يعد صرح الزيتونة، الواقع في العاصمة التونسية تونس، من الروافد الثقافية البارزة التي ألهمت العديد من العلماء والباحثين في تلك الفترة الزمنية المهمة، وفي سياق متميز، نجد أهمية هذا الصرح الذي كان مركزاً حيوياً لنقل المعرفة وتبادل الأفكار في مجالات متنوعة.
فقد توسعت جامعة الزيتونة كمؤسسة تعليمية رائدة، حيث أضحت مركزاً حضرياً متميزاً لتقديم التعليم الشامل وتشجيع البحث العلمي، كما ساهمت بفخر في نشر العلوم والمعرفة، مما جعلها جزءاً لا يتجزأ من مسيرة التقدم والازدهار في القرن التاسع، بالتالي، إن دعم العلم في هذا السياق لم يكن مقتصراً على الجوانب الأكاديمية فحسب، بل تجلى أيضاً في الروح الثقافية والاجتماعية لتلك الحقبةـ فقد استمدت جامعة الزيتونة قوتها من تبني قيم العلم والتفاني في خدمة المجتمع، مما جعلها محط جذب للعقول المتفوقة والباحثين الطموحين، كما تتجلى أهمية صرح الزيتونة في استمرار إرثها العلمي والثقافي، حيث يظل هذا الصرح وجامعتها رمزاً للتفوق والعلم في تاريخ القرون الوسطى الإسلامية.
مسجد الزيتونة، هو مسجد رئيسي في وسط مدينة تونس، وهو الأقدم في المدينة ويغطي مساحة 5000 متر مربع، وله تسعة مداخل، تم تأسيسه في نهاية القرن السابع أو أوائل القرن الثامن، لكن شكله المعماري الحالي يعود إلى القرن التاسع، بما في ذلك العديد من الأعمدة العتيقة التي أعيد استخدامها من قرطاج، ومن الإضافات والترميمات اللاحقة على مر القرون، حيث استضاف المسجد واحدة من أولى وأعظم الجامعات في تاريخ الإسلام، حيثتخرج العديد من علماء المسلمين في الزيتونة منذ أكثر من ألف عام، من بينهم ابن عرفة، أحد كبار علماء المالكية، المازيري، المحدث والفقيه الكبير، وأبو القاسم الشابي، شاعر تونسي مشهور، وجميعهم قاموا بالتدريس هناك، من بين آخرين.
تقول إحدى الروايات إنه سمي “مسجد الزيتونة” لأنه بني على مكان عبادة قديم حيث كانت هناك شجرة زيتونة، وهناك رواية أخرى، نقلها المؤرخ التونسي ابن أبي دينار في القرن السابع عشر، تفيد بوجود كنيسة مسيحية بيزنطية مخصصة لسانتا أوليفيا في ذلك الموقع، لكن أظهرت التحقيقات الأثرية وأعمال الترميم في 1969-1970 أن المسجد بني فوق مبنى قائم من العصر البيزنطي مع أعمدة تغطي مقبرة، ربما كانت هذه كاتدرائية مسيحية، مما يدعم الأسطورة التي ذكرها ابن أبي دينار، كما يشير تفسير أحدث لمحمد الباجي بن مامي إلى أن المباني السابقة ربما كانت جزءاً من التحصين البيزنطي، الذي بنى فيه العرب مسجدهم.
ويعتبر مسجد ثاني مسجد يتم بناؤه بإفريقيا ومنطقة المغرب العربي بعد مسجد عقبة بالقيروان، لكن يختلف التاريخ الدقيق للبناء، وكتب ابن خلدون والبكري أنه تم بناؤه عام 114 ه (حوالي 731 م) على يد عبيد الله بن الحبحاب، ومع ذلك، يذكر البكري أيضاً مسجداً بناه حسن بن النعمان، الذي قاد فتح تونس وقرطاج، عام 79 هـ(حوالي 698 م)، ونسب أحمد بن أبو ضياف وابن أبي دينار الأمر إلى حسن بن النعمان سنة 84 هـ (703 م) الذي اتخذه مكاناً للصلاة، ويذكر مصدر آخر أن الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك أمر بالبناء.
وقد انقسم المؤرخون المعاصرون حول ما إذا كان التأسيس لابن الحبحاب أم لابن النعمان، ويؤيد معظم العلماء التفسير الثاني وينسبون الأساس لابن النعمان عام 698 م، وهذا هو الأقوى بالدليل، إذ لا يحتمل أن تبقى مدينة تونس زمناً طويلاً بلا مسجد بعد فتحها سنة 79 هـ، وبموجب هذا التفسير، يُفترض أن ابن الحباب قام فيما بعد بتوسيع المسجد أو إعادة بنائه وتحسين عمارته.
