في تاريخ البشرية، يظهر بين الحين والآخر قائد يلهم العالم بتضحياته ورؤيته السامية، نيلسون مانديلا، الزعيم السياسي الجنوب أفريقي الراحل، يشكل واحداً من تلك الشخصيات الرائعة التي خلدت أفعاله وأقواله في ذاكرة البشر، يجسد مانديلا ليس فقط الصورة الحية للنضال من أجل الحرية، بل والرمز البارز للمصالحة والمحبة الإنسانية.
وفي قلب تاريخ النضال الإنساني برز نيلسون مانديلا كشخص استثنائي، كرمز للتحدي والتفاؤل، نُسج اسمه بأحرف من ذهب على صفحات التاريخ، هو رمز الصمود والتحرر، الذي أضاء دروب النضال بنيران الأمل والعدالة، نيلسون مانديلا، الزعيم الجنوب أفريقي الأسطوري، يعتبر منارة للمقاومة والتضحية في سبيل تحقيق المساواة وإنهاء سطوة الفصل العنصري.
لقد اخترت هذه الشخصية لتكون مبعث أمل على استمرار الصمود في غزة الحبيبة ضد آلة البطش الصهيونية، 27 عاماً استطاع رجل واحد أن يغير تاريخ بلاده، ونحن في 75 عاماً نحاول وسنستمر حتى تحقيق النصر، فليكن نيلسون مانديلا أحد الأشخاص الملهمين لنا في النضال ضد الاستيطان والتهويد والقمع والقتل الصهيوني، وبإذن الله تبارك وتعالى سننجح وسننتصر، ولن تذهب دماء الشهداء سدىً، بل ستزهر أفراحاً من بعد كل هذا العناء.. هذا وعد الله لفلسطين ووعد الله سيتحقق.
ولد نيلسون روليهلاهلا مانديلا في 18 يوليو 1918 في قرية مفيسو في إقليم بونتو بجنوب أفريقيا، هذه القرية كانت بمثابة قاعدة لذاكرة الزمن بقصة تحدي استثنائية، لم يكن يدرك حينها مانديلا أن مساره سيكون محفوفاً بالصعوبات والتضحيات التي تليق بشخص يتحدى النظام العنصري الذي تفرضه السلطات البيضاء في جنوب أفريقيا، لقد كانت بدايته المبكرة تحمل بصمات الظلم الاستعماري، حيث نشأ في ظل نظام الفصل العنصري الذي فرض الفصل بين الأعراق وظل يميز بين السود والبيض، وقضى مانديلا شبابه في بيئة تتسم بالتمييز العنصري، ورغم ذلك، كان طالباً متفوقاً وانخرط في النضال منذ صغره، حيث انضم إلى حركة الشباب الأفريقية الوطنية.
بعد حصوله على درجة الحقوق، شارك مانديلا في النضال السياسي المناهض للفصل العنصري، وأصبح قائداً في الجناح الشاب للحزب الوطني الأفريقي. في عام 1962، أسس الجناح العسكري للحركة، أمكونتو سيزوي، لكن سرعان ما انحرفت جهوده السلمية إلى درب المقاومة المسلحة، حيث شارك في إحداث التغيير بوسائل أكثر حدة.
كانت سنوات شبابه هي بداية فصلٍ جديد في تاريخ بلاده، ففي ظل نظام الفصل العنصري الذي كان يحكم، قرر مانديلا الوقوف بقوة ضد هذا الظلم، مؤكداً أن الحرية لا تأتي إلا بالتضحية والنضال، لكن مع الأسف، استضافت السجون المظلمة والمحاكم الجائرة حكايته، ولكنه لم يستسلم أمام القهر، ففي عام 1962، تم اعتقال مانديلا بسبب نشاطه السياسي ضد النظام العنصري، وأُدين بالخيانة والتحريض على العنف، حيث قضى 27 عاماً في السجن، لكن ذلك لم يثنِه عن مواصلة الكفاح، خلال فترة اعتقاله، أصبح مانديلا رمزاً للصمود والإرادة، واكتسب تأييداً دولياً كبيراً.
