إن الناظر في أحداث اليوم العالمية، وفي تداعي الأمم الكبرى لا سيما الغربية على غزة، لدعم الكيان المحتل، في بطشه وجرائمه التي فاقت جرائم النازية، لَيَرَى الأزمة التي وقعت فيها مؤسساتُ التجمع الدولية والإقليمية المختلفة، حتى عُطِّلَتْ قوانينها، واستبيحت قراراتها، وذهبت هيبتها، وعلى رأس ذلك الأمم المتحدة ومجلس الأمن على المستوى الدولي، وعلى المستوى الإقليمي جامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي.
لقد باتت هذه المؤسسات بسبب كون بعض أعضاءها الرئيسين طرفا مباشرا في الهولوكوست القائم في غزة معطلةً تماما “ومشلولةً” عن القيام بأي حراك جادٍّ لوقف الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة، وقد ظهر ذلك العجز الكبير في عدم قدرة الأمم المتحدة وهيئاتها من فعل أي شيء لوقف الإبادة، رغم موقف الأمين العام للأمم المتحدة الأخير، والذي يؤكد على حقائق كون الاعتداء الصهيوني على فلسطين جريمة حرب ضد الانسانية، وأن المقاومة لم تقم بهجمتها يوم السابع من أكتوبر دون سبب، أو من فراغ، بل هناك أكثر من خمسين عاما من الاحتلال والظلم والحصار والقتل، في صحوة ضمير قوية، وصدمة حادة للكيان الصهيوني و”عجوزه” أمريكا، وحزب الشيطان من دول الغرب المنافقة، الذين اجتمعوا معا في خندق الشر والإرهاب لإبادة غزة!
لقد نال هذا العجزُ والشلل مؤسساتٍ جامعةً إقليميةً بذات التحزب وذات الإشكال، مما عطل صدور أي ردة فعل جادّة على قدر حجم الإبادة والظلم الواقع على غزة، فالجامعة العربية مثلا فيها أطراف لا تخفى مواقفهم، وهي تتكلم عنهم -دون مواربة- أنهم في خندق واحد مع الكيان المحتل، ومعه في مهمته المعلنة، سواء كانت القضاء على المقاومة وعلى رأسها حماس، أو مبدأ تهجير الشعب الفلسطيني ولو كان بدرجة أقل عن الأول، فعدم فتح معبر رفح مثلا للمساعدات الطبية والإنسانية والامور الأولية والضرورية التي يحتاجها الإنسان في غزة اليوم مع شناعة القصف، والإجرام، لا يبرره ادعاء القيادة في مصر انتظار إذن الكيان المحتل، وانتظار ضماناته لعدم استهداف الشاحنات، حيث إن ذات الحدث وبشكل أقل شناعة وقع على غزة في ٢٠١٢ م، في ظل حكم مغاير لمصر، والتي قامت حينها بالتأكيد على استمرارية عمل معبر رفح، ورفض غلقه، ليس فقط لدخول اللوازم الطبية، بل وللدعم السياسي،فقد زار وفد من الخارجية المصرية غزة منذ اليوم الأول للمواساة وإظهار المساندة لهم، ولم تنتظر مصر موافقة الكيان ولا ضماناته، ولم يكن له ولا لقيادته رأي ولا تهديد يذكر، مما جعل لذلكم التوجه الموجب والاصطفاف في وجه قمع المدنيين في غزة وغطرسة الاحتلال دوره في حقن الدماء، ووقف الحرب الجائرة في ظرف أسبوع فقط، ليعلن الرئيس المصري انتهائها بعد ستة أيامها من انطلاقها، يوم ٢٠ نوفمبر ٢٠١٢ م، بينما استمرت الحرب التي تلتها حرب ٢٠١٤ م تحت نظام الحكم الحالي ما يقرب الشهرين إلا قليلا (٨ يوليو- ٢٦ أغسطس)، وتستمر حرب اليوم لتقترب أيامها من الشهر، ولسان حال مصر يؤكد وقوف قيادة مصر اليوم مع الكيان المحتل في ضرورة تصفية حماس، ودعم ذلك بعدم قبول مصر (وليس الكيان) فتح معبر رفح، كما فتحته من قبل، وجعل تفتيش المساعدات -إن كانت لتدخل – على يد جنود الكيان المحتل، وحرمان القطاع كما هو الخطة الصهيونية من المواد الأساسية للمعيشة، أملا أن يشكل ذلك ضغطا على حماس للاستسلام أو التنازل عبر التنكيل بحاضنتها الشعبية، وإمعانا في القتل فيهم، ولو ديس على كل المعاهدات، والقوانين الدولية!….
