مثّلت معركة طوفان الأقصى نقطة تحول كبيرة، فهي لم تزلزل الكيان الصهيوني وحده، وإنما زلزلت أمريكا وحلف الناتو، لذلك تجد الأمريكان والغرب يتسابقون نحو الكيان الصهيوني، والكل يقدم الدعم العسكري والمادي، وذلك حتى لا يفقد هذا الكيان توازنه، وعلى إثر غزوة السابع من أكتوبر المباركة، تلك الغزوة الجريئة المُنظّمة والمُعد لها بطريقة ممتازة، قد تعجز دول كبرى أن تقوم بمثلها، فإذا أنت نظرت إلى تلك العملية ستجدها مبهرة في دقة الإعداد والتنظيم والتنفيذ المحكم والدقيق، فقد كانت تلك الغزوة صباحًا مع شروق الشمس، ولم تكن تحت جنح الظلام.
ثم كيف تجرؤ مجموعة من فصائل المقاومة الفلسطينية على مهاجمة جيش كان يُوصف بأنَّه لا يقهر؟! وقد حمى نفسه بجدار عازل من الخرسانة المسلحة، وبسور كبير من الأسلاك الشائكة، والمراقبة الآلية المزودة بالأسلحة التي تطلق النَّار على كل شيء يتحرك في محيطها، ولكن أبطال المقاومة الفلسطينية أزالوا كل تلك العوائق من الأسوار العازلة وبسرعة قياسية، وتعطيل كل الأسلحة التي برمجت لكي تطلق النار بصورة تلقائية، وتقتل كل شيء متحرك، ثم أن يكون ذلك الهجوم بريا وجويا وبحريا، وكأن الذين قاموا به يمثلون فيلماً جيد الإخراج والتنظيم والتنفيذ، فيدخلون بسرعة مذهلة إلى القواعد العسكرية للكيان الرابضة في محيط غزة والمتربصة بها، فيجهزون على من كان في تلك الحامية الصهيونية، فيقتلون جنودها وحراسها، ويدمرون كل شيء كان فيها، ويأخذون أكثر من 250 عنصرًا من جيش العدو الصهيوني أسرى، ومن ضمنهم قائد الحامية، وضباط كبار كثر لم يفصح عنهم جميعًا لحد الآن.
ثم كيف دمَّروا دبابات الميركافا التي قالوا إنِّها لا مثيل لها في هذا الكون من حيث التجهيزات والمُستشعِرات والرادارات، والتي كان من المفترض أن تحميها من أي هجوم مباغت عليها، ولكن أبطال المقاومة الفلسطينية فجّروها وأذاقوا العدو الذل والمهانة، وكسروا غطرستهم وجبروتهم.. لذلك لا نستطيع إلّا أن نقول عن طوفان الأقصى، إنه كان نقطة تحول في تاريخ الصراع بين الشر الصهيوني مقابل خير أهل الأرض الذين تحمّلوا عذابات شديدة من بني صهيون.
ما حدث صبيحة السبت 7 أكتوبر 2023، مثّل ذروة “ثورة الأحرار”، الذين ظل الصهاينة على مدى 75 عامًا يذيقونهم ألوان العذاب والبطش واغتصاب الحقوق والأرض، والتنكيل بكل ما هو فلسطيني، فالقتل يتم في الشوارع وعلى مسمع ومرأى من العالم، وذلك لأبسط الأسباب، فكانت حالات القتل أكثر من حالات إلقاء القبض والاعتقال، وربما كان الصهاينة يرون في ذلك الأسلوب، الطريق الأسهل لهم، وهو القتل الفوري لأنَّ القبض عليهم ونقلهم إلى السجون قد يكون مكلفاً لهم، خاصة وأن اليهود يعتبرون قتل المسلمين والعرب، واجبًا دينيًا حسب معتقداتهم العفنة.
إن الشعاع العالمي الذي خلفته غزوة طوفان الأقصى، قد عمّ دول العالم وحرك ضمائر الشعوب، وأخذوا يجتاحون المدن بمظاهرات ومسيرات يومية، على خلاف رغبة القادة الذين لا يقوون على الخروج من ربقة الصهاينة، وصار العلم الفلسطيني أكثر الأعلام رمزية اليوم، هو والكوفية الفلسطينية، وقد تنبهت الشعوب إلى الدعاية والكذب الصهيوني الذي كان يُصوِّر للناس أنه هو المُستضعَف والمُهدَّد بإلقائه في البحر، فهم يُجيدون فن التباكي وادعاء المظلومية، غير أنَّ الذي يجري اليوم في غزة من قتل مُمنهَج وتدمير شامل، أصبح ظاهرًا للعيان، وذلك بفضل شبكة التواصل الاجتماعي المتطورة، فلم يعد نقل الأخبار حكرًا للمنظمات اليهودية المسيطرة على كبريات الصحف حول العالم وحدها، أو القنوات الفضائية الخاصة بهم، فإذا كانوا قد أخفوا جرائمهم في دير ياسين مع بداية النكبة، فاليوم لا شيء يمكن إخفاؤه عن العالم في عصر ثورة المعلومات.
