“.. إني هنا أعمل لعمان أرضا وشعبا، بل إن كل عملي لها ولشعبها..” قابوس بن سعيد 11/2/ 2006م
ما أعظمها من كلمات ، واصدقها من حقائق ، وأحكمها من درر ، وأجلها من مزون الحكم ، ممارسة فعلية، ومنجزات عظيمة، وإرث خالد، حياة حافلة بالعطاء والانجاز والحب لعمان وشعبها الوفي، رحل سلطان عمان قابوس بن سعيد وقد أنجز رسالته نحو شعبه، وأدى أمانته نحو عمان خير أداء، فوعد وأوفى، وصدق فأرسى دعائم البنيان، وأنجز وعدل، وسار في الناس سيرة حسنة، نقل خلالها عمان في نصف قرن إلى مستويات عالية من التطور والتقدم والتنمية الشاملة المستدامة في مختلف المجالات، يقف القلم عاجزا عن وصفها، تحكي قصة قائد ألهم العالم بعظيم فضله، وجميل فعله، وسمو مكانته وقدره، فأرسى دعائم الأمن والسلام، وأعلى من قيمة النظام والحفاظ عليه كجزء من الشخصية العمانية وخصوصية النهضة وتفردها، شهد بها القاصي والداني، والقريب والبعيد، منجزات في صورة معجزات شهدتها نهضة عمان ، وما أسرع مضي الأيام حتى جاء العاشر من يناير يوم عمان الحزين من عام 2020 ، ليسدل الستار على حياة الإنسان القائد العظيم، بلسم عمان ونورها وضيائها وسيدها الذي أحب عمان بصدق وعشقها بإخلاص وقدمها على حياته فداء لها، وبعد خمسة عقود مفعمة بالعطاء الممدود والانجاز المحمود المكلل بالجد والعمل البنّاء، ترجّل ابن عمان البار عن فرس الحياة ، تاركا إنجازات عظيمة لوطنه وشعبه في صورة معجزات ، رسمت المنهج وحددت الهدف ووجهت النهج، وأوضحت الطريقة، ولخصت سنوات العمل المنظم والمخطط، لتلامس شغاف النفس وتحكي قصة أمة، وأمل شعب، وفكر قائد، لا للتذكير بما أنجز أو التعريف بما تحقق فهو واضح للعيان وعايشه الجميع في كل مكان، وتحدث به كل من زار عمان، فلقد أسمعت منجزات النهضة كل ذي آذان فلا تحتاج إلى تبيان، ووصلت حسنات جلالة السلطان الراحل إلى كل مكان في العالم فبكته الأرض والسماء، وحزن على فراقه العالم أجمع، وتسابقت المنظمات الأممية والإقليمية في تأبين جلالته وذكر مناقبه ، فلقد كانت وفاته فاجعة للإنسانية لما قدمه طيب الله ثراه من مآثر خالدة باقية ما دامت السموات والأرض.
وفي سرد لمرارة الزمن الذي عاشه العمانيون قبل قابوس عمان عام 1970م، وما صاحبها تردي الأوضاع وتدهور الحياة وتحديات الواقع المريرة المحزنة، فمقومات البنية الاساسية تحتاج إلى موارد وإمكانات بشرية لاستخراجها وقبل ذلك هي بحاجة إلى توفر مقومات الأمن والأمان والاستقرار والبيئة التي تعزز الإنتاج وتولد الابتكار، فلم تكن تلك ظاهرة للعيان، ولم تكن ملامسة لحياة الإنسان، كما أنه لا وجود لدولة قوية ونظام عصري يتفاعل مع العالم، ناهيك عن الظروف الصعبة التي تحيط بالوطن وأمنه واستقراره في عالم تتجاذبه قوى خارجية، لقد كانت البداية تحتاج إلى بعد نظر ورصد للأحداث ورؤية واقعية للتحديات التي واجهت النهضة ، وقراءة لواقع هذه التحديات وتأطيرها في قالب محدد لدراستها وتشخيصها وأخذ مؤشرات النجاح المتوقعة في الرؤية الجديدة التي نفذتها القيادة الحكيمة في التعامل مع التحديات، قراءة في أعماق المشكلة ذاتها بل قراءة لواقع الإنسان العماني وطموحاته ومتطلباته في تلك الفترة، غير أن القيادة الحكيمة كانت سباقة لكل ذلك، فكانت على موعد مع التحول الجديد الذي بدأ في الثالث والعشرين من يوليو من عام 1970م، حيث انتهج سلطان عمان الراحل خطوات عمل مدروسة وواضحة في بناء الدولة وقيادة الأمة العمانية وتعزيز دور الإنسان العماني ليسهم بشكل فاعل وإيجابي في بناء ذاته ووطنه والحضارة الإنسانية المعاصرة.
