ولت أوربا ظهرها للدين، وآمنت إيماناً مطلقاً بالطبيعة، ولقد نظروا إلى ما وراء الطبيعة على أنه خداع للعقول والألباب، حيث نبذوا الإيمان كلية وبحثوا عن بديل لذلك فوجدوه في الطبيعة، وأقام الأوربيون حضارتهم على المادية المحضة، لأن العلم من وجهة نظرهم مضاد للدين، وليس غريباً أن يكون اليهود وراء الدعوة إلى إقامة الحياة على غير الدين، وذلك من أجل السيطرة ولإزالة الحاجز الديني الذي يقف أمام اليهود حائلاً بينهم وبين أمم الأرض[1]، ولقد فشلت العلمانية في تحقيق السعادة والطمأنينة والسكينة للإنسان الأوربي برغم تقدمها المادي والحضاري، لأن السكينة والطمأنينة لن تتحقق إلا بالإيمان بالله عز وجل والسير على هديه وامتثال أوامره واجتناب نواهيه، فشتان بين من يسير على هدي الخالق الذي يعلم ما يُصْلح الإنسان في دينه ودنياه وبين من يسير على هدي مخلوق لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً فضلاً عن جلب النفع لغيره.
مجتمعات بلا أخلاق:
مبدأ الغاية تبرر الوسيلة ظهر واضحاً جَلِياً في كتابات بعض الفلاسفة الغربيين، وطبقه الغربيون لاحقاً على أرض الواقع، ولقد نادى ميكافيللي بهذا المبدأ في كتاباته[2]، فيجب على الحاكم من وجهة نظره أن يكون ماكراً مكر الذئب، ضارياً ضراوة الأسد، غادراً غدر الثعلب، وأن يتعلم كيف يبتعد عن الطيبة والخير، وأن يحسن استخدام مبدأ فرِّق تَسُد، من أجل المحافظة على سلطانه، ولكن عليه في الوقت ذاته أن يكون ماهراً في إخفاء صفاته السيئة، بارعاً في الرياء وإظهار الصفات الحميدة، وعليه أن يعلم أن الأعمال الصالحة قد تجلب الكراهية كالأعمال الشريرة، ولذلك إذا أراد الأمير أن يحافظ على سلطانه فعليه أن يرتكب بعض الشرور والآثام[3]، وكان هتلر يضع هذا الكتاب بالقرب من سريره، ويقرأ فيه كل يوم قبل أن ينام، وكذلك فإن كلاً من لينين وستالين تتلمذ عليه[4]، بل ذهب بعض الفلاسفة الغربيين إلى ما هو أشد من ذلك، فلقد قرر توماس هوبز أن الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، فإن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب[5]، هذه الأفكار الفلسفية الغربية كانت أثراً من الآثار السلبية الناجمة عن إبعاد المنهج الإلهي عن الحياة البشرية فضلاً عن تشويهه وتحريفه كما فعل اليهود والنصارى، ولقد اكتوى الأوربيون قبل غيرهم بنار هذه الفلسفات البشرية، ونجم عنها ملايين القتلى في الحربين العالميتين الأولى والثانية، إضافة إلى قهر الدول الأوربية للشعوب الأخرى والاستيلاء على ثروات هذه الشعوب عن طريق الاستعمار، والسؤال الذي يتبادر إلى الأذهان هل تصلح هذه الأفكار لقيادة الأمم والجماعات؟ وهل أحسن الأوربيون صنعاً حينما ابتكروا فلسفات بشرية وأفكار شيطانية مبنية على اللذة والمصلحة بعيدة عن الدين؟
انهيار الحياة الأسرية في المجتمعات الغربية:
إن الحضارة الغربية تتعرض لمحن اجتماعية قاسية، وأزمات إنسانية ضخمة، بسبب إعراضها عن الدين الصحيح وارتمائها في أحضان العلمانية، حيث أكدت دراسة أمريكية أن 40% من الأمهات في الولايات المتحدة الأمريكية غير متزوجات، وقد أنجبن أبناءهن من علاقات خارج تلك المؤسسة في حصيلة لم تُسَجَّل من قبل بتاريخ الولايات المتحدة، وجميع الإحصائيات تؤكد ازدياد هذه الظاهرة بشكل مرعب في معظم الدول الغربية أو تحديداً غير الإسلامية، وذلك بسبب ثقافة الإلحاد التي تتبناها هذه الدول، ومن المراكز التي تهتم بهذه الإحصائيات مركز بيوريسيرتش الأمريكي، وهو مركز شهير وذو مصداقية عالية في هذا المجال، ففي دراسة لهذا المركز أجريت عام 2014م تبين أن العديد من الدول الغربية تنتشر فيها ظاهرة أولاد الزنا وعلى رأسها: أيسلندا التي تبلغ فيها النسبة 67% من عدد الولادات، أما في فرنسا فتبلغ النسبة 56%، وفي بريطانيا 48%، وفي الدنمارك تبلغ نسبة أولاد الزنا 51%، أي أكثر من نصف المجتمع أولاد زنا، وتقول إحصائيات مركز CDC الأمريكي إن هذه الظاهرة كانت في المجتمع الأمريكي عام 1960م 5% فقط، ولكنها بدأت تتسارع بشكل عجيب خلال الخمسين سنة الماضية حتى وصلت عام 2015م إلى أكثر من 40%[6]، الغرب يموت لقد توقفت أممه عن التكاثر، وتوقف سكانه عن النمو وبدؤوا بالانكماش، ولم يقم منذ الموت الأسود الذي حصد أرواح ثلث سكان أوربا في القرن الرابع عشر تهديد أخطر لبقاء الحضارة الأوربية من هذا الخطر الماثل، اليوم هناك سبعة عشر بلداً أوربياً فيها جنازات دفن أكثر من احتفالات الولادة، وهناك أكفان أكثر من المهود، يبدو أن مبدأ اللذة غير قادر على إعطاء الناس سبباً كافياً ليستمروا في الحياة، وثماره المبكرة تبدو سامة، فهل توشك الحضارة الغربية أن تلحق بإمبراطورية لينين إلى النهاية المشينة نفسها؟[7].
