في قلب النضال الفلسطيني الطويل يتجلى حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واستعادة أراضيه، حقوق لا تقل أهمية عن أي حقوق أخرى مكرسة في القانون الدولي، بالتالي، إن استمرار الصراع الفلسطيني الصهيوني يظل تحدياً حقيقياً للعدالة والسلام، حيث تبقى القضية الفلسطينية مصدر إلهام للكثيرين الذين يؤمنون بأن حقوق الإنسان والعدالة يجب أن تكون في صلب أي جهد لحل الصراع.
في هذا السياق، تتسارع الأحداث في واشنطن، مركز العديد من القرارات والتحركات التي قد تلقي بظلالها على مسار الصراع ومستقبل الشعب الفلسطيني، إنما هنا يكمن الجدل والتحديات، فما يتم رسمه في العاصمة الأمريكية لن يكون حلاً نهائياً للصراع، بل يجب أن يُفهم أن حقوق الشعب الفلسطيني هي قاطرة السلام، وأي تحول يجب أن يراعي هذه الحقوق ويحترمها.
وفي التفاصيل، فقد أصدر أنتوني بلينكن، وزير الخارجية الأمريكي، توجيهاته لموظفي وزارة السياسة الخارجية الأمريكية لاستكشاف خيارات احتمال الاعتراف بالدولة الفلسطينية، حيث تعكس هذه التحركات التوجه الأمريكي نحو استكمال المفاوضات الفلسطينية الصهيونية وتخطي السياسات التقليدية، وجدير بالذكر أن السلطات البريطانية كانت قد سمحت سابقاً بالاعتراف بفلسطين في انتظار استكمال المفاوضات، بالتالي، يبرز هذا التحول في موقف الدول الغربية تساؤلات حول تصميم رئيس وزراء الاحتلال الصهيوني بنيامين نتنياهو، الذي يعارض بشدة فكرة حل الدولتين.
تكليف لوزارة الخارجية
استعرضت وزارة الخارجية الأمريكية خيارات اعتراف محتمل بالدولة الفلسطينية”، كانت هذه هي العناوين الرئيسية لتقرير نشرته صحيفة “أكسيوس”. بناءً على مصادر داخلية، وذكرت الصحيفة أن وزير الخارجية الأمريكي، أنتوني بلينكن، أمر بتحليل وتقديم خيارات للاعتراف المحتمل بالدولة الفلسطينية من قبل الولايات المتحدة وممثلين دوليين آخرين.
وبينما يصر المسؤولون الأمريكيون على أن السياسة تجاه الصراع الصهيوني الفلسطيني لم يتغير، فإن فحص خيارات الاعتراف يشير بوضوح إلى تحول داخلي في إدارة الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، وكما هو معلوم أنه لعقود طويلة، كانت سياسة واشنطن تعترض على الاعتراف بفلسطين كدولة قبل إجراء مفاوضات مباشرة مع الكيان الصهيوني.
وأفاد مسؤول أمريكي كبير أن الجهود المبذولة لحل الصراع في قطاع غزة فتحت الباب لإعادة النظر في نماذج السياسة الأمريكية السابقة، يجدر بالذكر أن الإدارة الأمريكية تسعى بشكل خاص إلى تحسين العلاقات بين الرياض وتل أبيب، وكانت هناك محادثات متقدمة بين المملكة العربية السعودية وكيان الاحتلال بشأن اتفاق سلام.
وفي هذا السياق، تشير المصادر إلى أن أي اتفاق محتمل مع السعودية قد يعتمد على التقدم نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، ولكن دون تحديد خطوات ملموسة، في المقابل، يمكن للولايات المتحدة تحقيق اتفاقية دفاعية مع الرياض.
بالتالي، تعد مثل هذه الاتفاقيات، تغييراً مهماً في هيكل العلاقات في الشرق الأوسط، وتعزز الأمن الصهيوني ضد التهديد الإيراني، مما يمثل نصراً دبلوماسياً للكيان الصهيوني ويعود بالفائدة على الرئيس بايدن قبل الانتخابات الرئاسية الأمريكية.