ومثل مصر في مشاركة الكيان هدفه المعلن الأول على الأقل أطرافٌ أخرى في جامعة الدول العربية، وهم الذين يصفهم رئيس وزراء كيان الاحتلال في بياناته الصحفية بأصدقائنا العرب، ويمكن معرفتهم من مواقفهم السياسية، والتي لم يقوموا فيها بأدنى الممكن من استدعاء السفير الصهيوني -وليس طرده- لتسجيل اعتراض أو حتى قلق، مما عطل الجامعة، وعطل دورها في حماية الشعب العربي أين كان، والحفاظ على قيمته العالمية ومكانته، فلم تستطع حتى الاستنكار والشجب بقاموس يواكب الحدث، فقد ساوت بياناتها بين الجلاد والضحية، وتداعت -والمقام مقام حرب- لاسطوانة السلام المهزومة، فضلا أن تتخذ الجامعة قرارا عمليا ولو إنسانيا بتزويد غزة مثلا بضروريات الحياة اليومية وأبسطها، بينما يسجل لها التاريخ اتخاذَ قرارات محورية ومصيرية عندما تعلق الأمر ببعض أعضائها، كالتصويت على تعليق عضوية سوريا (وهي دولة مؤسسة) وليبيا إبان الثورات، وحرب اليمن، وغير ذلك، وكأنها تتمثل شهادة الله: “بأسهم بينهم شديد”، بينما بأسهم على عدوهم وعدو أمتهم وتراثهم وسارق أراضيهم ناعم مخملي.
وعلى ذات النسق يعاني اليوم مجلس التعاون الخليجي في دوله من الشلل، ولذات السبب يعجز عن إصدار بيان وردة فعل حازمة اتجاه الإبادة التي يتعرض لها العرب في غزة، فدول الخليج المطبعة تصرح بموقفها من الكيان، وتصر على استمرار علاقتها الاقتصادية والسياسية وحتى العسكرية معه، ولم تكلف نفسها حتى استدعاء سفير الكيان لديها لنقل موقف موحد لمجلس التعاون الخليجي، بل جاءت بعض تصاريحها في مجلس الأمن/ الأمم المتحدة على عكس ما صدر من بيان جامع لدول مجلس التعاون الخليجي في ذات المقام!
لهذا كله تتعطل هذه المؤسسات، ولا يسع أطرافها في مقام الإبادة الجماعية التي تتعرض لها غزة اليوم، والنزعة الهمجية التي تتعرض لها الإنسانية وقيمها ومبادئها إلا أن يكون لها ردة فعل تعبر عن موقفها أمام الظلم، مستقلة أو متكتلة مع أطراف أخرى منها أو من خارجها يشاركونها الهاجس.
إن بيان الخارجية العمانية الأخير، كان صريحا وظاهرا، فسمى الأمور بمسمياتها، وانعتق من بيانات القلق، والتصعيد، والعنف، والسلام وحل الدولتين، في البيانات الجماعية الخانعة، ووضع الأمور في نصابها، وحددها بحدودها، فما يحدث في غزة ليس تصعيدا وعنفا، بل كما عبر البيان “هو جرائم حرب، وجرائم ضد الإنسانية، من قوات الاحتلال (الإ سـ ر ا ئـ يـ لـ يـ ة) في حربها الغاشمة على غزة”، وواكب ذلكم البيان مؤتمر صحفي لوزير الخارجية العماني مع وسائل إعلام غربية وأجنبية، وفيها أكد أن حماس والمقاومة عموما ليسوا حركات إرهابية، بل حركة مقاومة مشروعة، متزامنا مع بيان الرئيس التركي الناري الأخير، والذي أكد على ذات المعنى في حماس، وهو خلاف ما يحاول الغرب الترويج له، وحمل العالم على تبنيه.
إن هذا الانعتاق -رغم ميول عمان الدائم للعمل المؤسسي الجمعي وكراهة التصدع حتى على مستوى التصريح والتعبير الجماعي- أوجبه ما ذكرناه من تصدع، وتعطيل للمؤسسات الجمعية، ومن عدم احترام المصطفين مع كيان الاحتلال عربا وعجما في حربهم الكونية على غزة وإبادتها للقيم الانسانية والقوانين الدولية والمعاهدات.
