إن مفترق طرق القارات الثلاث، حيث اختلط ممثلو الثقافات المختلفة وأغنوا بعضهم البعض، كان في طليعة التقدم البشري منذ العصور القديمة، حيث تم اكتشاف أقدم الآثار في سوريا حتى الآن، وتعتبر الألواح المسمارية الطينية من مكتبة إيبلا الشهيرة من أقدم الآثار المكتوبة في العالم.
وخلال القرنين التاسع عشر والعشرين، تطور النظام القانوني السوري إلى الشكل الذي يتخذه اليوم، والذي يتكون بشكل أساسي من تشريعات علمانية ومقننة تعمل كمصدر رئيسي للقانون، مع خضوع سوريا الحديثة لأول مرة للحكم العثماني والانتداب الفرنسي بعد فترة وجيزة من الاستقلال في عهد الملك فيصل في نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث أصبح القانون السوري متأثراًبدرجة كبيرة بالنموذج الأوروبي القاري القائم على نظام القانون المدني، وفي هذا الصدد، أصبح انتشار القوانين التي تتناول مجموعة من المواضيع سمة أساسية للتشريعات السورية، والتي بدأت في البداية عندما أدخل العثمانيون مجموعة من القوانين النابليونية إلى سوريا قبل أن تفرض السلطات الفرنسية انتدابها لمدة 26 عاماً، وبينما كان لهذه المصادر الأجنبية تأثيرها على مضمون القوانين الصادرة في سوريا، إلا أن المشرعين في دمشقتطلعوا أيضاً إلى الدول العربية في المنطقة مثل لبنان ومصر لتحذو حذوها عند صياغة التشريعات.
ومن هذه المقدمة المختصرة، يمكن تقسيم التطور الحديث للقانون السوري إلى فترات زمنية مختلفة خلال القرنين العشرين والحادي والعشرين، حيث وصل عدد من الشخصيات السياسية إلى السلطة في مراحل مختلفة مع وضع أهداف محددة في الاعتبار، فقد تمتعت سوريا تاريخياً بنظام اقتصاد السوق الحر الذي تهيمن عليه طبقة النخبة التقليدية، والتي كانت في طليعة السلطة السياسية بعد استعادة الاستقلال في أبريل 1946، وبالتالي، عززت القوانين التي تم سنها خلال هذه الفترة التجارة والصناعة وحددت من قدرة الدولة على دورها في الاقتصاد على عكس النهج المتبع في السنوات اللاحقة، بالإضافة إلى ذلك، في عام 1949، أصدر النظام العسكري لحسني الزعيم القوانين القانونية الأساسية السائدة في نظام القانون المدني – القوانين المدنية والتجارية والجنائية.
ومن المعروف ان الحضارة السورية منذ نهاية القرن التاسع عشر وبداية الحرب العالمية الأولى، وقفت الحضارة الشامية كما أحب أن أسميها، بين ماضٍ يعود لآلاف السنين زاخراً بالتراث وألوان الثقافات والعادات والتقاليد وبعضها حي حتى الآن، وقد حافظ علماء الشام على موقعهم المتقدم داخل المجتمع الشامي، وجدير بالذكر أن دمشق كانت من أكبر مراكز العلم قبل الإسلام وتفوقت في هذا الجانب بعد اعتناقها الإسلام.
بالتالي، هناك قاسم مشترك بين القانون والدين، حيث أن الدين الذي يعرف بأنه التزام ناتج عن عقد مع الله ، هو مجموعة القواعد التي تحكم العلاقة بين البشرية والله، وأما القانون هو مجموعة القواعد التي تحكم العلاقة بين الناس، والشريعة الإسلامية تلعب دوراً رئيسياً في معظم قوانين الدول العربية، كما في زمن الخلافة وبحثهم المستمر عن الشرعية، اليوم إذا قمنا بمسح معظم الدساتير الحديثة للدول العربية باستثناء الدستور اللبناني، وجدنا أن الشريعة الإسلامية معلنة ، كمصدر للتشريع الوطني.
بالنسبة للنظام القضائي السوري يستمد تشريعاته بشكل أساسي من القانون المدني الفرنسي، وكذلك التقاليد القانونية الإسلامية والمصرية، سوريا لديها نظام قضائي مزدوج، مع محاكم علمانية ودينية منفصلة، حيث تنظر المحاكم العلمانية في المسائل المدنية والجنائية، وفي أدنى مستوى توجد محاكم التوفيق، ومحاكم الدرجة الأولى، ومحكمة الأحداث ومحكمة الجمارك (المحكمة الجمركية)، حيث يتم النظر في القضايا المعروضة على هذه المحاكم من قبل قاض واحد يتم تكليفه بالاختصاص وفقاً لطبيعة القضية.
