية مثل الماسونية وتبنيه لمفاهيم عن الحرية صادمة للشعور العام مثل الدعوة للعري وحق الشواذ في ممارسة أنشطتهم في العلن, وحق العاملات في الجنس أن تحتضنهم الدولة وتنظم شئونهم, وتنظيم المهرجانات الفنية والسينمائية المنافية للذوق العام, كل ذلك وغيره جعل التيار الحداثي الليبرالي مقطوعا من جذوره غريبا عن مجتمعه الأصلي, الشيء الذي دفع به إلى الارتماء في أحضان الأجنبي الذي استغله بدوره لتنفيذ مخططاته في ضرب استقلال الأمة وعرقلة نهوضها وترسيخ تبعيتها وتخلفها العلمي والتقني, ولهذه الأسباب لم ولن يكن لهذا التيار حظ أو نصيب في بلاد المسلمين نتيجة فشلهم في إيجاد ما يصلح الناس في دينهم ودنياهم, وكيف يصلح غيره من عجز عن إصلاح نفسه؟ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
د. محمد إبراهيم محمد الحلواني/ الأستاذ المشارك في كلية العلوم الإسلامية في المدينة العالمية