لا يمكن أن يكون أسلوب أي عمل مثالياً إذا لم يكن يتميز بالنقاء، أي الامتثال للمعايير الصوتية والنحوية والمعجمية للغة، وفقاً لعلماء فقه اللغة المسلمين، فإن نزول القرآن باللغة العربية المبينة يفترض مسبقاً عدم وجود أي تناقضات فيه مع المعايير اللغوية المقبولة عموماً.
في أعمال النحويين في العصور الوسطى، تم إثبات قواعد الصرف والنحو من خلال أمثلة عديدة من الكتاب المقدس (الإنجيل)، وكذلك من الشعر الجاهلي، وبطبيعة الحال، لا النص المقدس ولا مجموعة القصائد الجاهلية هي مصدر قواعد اللغة بأكملها، ومع ذلك، فإنها توفر مادة توضيحية غنية، والتي أشار إليها علماء فقه اللغة الموثوقون مثل ابن السراج (تـ 929)، وابن الأنباري (تـ 940)، الزجاجي (تـ 949)، وابن جني (تـ 949).
حتى الغرب اعترف بنقاء المقطع القرآني، على سبيل المثال كتب المستشرق البلجيكي هنري لامنس: “من وجهة نظر فقهية، فإن أسلوب القرآن هو في أعلى مستوياته”، وهناك شكل من أشكال الالتفات يثير العديد من الأسئلة والمناقشات – وهو تغيير حالة الأسماء، ويشمل ذلك، على سبيل المثال، استخدام كلمة الصَّابِرِينَ الصَّلاةَ بدلاً من صيغة الاسم الصَّابِرُونَ (سورة 2 “البقرة”، الآية 177) ، وعبارة الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ بدلاً من صيغة الحالة الاسمية. الْمُقِيمُونَ الصَّلاةَ (سورة النساء، الآية 162)، وكما لاحظ الزركشي، فإن مثل هذا الأسلوب يعمل على عزل هذه الكلمات عن عدد من الأعضاء المتجانسة نظرا لأهمية المسائل المرتبطة بها والمكانة الخاصة التي تحتلها في السورة، ومن ثم فقد تكررت أهمية الصبر في سورة البقرة (الآيات 153، 155، 177، 249)، كما تكررت المسائل المتعلقة بالصلاة في سورة النساء (الآيات 43، 77، 101-3، 142، 167)، بالإضافة إلى ذلك، فإن تغيير حالة هذه الأسماء لا يؤدي إلى تعقيد فهم معناها وارتباطها بالكلمات الأخرى في الجملة.
أما القرطبي فله وجهة نظر في هذا السياق، حيث يمكن استخدام تغيير الحالة في القرآن لمدح أو إلقاء اللوم على شخص ما أو شيء ما، لأن مثل هذه الأداة غالباً ما تستخدم في الشعر العربي، وعلى وجه الخصوص، تؤكد الآيات المذكورة أعلاه من سورة البقرة وسورة النساء على فضل الصابرين والمقيمين على الصلاة، ومن ناحية أخرى، في الآية: «ملعونون، أينما وُجدوا أُخذوا» (سورة 33 «الأَحْلَاءُ»، الآية 61) كلمة مَلْعُونِيْنَ في حالة النصب لتشديد الذنب على هؤلاء الناس.
كما يصنف بعض الباحثين الاستخدام المتكرر للاسم بدلاً من حرف الجر على أنه “إلتفات”، ومعلوم من البلاغة العربية أنه يتم اللجوء إلى مثل هذه العبارات في الحالات التي تريد فيها إعطاء تعبير إيحاءات عاطفية إضافية، وهكذا تكرر اسم الله في كثير من الآيات عدة مرات، على سبيل المثال: “ولله المشرق والمغرب”، “وأينما تولوا فثمة وجه الله”، “إن الله واسع عليم” (سورة 2 “البقرة”، الآية 115)، فذكر الاسم الإلهي في ثلاث جمل متجاورة يمنح كلاً منها السلامة الدلالية والاكتفاء الذاتي والاستقلال، وهذه الميزة متأصلة في نص القرآن بأكمله، وكثير من الآيات تنتهي بجمل مستقلة مثل “إن الله واسع عليم” أو “إن الله غفور رحيم”، حيث أن مثل هذه النهايات تعطي الآيات قوة خاصة وغير مشروطة.
