يُعَدُّ كتاب “صحيح البخاري” من بين أعظم كتب التراث الديني الذي يحظى بالاحترام والتقدير الكبير في العالم الإسلامي، ويعتبر هذا الكتاب مصدراً رئيساً للحديث النبوي الشريف، حيث قام الإمام البخاري بجمع وتوثيق ما يُقال عن النبي محمد صلى الله عليه وآله سلم وأفعاله وتصرفاته.
ويشكل “صحيح البخاري” مرجعاً دينياً مهماً للمسلمين، حيث يُعَدُّ قاعدة أساسية لفهم السنة النبوية وتوجيه الحياة اليومية والعلوم الشرعية، وضمن صفحات هذا الكتاب الضخم، يتخذ القارئ رحلة مميزة إلى الزمن النبوي، حيث تنكشف له حكمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وسيرته الشريفة.
بالتالي، إن جودة المصنف ودقة الإمام البخاري في اختيار الأحاديث تجعلانه يحتل مكانة خاصة في قلوب المسلمين، حيث يسعى كل من يتطلع إلى فهم أعماق الإسلام إلى الغوص في صفحات هذا الكتاب العظيم، الذي يحمل في طياته ثروات الحكمة والتوجيه الإلهي.
وصحيح البخاري هو أحد أشهر كتب الحديث النبوي الشريف، وقد صنفه الإمام محمد بن إسماعيل البخاري (تـ 256 هـ) بعد اختياره لأحاديثه من بين نحو ستمائة ألف حديث، وقد اعتمد الإمام البخاري في تصنيفه على شروط صحة الحديث، وهي: الإسناد المتصل، والعدالة، والضبط، وعدم الشذوذ والعلة، وهذه الشروط تدحض أي روايات غير صحيحة لأي عالمٍ كان ومهما وصل وعلا شأنه.
وقد حظي صحيح البخاري باهتمام واعتناء كبيرين من قبل علماء الأمة، فقد قرأوه ورووه وشرحوه وحققوه وطبعوه بأفضل الطرق والوسائل، ومن أبرز الشروح التي كتبت على صحيح البخاري: فتح الباري لابن حجر العسقلاني، وعمدة القاري لبدر الدين العيني، والكواكب الدراري للسيوطي، والفتح الكبير لابن حمام، وغيرها.
ومن أصح الطبعات التي طبع بها صحيح البخاري هي الطبعة السلطانية، التي أمر بطبعها السلطان عبد الحميد الثاني رحمه الله في المطبعة الأميرية ببولاق سنة 1311 هـ، واعتمد فيها على نسخة شديدة الضبط من فروع النسخة اليونينية، وقابلها جمع من أكابر علماء الأزهر الأعلام.
أما من يكذب ذلك، فهذا القول باطل وليس له أي أصل من الحقيقة، فقد كتب صحيح البخاري الإمام البخاري نفسه بعد اختياره للأحاديث الصحيحة من بين مئات الآلاف من الأحاديث التي جمعها وسمعها من شيوخه، وقد استغرق في تحريره ستة عشر عاماً، وقد أثبت ذلك العديد من العلماء والمؤرخين الذين رووا سيرته ومنهجه ومكانته في علم الحديث، ومنهم، ابن حجر العسقلاني، والذهبي، وابن خلكان، وابن الجوزي، وغيرهم، وقد نقلوا عنه وعن تلاميذه وأتباعهم أنه كان يكتب الحديث بعد التحقق من صحته وضبطه، وأنه كان يصلي ركعتين قبل أن يضع أي حديث في كتابه، وأنه كان يراجع كتابه بانتظام ويعدل فيه ما رأى مناسباً، وقد أجمع العلماء على أن صحيح البخاري هو أصح كتاب بعد كتاب الله، وأنه لا يجوز التشكيك فيه أو الطعن فيه.