هناك القليل من المعلومات حول التدريس في مسجد الزيتونة قبل القرن الرابع عشر، خلال هذا الوقت كانت هناك على الأرجح دورات دراسية يتم تقديمها طوعاً من قبل العلماء المسلمين، ولعدة قرون، كانت القيروان المركز الأول للتعلم والمساعي الفكرية في تونس وشمال إفريقيا بشكل عام.
يعود المسجد بشكله العام الحالي إلى عهد الأغالبة، السلالة التي حكمت إفريقيا نيابة عن الخلفاء العباسيين في القرن التاسع، بدأ العمل في عهد الأمير أبو إبراهيم أحمد ونتيجة لذلك، فإن تصميم المسجد يشبه إلى حد كبير مسجد عقبة في القيروان، الذي أعاد الأغالبة بناؤه أيضاً في وقت سابق من نفس القرن، وهناك نقش معاصر في قاعدة القبة أمام المحراب يوضح تاريخ هذا البناء ويذكر ثلاثة أفراد: الخليفة العباسي المستعين بالله، والثاني، نصير، مولى الخليفة وربما المشرف على الأعمال، وفتح الله أو فتح البنا، المهندس المعماري ورئيس البناء، ويقدم نقش آخر، على طول إحدى واجهات فناء المسجد، نفس المعلومات.
أما الأقسام التي تم الحفاظ عليها بشكل أفضل من القرن التاسع هي الجزء الداخلي من قاعة الصلاة والحصون الدائرية البارزة في الزوايا الشمالية والشرقية للمسجد، وبين عامي 990 و995 تم تنفيذ المزيد من الأعمال في عهد الزيريين، وتضمنت هذه الأعمال إضافة أروقة حول الفناء وقبة البهو (أو قبة البهو )، وهي القبة الموجودة عند مدخل قاعة الصلاة، يعود تاريخ القبة نفسها بشكل أكثر تحديداً إلى عام 991.، كما تم توفير تواريخ هذه الأعمال من خلال سلسلة من النقوش حول قبة البهو.
في عهد الحفصيين ، الذين حكموا خلال القرنين الثالث عشر والخامس عشر، أصبحت تونس العاصمة الرئيسية لإفريقيا لأول مرة، وأدى ذلك إلى زيادة أهمية مسجد الزيتونة وسمح له بالتفوق على مكانة مسجد عقبة القديم بالقيروان، حيث تم تنفيذ أعمال ترميم كبيرة من قبل الحكام الحفصيين، في عهد المستنصر عام 1250 وتحت حكم أبو يحيى زكريا في أوائل القرن الرابع عشر، مضيفين ميزات مثل مرافق الوضوء واستبدال بعض الأعمال الخشبية، كما تم إجراء إصلاحات وترميمات أخرى في نقاط متعددة خلال هذه الحقبة، تم أيضاً بناء أول مئذنة معتمدة للمسجد تحت رعاية الحفصيين في 1438-1439.
في عام 1534، احتلت القوات الإسبانية تونس العاصمة واقتحمت المسجد، وداهمت مكتباته ودمرت أو شتّتت العديد من مخطوطاته، أما خلال الفترة العثمانية ، قامت كل من السلالة المرادية والحسينية بترميم وتوسيع المسجد والمؤسسات المرتبطة به، وقد ساعد ذلك في استعادة مكانة المسجد ومكانته كمركز للتعليم، أعيد بناء المئذنة الحالية بالكامل في عام 1894 وهي تحاكي الطراز الموحدي لمئذنة مسجد القصبة في الغرب.
وابتداءً من القرن الثالث عشر، أصبحت تونس عاصمة إفريقية تحت الحكم الموحدي والحفصي، وقد ساعد هذا التحول في السلطة الزيتونة على الازدهار لتصبح واحدة من المراكز الرئيسية للتعليم الإسلامي، وكان ابن خلدون، أول مؤرخ اجتماعي في التاريخ، من رواد تلك الجامعة، حيث اجتذبت الجامعة المزدهرة الطلاب والرجال المتعلمين من جميع أنحاء العالم المعروف في ذلك الوقت، إلى جانب تخصصات علوم الدين مثل تفسير القرآن، فقد قامت الجامعة بتدريس الفقه الإسلامي، والنحو العربي، التاريخ، العلوم والطب،كما كان بها مدرسة ابتدائية تعلم الشباب القراءة والكتابة وحفظ النصوص الدينية، وجدير بالذكر أن نظام التدريس لم يكن صارماً، كما لم يكن الحضور إلزامياً ويمكن للطلاب متابعة الدورات التي يختارونها، أما الطلاب الذين تابعوا دورة وأصبحوا على دراية كافية لتدريس المادة بأنفسهم، تم منحهم إجازة من قبل معلمهم.