وبالإضافة إلى الأشكال المختلفة للالتفات ، فإن صعوبات النحو القرآني عادة ما تشمل استبدال بنية صرفية بأخرى، على سبيل المثال، في بعض الآيات، يتم استبدال صيغة الجمع أو الثنائي للأسماء بنموذج فَعِيلٌ: «وَالْمَلائِكَةُ ظَهِيرٌ» (سورة 66 «النهي»، الآية 4) ؛ «ما أجمل هؤلاء الأصحاب» (سورة النساء، الآية 69)، إن مثل هذه العبارات بمثابة “تناقض بين العدد المحدد منطقياً لموضوعات الفعل والتصميم النحوي لهذه الموضوعات، ولكن الأمر ليس كذلك، لأن نماذج تكوين الكلمة فَعِيلٌ وفَعُولٌ تتوافق مع أسماء المذكر والمؤنث للمفرد والجمع والمثنى.
بالتالي، إن استخدام شكل صرفي للدلالة على شكل آخر أمر مقبول في الكلام العربي وغالباً ما يوجد في القرآن، وتشمل الحالات الشائعة استخدام النعت النشط (اسم فعيل) بدلاً من اسم المفعول ( اسم مفعيل)، والعكس صحيح، على سبيل المثال، كلمة آمِنٌ “آمنة” تستخدم في معنى مَأْمُونٌ “آمنة” (سورة 29 “العنكبوت”، الآية 67) ، وكلمة مَأْتِيّ “ما يأتون إليه” – في معنى آتٍ “مجيء” (سورة (19) “مريم”، الآية 61)، يتضمن ذلك أيضاًاستخدام كلا النوعين من النعوت بدلاً من مصدر، على سبيل المثال، الكلمات كَاذِبَةٌ ‘خطأ’ بدلاً من تَكْذِيبٌ ‘إنكار’ (سورة 56 “الحدث”، الآية 2) أو مَفْتُونٌ ‘ممسوس’ بدلاً من فِتْنَ ةٌ ‘ “الجنون”، “الملك” (سورة 68 “القلم”، الآية 6) .
وهناك أنواع أخرى من بدائل الإنشاءات الصرفية في القرآن، والتي تم وصفها بالتفصيل في رسالة الزركشي.
وهكذا، في أعمال التفسير والدراسات القرآنية، يتم شرح وتبرير امتثال الوسائل المعجمية النحوية للقرآن لمتطلبات قواعد اللغة العربية، ولفترة طويلة، كانت دراسة نحو القرآن الكريم تسير بالتوازي مع تطور تقليد التفسير، وبشكل عام، تظل لغة القرآن اليوم مثالاً غير مسبوق للبلاغة العربية، ويمكن القول إن اللغة العربية تدين للقرآن الكريم بحقيقة أن مبادئها النحوية والإملائية ظلت دون تغيير لعدة قرون.
واستكمالاً لسلسة تفسير سورة طه والتي وصلنا فيها إلى آخرها، حيث خصص جزء كبير من سورة طه لتاريخ النبي موسى وأخيه هارون عليهما السلام، كما تمت مناقشة مسألة سيدنا آدم وإنزاله إلى الأرض، إلى جانب النشأة والبعث، ونتائج الإيمان بالتوحيد، والاعتدال في كل شيء، وعظمة القرآن، وبهاء الله وجماله.
قال تبارك وتعالى في الذكر الحكيم: (ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلما ولا هضما وكذلك أنزلناه قراءنا عربيا وصرّفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكرا فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل ربي زدني علما ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم تجد له عزما وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى وأنك لا تظمؤا فيها ولا تضحى فوسوس إليه الشيطان قال يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى فأكلا منها فبدت لهما سواءتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى قال اهبطا منها جميعا بعضكم لبعض عدو فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى فال ربِّ ام حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تُنسى وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى أفلم يهد لكم كم أهلكنا قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآياتٍ لأولي النهى ولولا كلمة سبقت من ربك لكان لزاماً وأجل مسمى فاصبر على ما يقولون وسبّح بحمد ربك قبل طلوع الشمس وقبل غروبها ومن إناء الليل فسبح وأطراف النهار لعلك ترضى ولا تمدّن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا لنفتنهم فيه ورزق ربك خير وأبقى وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك والعافية للتقوى وقالوا لولا يأتينا بآية من ربه أو لم تأتهم بينة ما في الصحف الأولى ولو أنّا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذل ونخزى قل كل متربص فتربصوا فستعلمون من أصحاب الصراط السوي ومن اهتدى).
