في قلب الشبه الجزيرة العربية، تتسارع الأحداث في بلد فقير يُدعى اليمن، الذي يواجه تحديات هائلة ومأساوية تتفاقم يوماً بعد يوم، لا يقتصر اليمن على أن يكون مجرد موقع على خريطة جغرافية، بل هو أرضٌ تشهد اضطرابات دائمة وصراعات معقدة،وفي هذا السياق العصيب، أطلقت القوات الأمريكية والبريطانية ضرباتها الجوية الضارية على أراضي اليمن، معززة بقوتها العسكرية الهائلة والتكنولوجيا المتقدمة.
ويتجلى في استهداف اليمن الفقير تناقض القوة العسكرية الأمريكية، حيث يتعامل العملاق العسكري مع دولة صغيرة تعاني من الفقر والاستقرار الهش، بالتالي يطرح هذا التصعيد العسكري تساؤلات حول الأهداف الحقيقية وراء هذه الضربات، وهل هي محاولة لتحسين صورة السياسة الخارجية الأمريكية أم هي خطوة إستراتيجية أعمق ترتبط بتحقيق مصالحها في المنطقة؟
اليمن، الذي يعاني منذ سنوات طويلة تبعات حروب أهلية وأزمات إنسانية، يجد نفسه اليوم محط تصعيد دولي آخر، مما يجعل العالم يتساءل عن دوافع هذه الهجمات وتأثيرها على الشعب اليمني المعذب.
في أعقاب الضربات الأمريكية والبريطانية التي استهدفت أهدافاًفي اليمن، شهدت المنطقة تفاعلات دولية وإقليمية، روسيا، برفقة الصين، طلبت عقد جلسة طارئة في مجلس الأمن الدولي، رغم امتناعهما عن التصويت على القرار الذي دعا إلى وقف الهجمات على السفن، من ناحية أخرى، أعربت المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة عن قلقهما إزاء تداولات الاعتداءات على الملاحة في البحر الأحمر.
ورغم التفاعل الدولي، يظهر أن القرار بتنفيذ الضربات العسكرية جاء بعد فشل محاولات الدبلوماسية في إقناع الأطراف المسؤولة عن استهداف السفن التجارية ووقف هجماتهم عليها في المنطقة، مما أثر سلباً على حركة التجارة البحرية وزاد من تكاليف النقل العالمي.
كما من اللافت أيضاً إعلان موعد ومكان الضربات قبل تنفيذها، مما أثار استهجاناً وتساؤلات حول الدوافع والتحضيرات للهجوم، رغم أنه وبدون تحليل، يأتي في سياق دعم قطاع غزة الذي يتعرض لأبشع الجرائم من 7 أكتوبر 2023 من قبل الكيان الصهيوني، المدعوم أمريكياً بالدرجة الأولى، ورغم أن الضربات ركزت على أهداف عسكرية، فإن بصمات الأطراف الإقليمية واضحة في هذا السياق ما قد يخلط الأوراق ويدفع إلى تصعيد خطير لا أحد يريده.
بالتالي، تحمل الضربات الأمريكية تداعيات كبيرة، فقد يؤدي رد جماعة أنصار الله في اليمن المحتمل إلى تصعيد الموقف واستهداف عسكريين أمريكيين أو بريطانيين، مما يعزز التوتر في المنطقة، مع الإشارة إلى أن هناك قواعد كثيرة للأمريكيين منتشرة في المنطقة وقد تصبح أهدافاً انتقامية بسبب موقف الولايات المتحدة وحلفائها من هذه الضربة التي لا وقتها ولا مكانها في هذه المنطقة بالتحديد.
الآن، إن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن على الأرجح لن تسعى لتوسيع نطاق الحرب في الشرق الأوسط، وستقتصر على ضربات محدودة، وربما تتجه نحو استهداف شخصيات معينة في حالتعرضت القوات الأمريكية أو البريطانية للهجوم.
بالنسبة للهجمات الأمريكية والبريطانية في اليمن وفق رؤيتي، إن هذه الضربات قد تكون جزءاً من حملة لرفع تصنيف الرئيس الأمريكي جو بايدن، وفي هذا السياق، إن الهجوم يبدو أنه تم في إطار حملة علاقات عامة لإظهار قوة الولايات المتحدة الأمريكيةورغبتها في التصدي للتحديات في أي بقعة في العالم، كما أن هذا الهجوم قد يكون رد فعل على نشاط جماعة أنصار الله اليمنيةوتصاعد الهجمات على السفن في البحر الأحمر.
من جهة أخرى، إن الهجمات تأتي كإشارة تتناسب مع خطط أمريكية للمصالحة بين الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية(وهذا غير ممكن مهما كانت الأسباب) وإقامة طريق تجاري من الهند عبر هاتين الدولتين إلى أوروبا، مما يظهر هجوم حركة حماس على الكيان الصهيوني في أكتوبر الماضي (2023) كان له تأثير على هذه الخطط ودفع أنصار الله للتصعيد واستهداف السفن المتجهة إلى داخل فلسطين المحتلة.
وفي سيناريو آخر، هذا يعني أن الهجمات الأمريكية والبريطانية قد تكون جزءاً من سعي الغرب إلى تدمير معالم العالم الجديد في الشرق الأوسط، وأن الهيمنة البطيئة للغرب قد تجعله يتجه نحو فترة من الصراعات والحروب، خاصة مع شعور الغرب بفقدانه الهيمنة في المنطقة بشكل كبير مؤخراً، وهذه التحركات غير القانونية، بغض النظر عن دوافعها، قد تسرع في انتقال النظام العالمي إلى عصر جديد تبلورت ملامحه بشكل واضح.