متغيرات مختلفة
في الوقت نفسه، تستعرض وزارة الخارجية الأمريكية، وفقاً لتقرير نشرته صحيفة “أكسيوس”، عدة خيارات للعمل الأمريكي فيما يتعلق بالاعتراف بدولة فلسطين، يشمل ذلك الاعتراف الثنائي بدولة فلسطين، ورفض منع مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية، وتشجيع الدول الأخرى على الاعتراف بفلسطين.
في إدارة الرئيس باراك أوباما، درست وزارة الخارجية هذه القضية، لكنها لم تتخذ أي قرار في النهاية، حتى الآن، لم يوقع الرئيس الأمريكي جو بايدن سوى مرسوماً يفرض عقوبات على المستوطنين الصهاينة الذين يهاجمون السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية، ومع ذلك، يظهر هذا أيضاً تغييراً في موقف واشنطن.
ففي بيان للرئيس الأمريكي، أكد أن “العنف الذي يمارسه المستوطنون المتطرفون” في الضفة الغربية يشكل تهديداً خطيراً للسلام والأمان والاستقرار في المنطقة، وأشار البيان إلى أن هذه التصرفات تشكل تهديداً غير عادياً للأمن القومي والسياسة الخارجية للولايات المتحدة.
ومن جهة أخرى، إن تغيير السياسة الأمريكية تجاه الفلسطينيين والصهاينة، والذي يعتمد على المكاسب السياسية لواشنطن، بمثابة “نفاق دموي”، حيث يعترف الزعيم الأمريكي أولاً بأنشطة الكيان الصهيوني الاستيطانية، مما يحفز الصهاينة على تطوير الأراضي الفلسطينية، ثم يصدر مرسوماً يجيز فرض عقوبات على المستوطنين، ويتعامل هذا التلاعب المستمر مع مظاهر القومية وكراهية الأجانب، حيث تلعب الولايات المتحدة على مشاعر الفلسطينيين والصهاينة، اليهود والمسلمين، اعتماداً على المكاسب السياسية ومن أجل الصفقات الدبلوماسية القادمة.
وتظهر دول غربية أخرى أيضاً إعادة النظر في مواقفها، فقد أعلن وزير الخارجية البريطاني ديفيد كاميرون أن لندن يمكنها الاعتراف رسمياً بالدولة الفلسطينية المستقلة دون انتظار استكمال المفاوضات بشأن التعايش بين الدولتين، وفي الوقت نفسه، حدد الشرط لهذا القرار – “إذا غادر قادة حركة حماس الجيب بعد وقف إطلاق النار في قطاع غزة”، ما يؤكد مجدداً أن أي قرار يتم اتخاذه أو حتى مناقشته يجب أن يصب في مصلحة الكيان الصهيوني لا الشعب الفلسطيني وهذه قاعدة عامة للغرب الجميع متأكد منها.
من النهر إلى البحر
بالمقابل، يعارض رئيس وزراء كيان الاحتلال بنيامين نتنياهو بشكل قاطع أي اعتراف بالدولة الفلسطينية من قبل دولة منفردة أو في الأمم المتحدة، وعبر وسائل التواصل الاجتماعي، أكد نتنياهو قائلاً: “لن أتنازل عن السيطرة “الإسرائيلية” الكاملة على الأمن في جميع مناطق غرب نهر الأردن – وهذا يتعارض مع “فكرة إنشاء” دولة فلسطين”، وقد نقل موقفه المعارض للإدارة الأمريكية، حيث أشار إلى أنه عمل لمدة 30 عاماً لمنع قيام الدولة الفلسطينية.