كما تم إلحاق المكتبات الغنية بالجامعة، وقد غطت المخطوطات جميع المواضيع والعلوم تقريباً، بما في ذلك النحو والمنطق والتوثيق وآداب البحث وعلم الكونيات والحساب والهندسة والمعادن والتدريب المهني وغيرها، وتضم إحدى مكتباتها الشهيرة العبدلية مجموعة كبيرة من المخطوطات النادرة التي اجتذبت العلماء من الخارج. تم تفريق أو تدمير جزء كبير من المجموعة الأصلية للمكتبة عندما احتل الإسبان تونس واقتحموا مسجد الزيتونة عام 1534، وبعد أن حصلت تونس على استقلالها عن فرنسا في الخمسينيات من القرن العشرين، تم دمج مكتبة الجامعة في المكتبات الوطنية بتونس.
بدأ أحمد باي الإصلاحات الإدارية والمناهجية للمؤسسة في عام 1842، واستمرت في عام 1875 في عهد رئيس الوزراء خير الدين التونسي، الذي قام أيضاً بتوسيع مكتبة العبدلية وفتحها للعامة،وفي عام 1896 تم إدخال دورات جديدة مثل الفيزياء والاقتصاد السياسي والفرنسية، وفي عام 1912 امتدت هذه الإصلاحات إلى فروع الجامعة الأخرى في القيروان وسوسة وتوزر وقفصة، وحتى القرن العشرين، كان معظم الطلاب من أغنى العائلات في تونس، ولكن بعد ذلك اتسع نطاقهمـ وتحول المسجد تحت الحكم الاستعماري الفرنسي إلى معقل للثقافة العربية والإسلامية مقاومة للنفوذ الفرنسي، درس فيه بعض الأعضاء البارزين في الحركة الوطنية الجزائرية، مثل عبد الحميد بن باديس ، توفيق مدني ، وهواري بومدين .
بعد الاستقلال عن فرنسا، أدت إصلاحات نظام التعليم في عام 1958 وإنشاء جامعة تونس في عام 1960 إلى تقليل أهمية الزيتونة، في 1964-1965 تم إلغاء وضعها كجامعة مستقلة من قبل الرئيس الحبيب بورقيبة وتم تحويلها إلى كلية دينية لجامعة تونس،ولسنوات بعد ذلك، وتحت حكم كل من بورقيبة وخليفته بن علي، ظلت مؤسسة الزيتونة التعليمية متميزة رسمياً ومادياً عن مسجد الزيتونة نفسه، وفي عام 2012، بعد الثورة التونسية واستجابة لعريضة قضائية قدمتها مجموعة من المواطنين التونسيين، أعيد فتح المكاتب التعليمية السابقة للجامع وتم إعلانه مؤسسة تعليمية مستقلة مرة أخرى.
وقد اتبع جامع الزيتونة في تصميمه وعمارته المساجد السابقة، ولا سيما مسجد عقبة بالقيروان الذي بني بشكله الحالي قبل بضعة عقود، يتكون المبنى بشكل أساسي من صحن شبه منحرف وقاعة للصلاة على طراز الأعمدة، والفرق الرئيسي بين هذا المسجد ومسجد القيروان هو موقع المئذنة التي أضيفت في هذه الحالة في فترة لاحقة، كما يندمج المسجد بشكل وثيق في النسيج الحضري.
في ختام هذه الرحلة إلى العظمة التي عاشها الإسلام في القرن التاسع المختصرة والعامة والتي سنفرد لها صفحاتنا لاحقاً، نجد أن الإرث العلمي والثقافي الذي خلفته هذه الفترة يشكل ركيزة أساسية في تاريخ البشرية، لقد كانت هذه الفترة لحظة ذهبية للتأمل في تأثير الإسلام على العلم والمعرفة، وكيف أسهم في بناء حضارة قائمة على الفهم والتفكير، كما رأينا في قلب هذه الفترة، ومن خلال جامع وجامعة الزيتونة، كانت الإرادة الإسلامية تدفع نحو تحقيق التفوق في كل الميادين، استنارت المنطقة بنور العلم والفكر، وتمثلت العظمة في تفتح العقول وانبثاق الفهم العميق لقوانين الكون ومكنوناته.
في النهاية، يظهر الإسلام كمصدر للإلهام الدائم والاهتمام الدائم بالعلم، حيث تظل قيم الإسلام وتعاليمه العالمية تحث على البحث المستمر ورغبة الإنسان في فهم طبيعة الحياة ومكمن الحقائق الكونية، إن تاريخ القرون الوسطى الإسلامية يمثل تذكيراً قوياً بأن العلم والدين يمكن أن يتلاقيان بتوازن، مشكلين صورة جديدة للتفوق والتقدم.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.