وبالنظر لأن سوريا دولة علمانية ذات سكان ينتمون إلى ديانات مختلفة، فمن الطبيعي أن يكون المشرع السوري قد نص على أنظمة محاكم متخصصة للأديان الرئيسية في سوريا للنظر في القضايا المتعلقة بكل مجتمع الأحوال الشخصية، هذه المحاكم الخاصة هي المحاكم الإسلامية والعقائدية والروحية، وكذلك المحاكم الإسلامية (الشريعة الإسلامية)، تنظر في القضايا المتعلقة بالأحوال الشخصية والأسرة ونزاعات الميراث بين المسلمين السوريين والمسلمين غير السوريين الذين يلتزمون بقوانين الأحوال الشخصية الإسلامية في بلدانهم، كما تقوم المحاكم الروحية بتسوية الأحوال الشخصية للمسيحيين الذين ينتمون إلى طوائف مختلف.
وعندما كانت سوريا تابعة للدولة العثمانية، في عام 1876، أعلنتالدولة العثمانية رسمياً أن جميع الرعايا متساوون، وبالتالي أدخل مفهوم المواطنة العثمانية في قانون الأسرة العثماني لعام 1917، حيث تم استبدال محاكم الأسرة لمختلف الطوائف الدينية بمحاكم أسرة واحدة من مختلف الطوائف الدينية واستبدلت بمحكمة أسرة واحدة لجميع الرعايا العثمانيين، حيث ظل القانون العثماني لحقوق الأسرة لعام 1917 سارياً في سوريا حتى عام 1953 حتى نشر الشيخ علي الطنطاوي، قاضي دمشق، رسالة حول قانون الأحوال الشخصية توضح بالتفصيل القواعد القانونية المستمدة من مختلف مدارس الشريعة الإسلامية بما يتوافق مع الظروف الاجتماعية الجديدة في سوريا، وقد اتخذت هذه الرسالة كمصدر أساسي من قبل اللجنة التي أنشأتها الحكومة السورية لصياغة قانون الأحوال الشخصية.
وجدير بالذكر أن قاضي دمشق الشيخ علي طنطاوي المتوفى عام 1306 هـ، وهو محمد بن مصطفى، الطنطاوي مولداً، الدمشقي موطناً، الشافعي مذهباً، وكان فقيهاً عالماً بالعربية والفلسفة والعلوم، ومن آثاره “البسيط” وهو آلة فلكية الموضوع في منارة العروس بالجامع الأموي، الأصل من طنطا في مصر حيث نزح جده منها إلى دمشق سنة 1255هـ، أي منذ قرن وثلاثة أرباع القرن، برفقة عمه، وكان عمه هذا عالماً أزهرياً، حمل علمه معه إلى ديار الشام، حيث جدد فيها العناية بالعلوم العقلية ولا سيما الفلك والرياضيات، والشيخ الدمشقي علي طنطاوي (1909 – 1999) يحمل نفس الاسم، وهو فقيه وأديب وقاضٍ سوري، يُعد من كبار أعلام الدعوة الإسلامية والأدب العربي في القرن العشرين.
واتبعت سوريا المذهب الحنفي للآراء الشرعية القانونية في ظل الحكم العثماني، ولا يزال معمولاً به حتى اليوم في (المادة 305 من قانون الأحوال الشخصية لعام 1953) ومع ذلك، استفاد القانون أيضاً من حرية اختيار القواعد المناسبة من مدارس القانون الإسلامية الأخرى، وجدير بالذكر أن أعلن القانون أن الرأي السائد في المذهب الحنفي للفقه ، المدرسة السائدة للأفكار الإسلامية في ظل الحكم العثماني ، هو القانون المتبقي(المادة 305 من قانون الأحوال الشخصية لعام 1953) ومع ذلك إن القانون استفاد أيضاًمن حرية اختيار القواعد المناسبة من مدارس القانون الإسلامية الأخرى.