الرأسمالية وإذلال العبيد:
قامت الأنظمة الرأسمالية على استرقاق العبيد واستغلالهم من أجل تحقيق النهضة الأوربية المزعومة والتي لا يقرها عقل أو دين، يقول رمضان عيسى الليموني تحت عنوان «نهضة أوربا وتخريب إفريقيا»: أحكمت الشركات الاستعمارية سيطرتها على المزارع والمراعي والمناجم، ومارست كل ألوان استغلال السكان المحليين وإجبارهم على العمل في ظروف بيئية قاسية ووحشية لإنتاج أكبر كم من المحاصيل الزراعية والمعادن المستخرجة من المناجم، فالانخفاض الضخم لأعداد السكان المحليين الذين تم استعبادهم وشحنهم في سفن العبيد كان قد ألقى بكامل العبء على عدد محدود يتولى زراعة المحاصيل التي يطلبها حاكم المستعمرة، أضف إلى ذلك ملحوظة مهمة تتعلق بأن تجارة العبيد كانت تستهدف عملياً الشباب والنساء الذين يتمتعون بلياقة وصحة بدنية جيدة، وعليه ففي ظل الاستنزاف المستمر للموارد البشرية – والذين هم في سن الإنجاب تقريباً – وشحنهم إلى أوربا وأمريكا فإن النشاط الاقتصادي والتطور الاجتماعي المرتبط به قد تأثر تأثراً كارثياً في إفريقيا، لقد أدت تجارة الرقيق إلى استنزاف الكثير من السكان المحليين، وكما أشرنا فإن البقية منهم كانوا يضطرون لمغادرة أراضيهم وهو ما دفع الشركات الاستعمارية التي تعمل في تجارة الرقيق للبحث المكثف عن مصادر أخرى للرقيق فيما بين نهري السنغال وكونيني، وهو يعنى أنه لم تسلم أية منطقة إفريقية من نشاط تجارة الرقيق، بل امتد الأمر إلى انشغال الكثير من تلك الشركات بأعمال النهب والسرقة والإغارة على سفن مشحونة بالعبيد وقرصنتها[8]، في ظل النظام الرأسمالي الخالص أو البحت تناقضات كثيرة تحجب عنه التوازن والاستقرار، ففي ظل هذا النظام يعيش الغني إلى جانب الفقير، ناطحات سحاب في ركن من المدينة، وأكواخ بل بيوت من الصفيح في ركن آخر، بل كثيراً ما نجد ناطحة سحاب تعلو بشموخ وجلال بجوار منزل حقير كأنها تقول: لماذا وضعوني إلى جانب هذا الصعلوك الوضيع؟ أو كأنه يقول لها: أما يكفيك من جمال وبهاء لماذا هذا التكبر والشموخ؟ وفي ظل هذا النظام يمكن أن تشاهد سيارات الرولزرويس والمرسيدس وBMW والبورش والكدلك وغيرها من السيارات الفاخرة وذات الأثمان الباهظة إلى جانب مشاة لا يملكون ثمن دراجات عادية أو نارية[9]، إن الأوربيين الذين اتخذوا من العلمانية منهجاً يسيرون عليه في حياتهم قد فشلوا فشلاً مدوياً في جلب السعادة لأنفسهم فضلاً عن غيرهم، كيف يسعدون وقد فصلوا المنهج الإلهي عن حياتهم؟ وكيف يهنؤون وقد قضوا على الأخضر واليابس من أجل بناء حضارتهم الأوربية المجردة عن الدين؟! اللهم ردنا إلى دينك رداً جميلاً واجمعنا مع سيد الأولين والآخرين في جنات النعيم، وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين.
د. محمد إبراهيم محمد الحلواني