وهنا لا بد من التعليق على ادعاء السيد كمال الحيدري الذي تجمعني به صداقة أخوية، وقوله إن صحيح البخاري لم يكتبه الإمام البخاري وشكك في ذلك دون تقديم دليل يوقف قوله هذا، وفي هذا تكذيب لكافة العلماء المسلمين دون وجه حق، فعندما وقع السيد الحيدري في مظلومية الإقامة الجبرية وإعلان الحرب عليه، وقفنا في صفه دفاعاً عنه، إيماناً منّا بنهجه وأخلاقه، ولم نصدق كلمة مما قيل في حقه، انطلاقاً من علمه ومكتبته العامرة بأهم المؤلفات العلمية بما في ذلك عشرات المؤلفات للعلماء السنّة، لكن في هذا الموضوع لا بد وأن نقف مجدداً في وجه رفع الظلم عن الإمام البخاري، وهذه المرة الوقوف في وجه السيد الحيدري شخصياً، فالطبيعي لأي عالم أن يقدم دلائل على ادعائه حتى يثبت العكس لا أن نلقي الكلام هكذا، فالسيد هنا أثبت أنه مطلع على أغلب مؤلفات العلماء المسلمين على اختلاف توجهاتهم، وقارئ نهم، لكنه غير دارس لهذا العلم، فالقراءة دون دراسة وتبحر عميق لا تكفي لأن نستخلص استنتاجات قد تشعل حروباً العالم لا يريدها والنزاعات مستعرة في كل مكان.
لكن ورغم ذلك أن السيد الحيدري متمكن في مجاله وله محبيه وطلابه وتلاميذه وله من المؤلفات الكثير، لكن الخوض في المباحث الأخرى من العلوم الدينية يحتاج إلى حياة جديدة لسبر أغواره كعلم الحديث على سبيل المثال وتفرعاته التي في كل فرع فيها علم مستقل بنفسه، بالتالي، إن علم الحديث هو علم يبحث في أحوال الأحاديث النبوية من حيث السند والمتن، ويهدف إلى التمييز بين الصحيح والضعيف منها، والاستفادة منها في الفقه والعقيدة وغيرها من العلوم الشرعية، وينقسم علم الحديث إلى قسمين رئيسيين: علم الحديث رواية وعلم الحديث دراية.
علم الحديث رواية هو علم يشتمل على نقل أقوال النبي صلى الله عليه وآله سلم وأفعاله، وروايتها وضبطها وتحرير ألفاظها، ومن أهم أقسامه: علم الجمع والتصنيف، وعلم الرواية والدراية، وعلم القراءات، وعلم النحو والصرف، وعلم اللغة والبلاغة، وعلم الفقه والأصول.
أما علم الحديث دراية هو علم يعرف منه حقيقة الرواية وشروطها وأنواعها وأحكامها وحال الرواة وشروطهم وأصناف المرويات وما يتعلق بها، ومن أهم أقسامه: علم المصطلح، وعلم التخريج، وعلم الرجال (الجرح والتعديل)، وعلم مختلف الحديث، وعلم علل الحديث، وعلم غريب الحديث، وعلم ناسخ الحديث ومنسوخه.
بالتالي إن الخوض في كل قسم هو علم مستقل بحد ذاته، وإن كان للسيد الحيدري انتقادات بما يخص الفكر الشيعي، ففي الفكر السني هذا الأمر غير ممكن لأن مجرد طرحه هو تشكيك بكل آراء العلماء الكبار وهذا لا ينطبق على الخلافات التي تحدث بين فرق الشيعة بشكل عام، لأن المذهب السني اعتمد النظام والتبويب والتفصيل بالأدلة القاطعة خاصة وأن صحيحي البخاري ومسلم هما الكتابان الموثقان بعد القرآن الكريم مباشرةً.