وتجدر الإشارة إلى أنه يوجد في الإسلام تسعة عشر مدرسة فقهية تم تطويرها خلال القرون الأربعة الأولى للإسلام وكانت سائدة آنذاك، يجدر الذكر أنها اندثرت كالمهذب الظاهري والأوزاعي وغيرهما، ومع سقوط بغداد (عام 1258 على يد المغول)، ثم تضاءل عدد المذاهب الكبرى إلى خمسة وفي الوقت الحاضر، هناك أربع مدارس فقهية رئيسية بين المسلمين السنة هي: المذهب الحنفي (أسسه الإمام أبو حنيفة 699-767) في العراق، والمذهب المالكي (أسسه الإمام مالك بن أنس 711-795)، والمذهب الشافعي (أسسه الإمام الشافي المولود في غزة 767-819)، والمذهب الحنبلي (أسسه الإمام أحمد حنبل 780-841 )، أما المذهبالشيعي، يتبع المدرسة الجعفرية التي تنسب آرائها الفقهية للإمام جعفر بن محمد الصادق، أحد أعلام علماء الفقه في العالم الإسلامي، وروت عنه الكتب الحديثية كلها، الذي تناولنا سيرته في مقال مطول في وقت سابق، بالتالي، كان لهذه المدارس، إلى حد ما، توزيع إقليمي: على سبيل المثال، انضمت شمال إفريقيا وإسبانيا الإسلامية إلى المدرسة المالكية، وآسيا الوسطى والأراضي التي سيطرت عليها الدولة العثمانية كانت تتبع المدرسة الحنفية.
بالتالي المذاهب التي اندثرت إلى جانب المذاهب الأربعة جميعها تستمد تشريعاتها من القرآن والسنة، وجميع تلك المذاهب أصولها واحدة، والناس يتبعون اجتهادات العلماء أصحاب المذاهب الأربعة المذكورين أعلاه، أو آرائهم أو استنباطاتهم أو فهمهم للكتاب والسنة أي لا أحد يتبعهم كأشخاص وهنا وجب التوضيح، خاصة وأنهم أئمة كبار وكلمة إمام لها جذر لغوي أي الشخص الذي برع في فن من الفنون وتمكن منه،
وعلى الرغم من أن سوريا تعتبر نفسها دولة علمانية ولا تضع أي أحكام دستورية لسيادة الإسلام أو الشريعة، فإن العكس هو الحال بالنسبة لنظامها القانوني لقانون الأسرة، هنا الدين من يحكم وليس المواطنة والدين هو العامل الحاسم، على سبيل المثال في المادة 306 من النيابة العامة، تقرر أن الشريعة الإسلامية هي السائدة في سوريا، لأنها تنطبق على جميع السوريين، ولكن يتم إجراء استثناءات على أساس الدين للدروز والمسيحيين واليهود، حيث يتم منحهم الاستقلال التشريعي والقضائي في مجال قانون الأسرة بموجب المادة 306 من القانون الجنائي.
بالتالي، قبل تمرير القانون المدني السوري في 18 مايو 1949، كانت الأحكام العدلية، القانون المدني للدولة العثمانية، قابلة للتطبيق في الشام، واستمر العمل بها حتى بعد الدولةالإمبراطورية العثمانية وأثناء الانتداب الفرنسي على سوريا، حتى عام 1949 عندما أطيح بالحكومة الوطنية السورية من خلال انقلاب عسكري بقيادة حسني الزعيم، أول انقلاب في العالم العربي، حيثأصدر الزعيم القانون المدني السوري الحالي بموجب المرسوم التشريعي رقم 84 لعام 1949 الذي يحتوي على القانون المدني السوري الذي لا يزال سارياً في سوريا وألغى تطبيق الدولة العثمانية، على سبيل المثال، توضح المادة الأولى من القانون المدني السوري أهمية الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع في النظام القانوني السوري، إذا كان القانون المدني صامتاً بشأن نقطة قانونية محددة، فيجب على القاضي إيجاد الحل في الشريعة الإسلامية، حيث يمكن للقاضي أن يشير إلى العرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة فقط، إذا لم يتم العثور على حل في الشريعة الإسلامية، هذه الإحالة إلى الشريعة الإسلامية إلزامية للقاضي السوري، في حالة عدم نص أحكام القانون المدني على حكم في مسألة قانونية معينة، من ناحية أخرى، في حين أن مبادئ الشريعة الإسلامية هي مصدر تكميلي للقانون، إلا أنها لها الأولوية على العرف ومبادئ القانون الطبيعي وقواعد العدالة، وذلك لأن مبادئ الشريعة تتمتع بوضوح الأحكام لأنها ترتكز على قواعد ومبادئ الفقه الإسلامي المستقرة.
