مائة يوم من الحرب الضروس في قطاع غزة، منذ هجوم السابع من أكتوبر 2023، كانت كفيلة بأن تدفع ببشائر النصر للمقاومة وأن تفرض مؤشرات جادة للانهزام على كيان الاحتلال الإسرائيلي . والنصر هنا له معنى واضح وهو «انتصار الإرادة». فقد عجزت إسرائيل التى كانت تعرِّف نفسها ببجاحة للعالم كله أنها «القوة العظمى الإقليمية» في الشرق الأوسط، وأنها تملك «جيشاً لا يقهر»، عن تحقيق أي من أهداف حرب الإبادة الجماعية التى تشنها على قطاع غزة، منذ يوم الثامن من أكتوبر 2023 رداً على هجوم «طوفان الأقصى»، ولم تستطع أن تفرض نفسها صاحب الحق الأوحد في تحديد معالم «اليوم التالي» لانتهاء الحرب ومستقبل قطاع غزة. العكس هو الصحيح .. انتصرت المقاومة وهزمت إسرائيل، التى تفعل المستحيل الآن لتسول مجرد «صورة انتصار» حتى ولو كان هذا الانتصار هو استرداد المخطوفين أو الأسرى لدى المقاومة، على نحو ما يجتهد الجنرال «عامي أيالون» رئيس جهاز «الشاباك» (المخابرات العامة الإسرائيلية) في الفترة من 1996 ـ 2000، في حواره المهم مع الكاتب الإسرائيلي الشهير يوسي ميلمان (10/1/2024). فقد اجتهد آيالون في هذا الحوار لتقديم «استراتيجية للخروج» من «حرب غزة»، من أبرز معالم هذه الاستراتيجية التوصل إلى «صفقة شاملة» تشمل استعادة المخطوفين مقابل إطلاق سراح مروان البرغوثي الزعيم الفلسطيني الأسير، باعتباره «القادر على قيادة زعامة فلسطينية موحدة وشرعية على طريق «عملية انفصال» يتفق عليها مع الجانب الفلسطيني . ويقول رئيس الشاباك الأسبق موضحاً أن استعادة المخطوفين الإسرائيليين هي أقرب ما يمكننا تحقيقه من «صورة نصر» في الحرب الدائرة في غزة.
تسول مجرد «صورة نصر» أي صورة أضحت طموحاً إسرائيلياً فماذا يعني ذلك؟
الإجابة جاءت على لسان أقرب الناس إلى بنيامين نيتانياهو، وأعني «يوسي كوهين» رئيس الموساد السابق ووزير الخارجية حتى أسابيع قليلة، الذى شن هجوماً ضارياً على نيتانياهو والفريق الذي يحكم إسرائيل الآن، وقال بصراحة شديدة مفعمة بـ «المرارة»: «اليوم، وبعد ثمانين يوماً من الأخطاء (يقصد ثمانين يوماً من بدء حرب الإبادة الجماعية على قطاع غزة) والتقديرات غير المدروسة، تجد إسرائيل، لأول مرة منذ تأسيسها عام 1948 في صراع الوجود واللا وجود».ويزيد قائلاً: نعم يا بني وطني اللا وجود.. أنا سأكون أول من يعلق الجرس، وليسمعني اليوم جميع بني وطني، إذا استمر هذا الفريق في قيادتنا (يقصد نيتانياهو وحكومته) فنحن عائدون إلى بولندا وروسيا وبريطانيا وأمريكا، إذا سمحوا لنا بالعودة».