وهنا سأقوم بطرح جزء يسير من أدلة على هذا الأمر ليس لإثباتها بل ليعرف الجميع عملية المتابعة الدقيقة التي يقوم عليها الأمر، وهذه مسلمات لدى جميع المسلمين السنة، لا تقبل النقد ولا تقبل التشكيك ولا حتى الخوض فيها في وقتنا هذا:
لدينا، شهادة العلماء والمؤرخين الذين رووا سيرة الإمام البخاري ومنهجه ومكانته في علم الحديث، ونقلوا عنه وعن تلاميذه وأتباعهم أنه كان يكتب الحديث بعد التحقق من صحته وضبطه، وأنه كان يصلي ركعتين قبل أن يضع أي حديث في كتابه، وأنه كان يراجع كتابه بانتظام ويعدل فيه ما رأى مناسباً، كما ذكرنا آنفاً، ولدينا أيضاً شهادة الناسخين والمحققين والمطبعين الذين اطلعوا على نسخ مخطوطة من كتابه، وشهدوا بأنها متطابقة في السند والمتن، وأنها تحمل اسمه وتوقيعه، وأنها تتبع منهجه وشروطه في اختيار الأحاديث الصحيحة، بالإضافة إلى ذلك، لدينا شهادة القراء والمتلقين والمشايخ الذين قرأوا كتابه أو سمعوه منه أو من تلاميذه أو من أتباعهم، وأثنوا عليه وأجمعوا على أنه أصح كتاب بعد كتاب الله تبارك وتعالى، وأنه لا يجوز التشكيك فيه أو الطعن فيه.
بالتالي، يجب لكل شخص أن يراجع مصادره ويتحقق من صحة ما يقوله جيداً، وأن يتعلم من علماء السنة والجماعة الذين أثبتوا بالأدلة العلمية والتاريخية أن صحيح البخاري كتبه الإمام البخاري نفسه، وأنه أصح كتاب بعد كتاب الله، وأنه لا يجوز التشكيك فيه أو الطعن فيه، كما أنصح بقراءة بعض الكتب والمقالات التي ترد على طعون الشيعة في صحيح البخاري، مثل: كتاب “طعون وشبهات الشيعة الإمامية حول صحيح البخاري والرد عليها” للدكتور عادل يوسف العزازي، وهو كتاب مفصل وموثق يجمع ويحصي أهم وأبرز طعون الشيعة المتعلقة بصحيح البخاري مستقلة والرد عليها.
وكذلك، مقال “موقف الشيعة من صحيح البخاري ومسلم”، وهو مقال مختصر يبين موقف الشيعة الإمامية من الصحيحين البخاري ومسلم وكتب الحديث الأخرى، ويذكر بعض الشبهات التي يثيرونها والرد عليها، بالإضافة إلى ذلك، هناك مقال “شيوخ البخاري المتكلم فيهم في الجامع الصحيح دراسة نقدية تحليلية”، وهو مقال يعرض لشيوخ البخاري الذين تُكلم فيهم في الجامع الصحيح، ويبين أقوال العلماء فيهم جرحاً وتعديلاً وتمييز الطعن الموجه لكل منهم.
بالتالي، تعتبر روايات الأحاديث وشهرتها عاملاً مهماً في تحديد صحة الحديث، ويتميز “صحيح البخاري” بالتواتر الذي يضمن استمرار نقل الأحاديث عبر الأجيال، وهذا ما لا نجده لدى المذهب الشيعي مع كل الاحترام، ولو فتحنا باب النقد عن أهم علماء الشيعة قد لا نحصل على وثيقة خطية واحدة كًتبت بأيديهم، أما صحيح البخاري من يريد البحث قليلاً في متحف بسمر قند هناك ما يقارب الـ 500 مخطوطة له، والحمد لله أجزت إجازة في صحيح البخاري عن طريق علم الرجال أي من رجل إلى رجل، نعرف من هو وأين عاش وأن توفي ومن يريد أيضاً التبحر فليقرأ فهرس الفهارس عله يجد ضالته.
وجدير بالذكر، أن أي عالم دين في أي مذهب كان، لا يعني أنه متمكن من جميع العلوم فجميعنا طلاب علم ونهل العلم لا ينتهي إلا بانتهاء الحياة، وكل عالم في مجاله، لكن من يريد التمكن من المجالات الأخرى فليرجع إلى هذه العلوم التي ذكرتها، وإلا هذا يزيد الشرخ الحاصل بين المذاهب بدلاً من تقريبها، وهنا للسيد الحيدري أقول، العلم بحر فلا نكون كالحطاب في الليل، يجب دراسة ما نذكره جيداً ويجب أن نكون جسر محبة بين المذاهب هكذا أعرفك وهكذا أتمنى أن تكون.
عبدالعزيز بن القطان / كاتب ومفكر – الكويت.