عندما فتحت أبواب السجن أمامه، لم يختار المسار الانتقامي، بل اختار السعي نحو المصالحة وبناء جنوب أفريقيا الموحدة، فقد تم الإفراج عن مانديلا في عام 1990، وبدأت مرحلة جديدة من التاريخ الجنوب أفريقي، بفضل رؤيته الحكيمة وقدرته على المصالحة، أشرف مانديلا على نهاية الفصل العنصري وفترة انتقالية نحو دولة ديمقراطية.
أثناء فترة رئاسته (1994-1999)، اعتبر مانديلا الحوار والمصالحة أساساً للتغلب على التفرقة العنصرية، استخدم قدرته على الغفران والتسامح لتحقيق المصالحة الوطنية، فقد أقام لجنة الحقيقة والتصالح لكشف الحقائق حول انتهاكات حقوق الإنسان خلال فترة الفصل العنصري.
كان نيلسون مانديلا ليس فقط قائداً سياسياً بل كان رمزاً حيًاً للصمود والتضحية، أثر بشكل عميق على قلوب الناس حول العالم، كانت قصته قصة تحدي وتحوّل، تحمل في طياتها الكثير من الدروس والأمل للبشرية جمعاء، عندما خرج نيلسون مانديلا من أسوار السجن بعد 27 عاماً من الاعتقال، خرج بقلب غير محمل بالكراهية أو الانتقام، بل بقلب مملوء بالرغبة في المصالحة وبناء مستقبل أفضل، وكانت هذه الروح الكبيرة تنبع من عمق تحمّله لمعاناة الشعب الجنوب أفريقي.
كان مانديلا يعلم أن السبيل الوحيد لتحقيق التغيير الحقيقي هو من خلال الحوار والتسامح، فقد تجاوز مانديلا الانقسامات العنصرية ونبذ فكرة الانتقام، وبالتالي أصبح مصدر إلهام للعديد من الشعوب التي تعاني من الظلم والفقر والتفرقة.
لقد رفض مانديلا أن يكون ضحية لظروفه، بل اعتبرها فرصة لتحديد مصيره بنفسه، وهكذا، أصبح رمزاً للتحدي والقوة الإرادية، حيث تعلم الناس منه كيفية التصدي للصعاب برغم كل التحديات.
بعد توليه رئاسة جنوب أفريقيا، استمر مانديلا في ترسيخ مفهوم المصالحة والمساواة، محاولاً بناء جسور الفهم بين الأعراق المختلفة، لقد تعلمنا منه أن الحب والتسامح قوة تجتاز الحدود وتخلق تأثيراً إيجابياً.
رحيل مانديلا عن عالمنا لم يكن نهاية، بل كان بداية لتحدينا كبشر في مواصلة رسالته، إن إرثه يعيش في قلوب الذين يتطلعون إلى عالم أكثر عدالة وتسامحاً، نحن نحتفظ بذكراه كمصدر إلهام يشجعنا على التغيير وبناء مجتمع يتسم بالوحدة والمحبة.
مانديلا والقضية الفلسطينية
نيلسون مانديلا، الزعيم السابق لجنوب أفريقيا ورمز للنضال ضد العنصرية والظلم، يمكن ربط تجربته بنضال الشعب الفلسطيني من خلال عدة جوانب:
في نضاله ضد الاستعمار والظلم، نيلسون مانديلا قاد نضالاً طويلاً ضد نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، وكانت قضيته مرتبطة بالحرية والمساواة وإنهاء الظلم، وبالمثل، يعيش الشعب الفلسطيني تحت وطأة الاحتلال الصهيوني والظلم، ويسعى إلى تحقيق حقوقه الوطنية والإنسانية، وعن قيم المساواة والحقوق الإنسانية، مانديلا كان يؤمن بأهمية المساواة وحقوق الإنسان لجميع الأفراد بغض النظر عن العرق أو الدين، والشعب الفلسطيني يتسم بالتنوع الثقافي والديني، ويسعى أيضاً إلى تحقيق مبادئ المساواة والحقوق الإنسانية.
وعن التضامن مع الشعوب المظلومة، مانديلا كان يدعم بشكل قوي الشعوب المضطهدة والمظلومة حول العالم، يمكن ربط ذلك بالتضامن الذي يظهره العديد من النشطاء والقادة في العالم مع قضية الشعب الفلسطيني، وفي الدور العالمي في نشر الوعي، بعد إطلاق سراحه من السجن، أصبح نيلسون مانديلا مناصراً قوياً للسلام والتسامح وحقوق الإنسان على مستوى عالمي، حيث يمكن أن يكون تأثير مانديلا نموذجاً للدور الذي يمكن أن يلعبه القادة في تعزيز الفهم الدولي للقضية الفلسطينية.