إننا إذ نحيي عمان الحبيبة والأخوة المسوؤلين في الخارجية، وعلى رأسهم السيد وزير الخارجية، على قرارهم الشجاع بالاعتداد بالذات والانعتاق عن المؤسسات التي أصابها الشلل والإعاقة فيما يخص المذبحة التي تتعرض لها غزة، وفي ظل هذا الاستقطاب العالمي الظالم ضد الإنسانية والإنسان، وتعطيل القيم والمعاهدات والمبادئ الدولية التي تحميه، فإننا نطلب منهم القيام بترجمة البيان لأفعال ممكنة على الأرض تعبر عن موقفهم الشريف اتجاه البشرية وقيمها، وتعزز للأمن والسلم العالمي، وتسرع من الاستقرار، وعودة المظالم لأصحابها، من ذلك:
- استدعاء وزارة الخارجية لسفراء الدول المشاركة في جرائم الإبادة بحق غزة -إن تعذر طردهم- وإبداء الامتعاض من موقف دولهم ومسلكهم الإجرامي في حق العالم ومؤسساته ومبادئه وتحميلهم أي تداعيات له
- توجيه رسالة صريحة للدول المطبعة وذات العلاقة من العرب، بضرورة وجود ردة فعل منهم على قدر الإجرام الكائن في غزة، وحثهم على تعليق التطبيع ولو مؤقتا، فإن أبت هذه الدول فيتم مقاطعتها رسميا وشعبيا وتعليق كرسيها في المؤسسات الجامعة.
- إلزام القيادة المصرية بكل السبل الممكنة بفتح المعبر عاجلا، كما فعلت في ٢٠١٢ م، وإدخال المساعدات الواجبة فورا، وعدم جواز إبادة المدنيين والأبرياء لخلاف في التوجهات أو المدارس السياسية المتبناة.
- إيقاف إذن تحليق طائرات العدو الصهيوني فوق أجواء السلطنة الأخير، بسبب عدم احترام الكيان لها، واستخدامه للأموال التي وفرها من فتح الاجواء لشراء السلاح وإبادة الشعب الفلسطيني في غزة، واستجابة لموقف الشارع العماني ومطالبه.
- الإيعاز لوزارة الإعلام والمؤسسات الخاصة والعامة ذات الصلة إلى تحديث مصطلحاتها في ما يخص القضية العربية في فلسطين، وذلك باستبدال (إ سر ا ئـ ي ل) بفلسطين المحتلة، وبشمالها، شمال فلسطين المحتلة، وجنوبها وشرقها وغربها، وأن تستبدل دولتها بالكيان المحتل أو الغاصب أو العدو أو غير ذلك
- تعزيز المناهج المدرسية بآداب مقدسية، تزرع في النشأ المعرفة بمقدساته وتقديرها
- توجيه المؤسسات المعنية في السلطنة بإقامة الندوات والمحاضرات التي تدعم قضية فلسطين، ودعوة المنظمات والمؤسسات اليهودية العالمية المناهضة للكيان المحتل، والداعمة لقيام دولة فلسطين التاريخية موحدة وحرة من جديد، وذلك لإبعاد شبح الحروب الدينية، وأيضا تقوية التواصل والتعايش بين الأديان
- مخاطبة الجهات الدولية ذات الصلة بأننا سنقوم بالاعتراف بالدولتين معا، وسنسحب أي اعتراف لنا بالكيان حتى قيام دولة فلسطين جنبا الى جنب حسب القرارات الدولية وقرارات الأمم المتحدة في هذا الشأن
- التحرك السياسي وحث الدول العربية والاسلامية على توحيد موقفها، وتغيير استراتجيتها وتوحيد التعامل مع الكيان على هذا النحو المختار، والكف عن طلب وده، والمذلة المصاحبة لذلكم الطلب، والتي توجت بما نعيشه اليوم من مقام رخيص للعرب مقابل مقام الكيان لدى دول النفاق الغربية
أخيرا نقول للعمانيين وأحرار العالم أجمع، (قَد تَّبَيَّنَ ٱلرُّشۡدُ مِنَ ٱلۡغَيِّۚ فَمَن يَكۡفُرۡ بِٱلطَّٰغُوتِ وَيُؤۡمِنۢ بِٱللَّهِ فَقَدِ ٱسۡتَمۡسَكَ بِٱلۡعُرۡوَةِ ٱلۡوُثۡقَىٰ ٢٥٦/ البقرة)، وقد أدى واجبه، ومن أبرز أسلحة هذا الواجب اليوم المقاطعة، مقاطعة الدول الملطخة يداها بدماء الأطفال والنساء والأبرياء في غزة وفلسطين، عربا كانوا أو عجما، والقيام بحملات حقيقية وتثقيفية عالمية، وحث العالم الحر على المقاطعة، نصر الله غزة وفلسطين، وحفظ أهلها، وأعز مجاهديها، وجعل الغلبة لهم والتمكين، وجمعنا بهم في المسجد الأقصى ومسرى خير النبيين عاجلا غير آجل، محررا مكرما، وقد عادت فلسطين حرة من البحر إلى النهر.
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الأحد
١٤ ربيع الآخر ١٤٤٥ هـ
٢٩ أكتوبر ٢٠٢٣ م