الرواية الأمريكية وفق ما أكده الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، تقول إن هذه الضربات تهدف إلى إرسال رسالة واضحة بأن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها لن يتسامحوا مع الهجمات أو التهديدات لحرية الملاحة على طول الطرق التجارية الرئيسية،ووصف بايدن هذا الهجوم بأنه له طابع دفاعي، رداً على الهجمات المتكررة على السفن في البحر الأحمر.
موقف مشرف
بالنسبة لدولة الكويت وكما تعودنا على مواقفها الحازمة، فقد عبرت دولة الكويت عن قلق واهتمام كبيرين تجاه التطورات في منطقة البحر الأحمر عقب الضربات الجوية التي نفذتها الولايات المتحدة وبريطانيا ضد جماعة أنصار الله في اليمن، فقد أكدت وزارة الخارجية الكويتية على أهمية حفظ الأمان والاستقرار في هذه المنطقة الحيوية، مشددة على ضرورة تأمين حرية الملاحة في جميع الممرات المائية الحيوية التي تعتبر عنصرًا أساسيًا في السلم والأمن الدوليين.
بالتالي، إن موقف الكويت ينبع من قلقها العميق إزاء التصعيد الحاصل في المنطقة وتأثيره على حرية الملاحة، وتعتبر أن تغليب صوت العقل وخفض التصعيد يعدان أمراً ضرورياً وفورياً، وهنايظهر الموقف الكويتي التزاماً بتحقيق الاستقرار في المنطقة وضمان سلامة الممرات المائية الحيوية التي تعد حيوية للتجارة العالمية، كما تأتي هذه التصريحات في سياق القلق الإقليمي الذي يخلفه التصعيد الحاصل في اليمن وتأثيره على حركة الملاحة، بالتالي،تعكس دعوة الكويت لخفض التصعيد توجيهها لتجنب أي تأثير سلبي قد يكون لهذا التوتر على الأمان والاستقرار الإقليميين.
تأتي هذه الضربات في سياق تصاعد التوترات في المنطقة، حيث زادت الهجمات على السفن الدولية منذ ديسمبر 2023، معتبرة تلك الهجمات تهديدًا لحرية الملاحة البحرية. كما تم تنفيذ الهجمات على خلفية الصراع الدائر بين إسرائيل وحركة حماس في غزة، حيث استهدف الحوثيون سفنًا يشتبهون بصلتها بتل أبيب.
وجدير بالذكر أن هذه الضربات أثارت انقساماً داخلياً في الولايات المتحدة، حيث انتقدت بعض الأصوات العسكرية والسياسية تصرفات جو بايدن، مع تحذيرات من أنها قد تقود البلاد إلى صراع أوسع.
لقد استندت الولايات المتحدة الأمريكية إلى جانب بريطانيا إلى تكتيك حذر في استخدام القوة العسكرية، وفي الوقت نفسه، كانت واثقة من قدرتها على تحقيق نتائج إيجابية، ومع مضي عقدين من الحروب في الشرق الأوسط وتصاعد التنافس الاستراتيجي مع جمهورية الصين، تتردد الولايات المتحدة في المشاركة في صراع جديد في المنطقة.
أما عن كيفية تأثير ذلك على ديناميات المنطقة وموازين القوى، يبدو أن التصعيد في منطقة البحر الأحمر والإضرار بحركة الملاحة البحرية، يفرض تحديات تستدعي استراتيجية مدروسة وحساسة من الولايات المتحدة وهذا من ناحية، أما من ناحية أخرى، إنإمكانية أن يكون الرد العسكري الأمريكي فعّالًا أم أنه قد يزيد من اندفاع أنصار الله اليمنيين ويعزز ثقتهم، بعد كل شيء، يعيش الحوثيون حالة حرب لسنوات طويلة ونجوا من ضربات جوية لسنوات، حيث يواجه الغرب الآن معضلة ليست سهلة، وقد تؤثر على المنطقة بشكل كبير، وهذا سيرفع الأصوات عالياً لوقف هذه الاستفزازات إن كان من الجانب اليمني أو الضربات من الجانب الأمريكي، فغن توسع رقعة الحرب ليس في مصلحة أحد وهذه المنطقة ليست ملعباً أمريكياً تضرب فيه وتخلط الأوراق كما فعلت في العراق وسوريا والآن في فلسطين.
بالتالي، تظهر الأحداث الراهنة في اليمن كلفظة نهائية لرواية معاناة هذا البلد الفقير الذي قرر أن يكون صوتاً لقضية فلسطينالحبيبة، فبينما كان اليمن يحاول نصرة إخوانه في فلسطين، انهالت عليه الضربات الجوية كرد فعلٍ غامض، كما لو أن المساعي الإنسانية والدعوة للعدالة الاجتماعية قد جعلت منه هدفاً لقوى أخرى تراقب بانتباه شديد تحركاته.
وبصدد نضالها العربي، أصبحت اليمن هي الضحية المؤلمة لتداخل الأجندات والمصالح الدولية، فرغم تضحياتها ومحنها المتكررة، استمرت في التمسك بقيمها ومبادئها، وفي هذه اللحظة الصعبة، يتساءل العالم عن كيفية تحقيق السلام والعدالة في واحدة من أكثر المناطق اضطراباً على وجه الأرض.
فلعل اليمن يكون درساً حياً للجميع حول أهمية فهم التوازنات الإقليمية والدولية، وضرورة تحقيق التفاهم والحوار كوسيلة لحل النزاعات، بدلاً من التصعيد العسكري الذي يفاقم جروح الشعوب ويعزز دوامة الدمار.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.