بالإضافة إلى ذلك، إن الزعيم جنوب إفريقي، نيلسون مانديلا تبنى الحوار والمفاوضات كوسيلة لتحقيق التسوية وإنهاء النزاع، ويمكن رؤية الجهود الدولية المستمرة لتحقيق حل سلمي للصراع “الإسرائيلي” الفلسطيني كجزء من هذا التوجه، وبهذه الطرق، يمكن ربط تجربة نيلسون مانديلا بنضال الشعب الفلسطيني، كمظهراً من مظاهر التضامن والتشابه في مبادئ الحرية والعدالة وحقوق الإنسان، نيلسون مانديلا كان ينظر إلى الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بروح من التضامن مع القضية الفلسطينية والدعم للشعب الفلسطيني، وعلى مر السنين، أعرب مانديلا عن رفضه للظلم والاستعمار الذي واجهه الفلسطينيون ودعمه لحقوقهم المشروعة.
في عام 1990، بعد خروجه من السجن، عبّر مانديلا عن تضامنه مع القضية الفلسطينية وقال: “لن يكون هناك سلام دائم في فلسطين إلا إذا توقف الاحتلال والاستيطان وتمكن الفلسطينيون من تقرير مصيرهم بحرية”، كما عبر مانديلا عن دعمه لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الخاصة والعيش بكرامة على أرضهم، وعبر مانديلا أيضاً عن دعمه لحق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الخاصة والعيش بكرامة على أرضهم، وفي زيارة له إلى الضفة الغربية في عام 1999، أكد على ضرورة إيجاد حلاً عادلاً وشاملاً للصراع الفلسطيني “الإسرائيلي” يحقق السلام والعدالة، فمن خلال توجيهه للدعوة للتضامن مع القضية الفلسطينية، كانت مواقف نيلسون مانديلا تعكس التزامه بالعدالة والمساواة والتضامن الدولي.
في 1993، حصل مانديلا على جائزة نوبل للسلام مع رئيس الوزراء الجنوب الأفريقي دي كليرك، وفي 1994، أصبح أول رئيس أفريقي أسود لجنوب أفريقيا في انتخابات ديمقراطية تاريخية، من خلال حياته النضالية وتفانيه في تحقيق المساواة والعدالة، أصبح نيلسون مانديلا رمزاً عالمياً للتضحية والتحمل، ملهماً للجماعات والشعوب المظلومة حول العالم، توفي نيلسون مانديلا في 5 ديسمبر 2013، لكن تأثيره الإنساني والسياسي يظل حاضراً، يبقى مانديلا مصدر إلهام للعالم بأسره، رمزاً للتحدي والتغيير الإيجابي.
نضال مانديلا ليس فقط معركة من أجل حقوق شعبه، بل هو رمز عالمي للمقاومة والتحدي، والذي أثبت أن الحب والسلام يمكنان أن يتغلبا على أقسى أشكال الظلم والفصل العنصري، فقد ترك إرثه العظيم أثراً عميقاً في قلوب البشر حول العالم، ملهماً الأجيال بتفانيه في سبيل إحقاق الحق والعدالة.
وفي ختام مسيرة الأمل والتحدي، يظل نيلسون مانديلا أيقونة حية للصمود والتضحية، كان رمزاً للنضال والتحول، وبصمته تمتد عبر عصور الظلم والألم، لن يتلاشى تأثيره العميق على قلوبنا، فهو دليل على قوة الإرادة والقدرة على تغيير العالم بالرغم من الصعوبات، لنستمد إلهامنا من حياته العظيمة وروحه الفائقة، ولنتشبث بمبادئه، ولنستمر في نضالنا من أجل العدالة والمساواة، في عالم يحتاج إلى الفهم والتسامح، نحن، كشعوب، مدعوون لنكون وحدة متماسكة تحمل شعلة التغيير.
فلنجعل من تراثه مصدر إلهام دائم، ولنبقى ملتزمين بقيم الحرية والكرامة، إنه وريث الأمل، وختام رحلته ليس نهاية، بل بداية لفصل جديد من التحديات والانتصارات، لنواصل بناء عالم يسوده العدل والسلام.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.