في الآيات الكريمة تُطرح مسألة التواضع أمام الله والخسارة حكماً للمتكبرين أي للكفار، فمسألة التواضع دائماً ما تكون القدوةالحسنة، ومن تواضع وعمل الخير لا يجب أن يخشى أحد فأعماله الصالحات حصن حصين له ولت تزداد الذنوب ولن ينقص الأجر، فكن مؤمناً لأن الأعمال بدون إيمان لا تُقبل، لقد أنزل كتاب الله عربياً وتم تم تفصيله بحسب فهم المنطقة واستيعابها ويكون كتاب قوة يحصن المؤمنين به ويكون صلة الوصل بيننا وبينهم، والقرآن الكريم يوضح كل شيء لكن قبل كل شيء يجب ألا يتعجل الحكم حتى ينتهي الوحي حينها سيقولون إن الله تبارك وتعالى زادهم علماً ومعرفة.
أما بالنسبة لنقض العهد فهي من الكبائر، وكان الله سبحانه وتعالى قد عهد إلى سيدنا آدم عليه السلام آلا يأكل لكنه نقض أمر الله وأكل وهكذا لم يكن لديه ذاك الصبر لتنفيذ أوامر الله تعالى، وهنا يتأكد مرة جديدة أن إبليس هو عدو الله، وهو عدو سيدنا آدم وزوجته وخروجهم من الجنة التي لا جوع فيها ولا عذاب، فكانت بداية شقائهم، لأنه الآن عليه أن يوفر لزوجته المسكن والملبس والطعام، لكن بعد أن أكلوا من الشجرة عصوا أمر ربهم ولاحظوا مباشرة سء ما ارتكبوه، لكن الله غفور رحيم سامحه وتاب عليه وهداه للطريق المستقيم، وأنزلهم الأرض وسيخرج من نسلهم ناس كثيرة لكن من يؤمن بالله لا يتعب ولا يشقى، لا في الدنيا ولا في الآخرة، لكن من يعرض عن ذلك فله العذاب الكبير بدءاً من عذاب القبر، إلى عماه يوم القيامة، فقد أعد الله التوفيق لمن تمسك بالدين وتوكل عليه، بالتالي، إن الشخص الذي لا يستمع للقرآن، حتى لو كان غنياً جداً، لا بد أن يشعر بالقلق الدائم من ضياع ما لديه، بعد كل شيء، الهدف الوحيد لمثل هذا الشخص هو الحياة الدنيوية، أما المؤمنون الذين اتبعوا القرآن، إذ استسلموا للقدر ورضوا ووثقوا بالله، فستكون حياتهم في غاية الهدوء والسكينة، مهما كانوا فقراء.
فمصير الكافر سيء جداً والعمى أحد أشكال هذا المصير، والتجارب القديمة تؤكد ذلك ومن قرون عديدة، ولكان شاف البشر العجب العجاب في الدنيا لكن تُرك الحساب إلى ميعادٍ بأمر الله تبارك وتعالى، فالصبر هنا سيد الحلول وكذلك المواظبة على الصلوات الخمس وتسبيح الخالق، وميزان الخير سيكون كبيراً جداً، وعلى سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم ألا يجعل لهذه الدنيا قيمة لأنها ليست دار الخلود، فالمحافظة على فروض الله والواجبات ومخافة الله ستكون الحصن الحصين للمؤمن، وطريق الباطل معروف، ومعروف ما نهاية من يسلكه، وكل ما قبل الوحي ليس كما بعده، وفي يوم القيامة سيتكشف كل من كان مؤمناً بالله ومن كفر به ونبينا الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم سيكون شاهداً على ذلك.
بالتالي، إن تفرد القرآن الكريم لا يكمن فقط في الدور الإيماني في تاريخ البشرية لعدة قرون، ولكن أيضاً في التنوع الشديد للوسائل اللغوية للتعبير الفني المستخدمة فيه، حيث أن القرآن عبارة عن انسجام بين الشكل والمضمون، ووحدة لا تنفصم من اللغة والأفكار الواردة في آياته، ففي نهاية المطاف، يرتبط مفهوم “اللغة العربية” ارتباطاً وثيقاً بنص الآية الكريمة التي تقول: “إنا أنزلنا القرآن بلسان عربي خالص”، حيث لا يمكن لترجمات القرآن أن تنقل جوهره إلا بدرجات متفاوتة من الدقة والاكتمال، ولكن من أجل الاقتراب من الفهم الصحيح للمجموعة الواسعة من الألوان اللغوية للقرآن الكريم للمسلمين، وظلال المعاني والفروق الدقيقة في بنية القرآن، والنص، ومعاني الكلمات الفردية، معرفة الأصل ضروري، وقبل كل شيء، قوانين بناء بنيته – قواعد النحو، وبدون هذا، فإن الفهم المناسب للنص القرآني ككل أمر مستحيل.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.