كما إن هذا الشعاع الذي أحدثه طوفان الأقصى، قد فضح نفاق بعض العرب، عندما يتظاهرون بالحياد، وإن كان لا حياد بين الخير والشر؛ فالغرب المُنافق الذي صدّعنا بالديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة بين الشعوب، كسبب لاحتلالهم للدول العربية والإسلامية من أجل نشر الديمقراطية والعدالة بين الناس، فإنَّ كل ذلك كان مجرد دعاية ماكرة لتدمير البلدان، وقتل من لا يقبل استعبادهم له، ولكن عندما وقع الفأس على الرأس، وتعرض الكيان الصهيوني إلى هزيمة نكراء من أبطال المقاومة الفلسطينية، تقاطرت الدول المنافقة وعلى رأسها أمريكا، والدول الغربية صارت مُستعبَدة من قبل أمريكا وتأتمر بأمرها، لذلك تجدهم في سباق محموم لنصرة إسرائيل، فأتوا بجحافل أساطيلهم وطائرات، ليس للدعم المعنوي للصهاينة، وإنما للمشاركة المباشرة في الحرب ضد الشعب الفلسطيني المظلوم.
إن المرء ليعجب ليس من هذه المؤازرة القوية من أمريكا والغرب لإسرائيل، فذلك كان ظاهرًا ومعلومًا لكل ذي لب، ولكن العجب كل العجب من مواقف عربية وازنة، فعندما يتكالب الغرب على العالم العربي، ويُعلن مواقفه ضد العرب والمسلمين نهارًا جهارًا، تجد في المقابل من بعض العرب كل سلبية وخذلان وكأن لا شيء مهم، لذلك لن تجد من ينتفض لنصرة إخوانه في العروبة والإسلام، فلم يستجب لداعي الحق إلا أنصار الله في اليمن، وبعض من شعب العراق، والمقاومة الإسلامية في لبنان، ترى ألا يشعر البقية أن الخطر الصهيوني يُحدق بنا جميعًا؟! ألم يقرأوا النشيد الوطني للصهاينة الذي يبدأ بالشتم والسب والقدح في العرب، وينتهي بالتهديد والوعيد في تدمير الأمتين العربية والإسلامية.
الذين سلَّموا بالطاعة والولاء للصهاينة، يعيشون حالة مفروغ منها، لقوله تعالى عز وجل: “قُلْ مَن كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا” (مريم: 75).. إذن مثل هؤلاء أصبحوا بلا حول ولا قوة أمام الصهاينة، وأنهم بدلوا بدينهم أديانًا أخرى نزولًا مع رغبة الصهاينة قتلة الرسل والأنبياء، وقد كانوا ومازالوا في حرب مع الله ورسوله، وهناك حكم مبرم في حق الموالين لليهود والنصارى بنص القرآن الكريم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ” (المائدة: 51).
إنَّ شعب فلسطين في غزة يتعرض لإبادة من دول الكفر والطغيان، فإذا أنتم تعادون حماس لتدينها، فذلك شأنها مع ربها، وهي على حق وأنتم على باطل، وكان أولى بكم أن تعادوا حاخامات اليهود، الذين يشرّعون قتل العرب والمسلمين، ولكن ما ذنب الأطفال أن يقتلوا في بيوتهم وفي المستشفيات وفي منازلهم؟! أو يموتون جوعًا ومرضًا، وأنتم متخمون بنعم الله، إذ بلغ اليوم عدد الشهداء أكثر من 21 ألف شهيد؛ معظمهم من النساء والأطفال، فهناك الآلاف تحت أنقاض المباني، فماذا عساكم تقولون للحكم العدل يوم لا ينفع مال ولا بنون، وأنتم باستطاعتكم وقف هذه المجازر التي لم يشهد لها مثيل في التاريخ.
شعاع الطوفان عمَّ الكون كله شرقه وغربه، وسيحررهم من سيطرة اليهود على العالم، علاوة على أنه سيحرر الأمة العربية من الخوف الخنوع لوحوش العصر، الذين بلغ بهم الطغيان إلى هذا القدر من الجبروت في سفك الدماء، ففلسطين كلها تحت لإبادة والقمع الممنهج، فأما الموت وأما التهجير القسري، لكن رغم كل هذه الأهوال فإن الشعب الفلسطيني منتصر بإذن لله، رغمًا عن أنف أمريكا وأوروبا وكل مفسد جبار، لأن وعد الله حق وأنه ينصر من ينصره فحاشا لله أن يجعل الغلبة في أيدي الظالمين، وسيظل الأمل في جند الله أن يكسروا جبروت الصهاينة وكل من يقف موقفهم.. والله أكبر، إنه لجهاد نصر أو استشهاد.
حمد بن سالم العلوي