كما أن أهمية الفقه الإسلامي تتجلى بشكل أفضل في المحكمة الجزائية المتخصصة، حيث تم أخذ العديد من النظريات القانونية والحلول العملية من كتب الفقه، لتقديم أحكام عادلة ويمكن التحكم فيها لحل المشاكل التي تلت ذلك في المجتمع الإسلامي، بالتالي كان الفقه مصدراً للتشريع، وقد استند العلماء إلى المبادئ العامة والقيم المهمة الموجودة في القرآن لربط وتوفيق وتوازن الأحكام المتباينة التي تم الحصول عليها من خلال الاستدلال الاستنتاجي من نصوص قرآنية معينة.
بالتالي، كان القرن التاسع عشر فترة تم فيها الإصلاح القانوني الجذري في العالم الإسلامي، بسبب عاملين كان أحدهما تأثير توسع القوى الغربية الاستعمارية في العالم الإسلامي وتغريب الدولة والمجتمع مما استلزم اعتماد القوانين الغربية، والآخر كان من السكان الأصليين: ظهور دول حديثة ذات بيروقراطيات مركزية، سواء في المستعمرات أو في البلدان التي حافظت على استقلالها، حيث تحتاج هذه الدول إلى نظم قانونية جديدة، ولا سيما نظم جديدة للقانون الجنائي.
كما اتخذ إصلاح القانون الجنائي في العالم الإسلامي خلال القرن التاسع عشر ثلاثة أشكال: الإلغاء الكامل للقانون الجنائي الإسلامي، وإصلاح القانون الجنائي الإسلامي، وإصلاح نظام العدالة من خلال زيادة تدوين الجرائم والعقوبات لإخضاع النظام لشكل من أشكال سيادة القانون، أما في سوريا، قانون العقوبات العثماني لعام 1858 الذي استمد في الأصل من الشريعة الإسلامية والعادات المحلية ولاحقاً من القانون الفرنسي، ألغي بالكامل في عام 1949 وحل محله قانون العقوبات اللبناني الذي أخذ أحكامه بشكل أساسي من القانون الفرنسي، بالإضافة إلى القانون الإيطالي لعام 1930 والقانون السويسري لعام 1937، بزعم أن القانون العثماني لم يعد مناسباً لاستيعاب تطور الحياة الاجتماعية والاقتصادية والتجارية والفكرية في سوريا، وبالتالي ، فإن القانون الجنائي الإسلامي لا ينطبق في سوريا كما هو الحال في بعض الدول العربية مثل المملكة العربية السعودية واليمن، وغيرهما.
وتجدر الإشارة إلى أن قانون العقوبات السوري يحمي ممارسة الشعائر الدينية ويفرض عقوبة على تدنيس أماكن العبادة (المادة 463)، أو التدخل في ممارسة الشعائر الدينية، أو ارتكاب أي عمل آخر ينطوي على إهانة الشعائر الدينية التي تمارس علناً (المادة 462)، وهذا على عكس بعض الدول الأخرى التي تعمل وفق القوانين الغربية وتدعي العلمانية.
بالمحصلة، لا شك أن هناك مكاناً للقانون الديني داخل النظام القانوني العلماني في جميع أنحاء العالم، لكن من ناحية أخرى، لا يمكن ضمان الاستقرار والازدهار إلا عندما ترتكز العلاقات بين الدولة ومواطنيها بقوة على احترام سيادة القانون، والشام واحدة من أقدم الحضارات على وجه الأرض، كما أن المشرع السوري الذي يدرك الطبيعة الثقافية والدينية المتنوعة للمجتمع السوري من جهة وأهمية الإسلام، دين غالبية الشعب السوري من جهة أخرى، اعتمد نظاماً قانونياً يستخدم الفقه الإسلامي كمصدر مهم للتشريع.
فقد أثر الفقه الإسلامي إلى حد كبير على صياغة القانون الإسلامي السوري للأحوال الشخصية الذي ينطبق على جميع المواطنين السوريين في جميع مسائل الأحوال الشخصية، باستثناء الزواج والطلاق، كما استعار المشرع السوري العديد من المذاهب والمبادئ القانونية من الفقه الإسلامي الذي يستخدم المنطق الاستنتاجي والأساليب القانونية الأخرى لضمان استمرار الدين الإسلامي في تقديم حلول لمشاكل المجتمع الإسلامي المعاصر.
ويقوم النظام القانوني السوري، باستثناء قانون الأحوال الشخصية ، على المواطنة وليس على الدين، على هذا النحو، يقدم النظام القانوني السوري التعددية القانونية كحل للاستجابة للاحتياجات الناشئة عن التنوع الثقافي والديني للمجتمع السوري مع الحفاظ في الوقت نفسه على الوحدة الوطنية السورية، وهو تحد خطير في الشرق الأوسط يتعرض باستمرار للتجزئة.
يتبع..
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.