لقد أراد سلطان عمان الراحل طيب الله ثراه أن تكون لعمان تجربتها الفريدة التي تشكل هويتها الحضارية ورؤيتها الإنسانية الشاملة والواعية لعالم يسوده السلام والتمية والعدل والأمن والاستقرار، وتوجهات وطنية تقوم عليها برامج التنمية محققة للطموحات آخذة بيد الانسان العماني لمزيد من العيش الكريم والرفاه المستدام، وهي تجربة اتسمت بالواقعية فلم تفقد أصالتها ولم تتنكر لمنجزات الفكر الإنساني المعاصر بل ربطت بينها وعززت من تكاملهما بما لا يطغى أحدها على الآخر في إطار من التسامي والتكامل، وهي بذلك تقوم على أرضية صلبه وتوجيه حكيم وقراءة تأخذ بعين الاعتبار أبعاد الحاضر والمستقبل، وهي بواقعيتها وتوازنها هذه حظيت باحترام العالم وتقديره لها، وعززت من بناء الدولة العصرية وإسهاماتها الحضارية في الساحة الدولية، وبقدر ما أرادها سلطان عمان الراحل طيب الله ثراه أن تكون تجربة فريدة فإنها أيضا تجربة حظيت بقبول الإنسان العماني وثقته فيها وقدرته على التعامل معها بروح من المسؤولية، وأسهمت في تعزيز الوحدة الوطنية وترسيخ القيم السامية والتواصل والتكافل الاجتماعي وعملت على بناء مجتمع منفتح ومتفاعل مع ذاته والآخرين والعالم أجمع مع شعوره بالانتماء لوطنه وأمته ودينه وقيادته، استفاد من الفرص المتاحة له وعالجها في إطار عملي واقعي محلي وعالمي دون أن يتنكر لماضيه، بل أوجدت لديه الرغبة في تطويره وتجديده والاستفادة من أدوات العصر وميزاته في تطوير وتجديد هذا التراث والفكر والثقافة، لقد عُززت هذه الرؤية في بناء الدولة العصرية بسياسة جديدة وفكر فريد ركيزتها الأساسية، الإنسان العماني، وغايتها الكبرى تحقيق مصلحة هذا الإنسان وحمايته وحفظ حقوقه، وشكل الحس الوطني فيها ركيزة أساسية في الارتباط الوثيق بتراب الوطن ومبادئه وقيمه الصحيحة الهادفة لتحقيق خير الإنسانية والحفاظ على هويته وشخصيته الحضارية وسمته الأصيل، وبين الأخذ بكل ما هو إيجابي وبنّاء يسهم في بناء الفكر الإنساني .
لقد سطرت النهضة العمانية الحديثة أروع سمات التطور والتقدم، في واقعيتها وتوازنها وتركيزها على الإنسان الغاية والهدف والوسيلة، وفي تأكيدها لمفهوم الولاء والانتماء وتأكيد مبدأ المواطنة المسؤولة واندماج بين الخصوصية العمانية وعمليات التطور والتحديث والتجديد؛ فإن الانجازات التي تحققت في كل مجالات التنمية الوطنية المستدامة وعلى كافة الأصعدة وفي بناء الدولة العصرية وتعزيز مبادئ الدولة العمانية الحديثة القائمة على الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للغير وتعزيز السلام والتفاهم الدوليين وتأكيد مبادئ العدل والمساواة وسيادة القانون والقضاء، كل هذه وغيرها كانت نتاج عمل دؤوب وعزيمة وقادة وإرادة واعية وقيادة حكيمة وأسلوب منظم ومنهج معتمد في العمل والبناء والتطوير والتحديث والتنمية، وسياسة حكيمة في العلاقات الدولية وتعزيز ثقافة الحوار والسلام والتعاون الدولي، ليعطي التاريخ من هذه المآثر القابوسية الخالدة دروسا للعالم أجمع، فأحداث غزة وعموم فلسطين وما أفصح عنه العدوان الصهيوني الغاشم الذي تجرّد من كل القيم والمشتركات الإنسانية والأخلاق والمبادئ والأعراف الدولية في همجيته ووحشيته في قتل الأطفال والنساء والكبار وممارساته الإجرامية وإبادته الجماعية للشعب الفلسطيني في غزة، والموقف العظيم لسلطنة عمان من هذه الاحداث في وقوف عمان مع القضية الفلسطينية ودعوة المجتمع الدولي والأمم المتحدة إلى تحمّل مسؤولياتها الأخلاقية والإنسانية في وقف هذه المجازر بحق الأبرياء العزل، وحق الشعب الفلسطيني في إقامة دولته المستقلة على ترابه الوطني وعاصمتها القدس الشرقية ، يعكس تلك الثوابت التي قامت عليها النهضة، لتسطر للعالم أجمع تاريخا مجيدا وثباتا مشهودا وحكمة بالغة ومصداقية ناصعة وأخلاقا عالية، لا تتغير بتغير الأزمان والأحداث والأشخاص والظروف.
وتمضي السنون، وتتعاقب الأيام، وتتغير الأحوال، ويتسارع الزمن في نقصان الاعمار، لتعيد لنا ذكرى العاشر من يناير بما فيه من فقد صعب، وحدث مؤلم ، وغياب مفجع، أربعة أعوام مضت على رحيل السلطان قابوس بن سعيد طيب الله ثراه، وكأنها البارحة، ليبقى في ذاكرة حياتنا مددا ونورا ونهجا والهاما، لن تسلبه السنون من ذاكرتنا، ولن تغيبه الأيام من فكرنا، ولن تمحوه الظروف من تفكيرنا، لا يفارقنا ذكره، ولا تنسينا الأحداث رسمه وصدقه وكلمه ، إذ تأبى المنجزات والحقائق والحب والأمان والعزة والكرامة ، إلا أن تتحدث عنه، وتقرأ تفاصيل هذا السر العظيم الذي رافق حياة السلطان قابوس وشخصيته في بناء الدولة العمانية المعاصرة، لتظل إنجازاته العظيمة ومآثره الخالدة مفاخر وطنية لعمان الغالية ،حاضرا ومستقبلا ومصدر إلهام للأجيال القادمة يستلهمون منها الإخلاص والتفاني في خدمة الوطن والحفاظ على قيمه ومكتسباته وصون أمنه واستقراره والإسهام في نمائه وازدهاره.، فقد منح الأرض خير ا وسلاما ، وأمنا وأمانا، وعدلا وصدقا، ووعدا ومجدا، وأعاد لعمان الحياة والنور والأمن والاستقرار، فلروحك السلام وعليك السلام وأدخلك ربنا دار السلام.
د. رجب بن علي العويسي