اللغة هي قوامُ الهُويَّة، فهي ليست مجرَّد أحرفٍ تُكتب، وكلماتٍ تُنطق، وعباراتٍ تُنقش، وإِنما هي قبل كل شيء مشاعرَ تُنقل، وأحاسيس تُوصل، وأفكار تُبادل، وما نقوله هنا ليس بدعاً في القول، ولا نسطِّرهُ لأول مرة، إنما قلناهُ مراراً وتكراراً، لما نشهده من ميول تفضيل التواصل في الجيل الحالي صغيره وكبيره إلى اللغة الإنجليزية أكثر من العربية، وهذا الأمر له عواقبَ خطيرة على مستقبل هذا الوطن.
فالطفل الذي يتحدَّث الإنجليزية متقناً إياها على حساب اللغة العربية؛ لغته الأم، لن يقتصر الأمر عليه في جانب التحدث وحسب، بل أنه يسهلُ عليه الإقتداء بأخلاق الشعوب المتحدثة بالإنجليزية، بل ويتقبَّل ما يأتي منهم أكان ذلك تقدماً أم انحطاطاً!!
أُنظر إلى من يلبسُ لباساً عسكرياً على سبيل المثال ستجده وقد تغيَّرت شخصيته ليتوافق مع طبيعة اللباس، وانظر إلى من يلبس ملابس أجنبية غير لائقة ستجدهُ وهو يتصرف بما يتوافق مع ما لبَس، فكيف بمن تكون اللغة الأجنبية هي لسانه التي يتحدث بها، أَوَلاَ يكون أدعى أن يتلفَّظ بما يسمعه من كلماتٍ نابيةٍ تُحسب من الأسلوب العفوي والطبيعي لمتحدثي تلك اللغة؟!
فرنسا أدركت هذا الأمر في البلدان التي استعمرتها سابقاً، فأبقت احتلالها النفسي والعقلي بترسيخ اللغة الفرنسية في ما يقارب الثلاثين دولة وأنشأت رابطة أسمتها “الفرانكفونية” وتشمل الدول المتحدثة باللغة الفرنسية، حتى كان لهذه السياسة أثرها في الإنتماء إلى الفرنسية عبر لغتها أكثر من الإنتماء إلى الأوطانِ ذاتها، حتى استفاقت بعض الدول الأفريقية مؤخراً ووعت بأنها واقعة تحت تخدير اللغة الفرنسية، وأن فرنسا تنهبُ ثرواتها عبر اللغة التي تسوَّق لها على أنها لغة التحضُّر والأدب والفن، بينما هي في الحقيقة أداة استعمار ونهب للدول التي يُراد لها أن تعيش فقيرة..! على سبيل المثال: في النيجر وبعد الإنقلاب بدأت الدول في عرض مادة اليورانيوم بسعر (200) دولار للكيلو الواحد، في حين كانت فرنسا تدفع لها (80) بنساً فقد كانت شركة “أورانو” الفرنسية تهيمن على معظم احتياطيات البلاد…!!
على كل حال أردتُ فقط أن أبيِّن مآلات الإنتماء اللغوي، وبيان أثرٍ من آثاره الوخيمة على الدول التي تظن أن اللغة الأجنبية إنما هي سلاح بين هي أداة استعمار، ولا تكونُ سلاحاً إلا عندما تكون اللغة الأم هي المتصدرة الأولى، وهذا ما فعلته دولة مالي بعد انقلابها وتحررها من الهيمنة الفرنسية بأن جعلت العربية – بصفتها دولة إسلامية- لغتها الأولى قبل الفرنسية وهو ما سيردُّ إليها هويتها التي فقدتها بسبب هيمنة الفرنسية على لسانها.
وهنا أذكر أن معلِّما مغربياً قال لي ذات مرة: أنه أوشك على الزواج من إمرأة مغربية، وقد كان مدرساً للغة العربية، فلمَّا عرفت أنه لا يتحدث الفرنسية رفضت الإرتباط به مع أنهما يتحدثان اللهجة المغربية!! وهذا يبيِّن أثر اللغة حتى في تفضيل من يتحدث الفرنسية على من يتحدث العربية في مجتمع عربيٌّ في الأساس، وكم يردد أبناء العربية هذه الأُنشودة:
بلادُ العُربِ أوطاني
منَ الشّـامِ لبغدانِ
ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ
إلى مِصـرَ فتطوانِ
فـلا حـدٌّ يباعدُنا
ولا ديـنٌ يفـرّقنا
لسان الضَّادِ يجمعُنا
بغـسَّانٍ وعـدنانِ
وتطوان مدينة مغربية، يُفترضُ ان تجمع العروبة لسان الضادِ بها، ولكن وضع الفرنسيون أياديهم على مستعمراتهم فاستعمروا العقول فكانت تلك غنيمتهم الكُبرى!
إننا إن لم نُدرك خطر تفضيل هذه الأجيال للغة الأجنبية على العربية فإِننا سنقع في نفس مأزق هذه الشعوب التي لم تنتبه إلاَّ بعد عقودٍ وربما قرون، فالإعتزاز باللغة هو اعتزاز بالهوية التاريخية، والإنتماء الوطني، وهذا يستدعي علينا أن نقوم بخطواتٍ عملية في سبيل جعل اللغة العربية هي:
أولا: ترسيخ اللغة العربية بصفتها مبعث فخر لأبنائها قبل قيمتها اللغوية
ثانياً: نشر التوعية لدى الوالدين بأثر اللغة الأم على شخصية الأبناء.
ثالثاً: التأكيد على فكرة أن اللغات الأجنبية مهمة جداً ولكن ليس على حساب اللغة العربية.
رابعاً: تقريب اللغة العربية من أبنائها من خلال المنهج الدراسي.
خامساً: إقامة الفعاليات والمسابقات المحفزة للغة العربية وما يرتبط بها من فنون وآداب وعلوم في المجتمع.
سادساً: جعل اللغة العربية هي لغة التواصل في المؤسسات إذا لم يكن استخدامها مؤثراً على نظام العمل.
يمكن زيادة هذه المقترحات التي تهدف إلى تعزيز اللغة العربية، والإعتزاز بها لدى أبناءها، حتى لا نرى أجيالنا القادمة وقد خلعت عنها رداء الهوية العربية وتلبَّست رداء الأجنبية فكانت كالشعوب التي تعتقد أنها قد تحررت من الإستعمار بينما يرطنُ لسانها بلغته، وتفتخرُ بأنها تنتسبُ إليه لساناً، والإنتسابُ لساناً يعني الإنتماء هويةً، والتعلُّق قلباً..!
د. صالح الفهدي