هكذا، بدأ يوسي كوهين الشهير، بعد مرور 80 يوماً على حرب غزة، يحذر من مصير لكيان الاحتلال يرى أنه أخذ يلوح في الأفق، وهو ما يمكن تسميته «العودة العكسية الإسرائيلية، كأحد معالم مصير محتوم آخذ في فرض نفسه يوماً بعد يوم كحل أو كنهاية للصراع. وهذا ما حفز البعض من المهمومين بمستقبل الصراع ضد كيان الاحتلال إلى الدعوة من جانب الفلسطينيين والعرب ومعهم كل أحرار العالم إلى هجر دعوة «حل الدولتين» كحل للصراع، بمعنى قيام دولة فلسطينية، ما زالت ترفضها إسرائيل إلى جانب كيان الاحتلال، والذهاب مباشرة إلى تبني حل آخر بديل، لم يعد مستحيلاً، ولكنه من أبرز معالم بشائر النصر الذى أخذ يلوح في الآفاق بفضل هجوم السابع من أكتوبر 2023 وبفضل الصمود الأسطوري غير المسبوق للشعب الفلسطيني في قطاع غزة ضد حرب «إبادة جماعية» غير مسبوقة من جانب قوات الاحتلال، هذا الحل هو «حل العودتين».نعم حل العودتين، الذى تحدث عنه يوسي كوهين بمرارة، أي عودة اليهود إلى بلادهم الأصلية التي نزحوا منها إلى فلسطين بعد أن تم فرض الانتداب البريطاني على فلسطين ضمن تسويات تركة الإمبراطورية العثمانية ونهاية الحرب العالمية الأولى، وعودة كل اللاجئين الفلسطينيين الذين أخرجوا عنوة من بلادهم منذ عام 1948 .حل العودتين لم يعد مستحيلا . هم يفكرون فيه في إسرائيل حتى قبل هجوم طوفان الأقصى، الذى وصفه توماس فريدمان الكاتب الأمريكي (الصهيوني) الشهير في صحيفة نيويورك تايمز استناداً إلى حواراته مع صديقه الكاتب الإسرائيلي الشهير ناحوم برنياع بأنه «كارثة» غير مسبوقة لإسرائيل، على ضوء ما حدث من «إذلال» للجيش الإسرائيلي. ونحن أيضاً، كعرب، يجب أن نفكر فيه، ونتوقف عن «تسول» ما يوصف بـ «حل الدولتين»، لأننا يجب أن نعرف أننا لم نعد في حاجة إلى هذا التسول شرط أن نعي حقيقتين فرضتهما حرب غزة الراهنة.
ـ الحقيقة الأولى، هي أن إسرائيل انكسرت هيبتها وانكشفت حقيقتها الهشة، بعد أن جرى إذلال جيشها الذى لا يقهر أمام قوة محدودة لا تزيد علي 70 مقاتلاً من «نخبة النخبة» في كتائب القسام التابعة لحركة «حماس»، ولم تعد هي «القوة الإقليمية العظمى التي لا تقهر»، وأن بقاءها بات مرهوناً بالدعم الأمريكي ـ الأوروبي الذى وفر لها البقاء حتى الآن . هذه الهزيمة وهذا الانكشاف، سيفرضان، عاجلا أم آجلا، فتح ملف حقيقة وجود كيان الاحتلال الإسرائيلي، ككيان احتلال استعماري استيطاني .
- الحقيقة الثانية، أن المقاومة أضحت «حقاً مشروعاً للشعب الفلسطيني لتحرير أرضه المحتلة» فبعد كل ما حدث يوم السابع من أكتوبر 2023 وما بعده من صمود أسطوري للشعب الفلسطيني، وبداية معالم تفكك كيان الاحتلال، أعاد القضية الفلسطينية إلى حقيقتها وهي أن فلسطين أرض عربية محتلة، وأن القانون الدولي يعطي للشعب الفلسطيني الحق في أن يقاوم لتحرير أرضه المحتلة، والحق في تقرير المصير، وأنه وحده من يملك هذا الحق في تقرير المصير.هذا يعني أن القضية الفلسطينية أضحت أمامها فرصة تاريخية أن تعرض من جانب الشعب الفلسطيني باعتبارها واحدة من قضايا الاستقلال والتحرر الوطني، وأن المجتمع الدولي بات معنياً بتمكين الشعب الفلسطيني من تحرير أرضه المحتلة وأن يحقق استقلاله الوطني، مثل كل شعوب العالم الثالث التي خاضت حروب الاستقلال والتحرير ونالت حريتها واستقلالها .
د. محمد السعيد إدريس