وأضاف نتنياهو: “في المستقبل، يجب على “دولة إسرائيل” أن تسيطر على كامل الأراضي من النهر إلى البحر”، كما أوضح أن غالبية المواطنين لن يدعموا رغبة الدول الأخرى في رؤية دولة فلسطينية ذات سيادة بقيادة “إسرائيل.”
بالتالي، تحمل مواقف نتنياهو تعقيدات كبيرة، حيث يعتبرها الغرب غير متوافقة مع حل الدولتين، فقد رد وزير الدفاع البريطاني غرانت شابس بأنهم لا يتفقون مع موقف “إسرائيل” بشكل خاص حيال هذه القضية، مؤكداً أن الحل الوحيد الممكن يكمن في حلاً بنظام الدولتين.
وهذا بدوره يضر بسمعة الغرب، فقد تقع الإدارة الأمريكية الحالية في مأزق خطير، حيث يتطلب الأمر تسوية الصراع في غزة، ووقف الهجمات على القواعد الأمريكية، وتحقيق التطبيع في المنطقة، ومع حلول موعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية، يضغط جو بايدن على نتنياهو، لكن الأخير يواجه ضغوطاً داخلية كبيرة من المتطرفين الصهاينة.
كما أن السياسة الأمريكية تحتاج إلى اتخاذ قرار حاسم، إما بالاستمرار في دعم الكيان الصهيوني أو محاولة استرضاء نتنياهو، أو بالتصرف وكأن شيئاً لم يحدث، وفي حال بدء لعبة جديدة، يجب أن تكون خطواتها حذرة وتتضمن خطة جادة للتعامل مع الأزمة بشكل شامل، ولكن يعتبر هذا تحدياً كبيراً للزعيم الأمريكي، الذي قد يجد صعوبة في الإقناع وتغيير مواقف نتنياهو.
في هذا السياق، تبدو بعض الدول الأوروبية قد بدأت في ممارسة ضغوط جادة على الكيان الصهيوني، ولكن نتنياهو، الذي يعتقد أن الولايات المتحدة ستظل تقف إلى جانبه، يتجاهل نصائح الرئيس الأمريكي، وتزداد التعقيدات مع استمرار الصراع، وتحولت القضية إلى حملة انتخابية، حيث يسعى نتنياهو للبقاء في السلطة، ورئيس الوزراء يواجه تحديات داخلية وضغوطاً خارجية.
وفي سياق التحليل لما سبق، هناك جانب مهم لا يمكننا التنازل أو التغاضي عنه، حيث تبرز أهمية دعم الشعب الفلسطيني ووقف الصراع، يظهر بوضوح أن هناك تركيزاً متزايداً على ضرورة إيجاد حلاً عادلاً وشاملاً للصراع الفلسطيني الصهيوني، وذلك من خلال الدعوة إلى تكاتف المجتمع الدولي والمحافل العربية لتحقيق السلام والعدالة، من خلال أهمية دعم الشعب الفلسطيني، وإبراز حقه في تقرير مصيره واستعادة أراضيه وكرامته، وذلك استناداً إلى القوانين الدولية، وأي حل يجب أن يحترم ويحقق هذه الحقوق الأساسية بالحد الأدنى.
كما تتجلى أهمية التضامن مع الشعب الفلسطيني بوضوح كبير في ضوء التحديات الكبيرة التي يواجهها والظروف الصعبة التي يعيشها، بالتالي، إن حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره واستعادة أراضيه وكرامته يجب أن يظل في قلب التفاعل الدولي والجهود الدبلوماسية، وأن مسألة حل الدولتين يجب أن تكون فرصة لتحقيق العدالة وضمان حقوق الفلسطينيين، وليس مجرد إجراءات شكلية، وهذا يتحقق عندما يتحد المجتمع الدولي والمحافل العربية في مواجهة أي تحرك يمكن أن يعرقل هذا المسار نحو العدالة والتسوية، ولكن مع الأسف هذا مسار شائك وطويل ليس لأنه صعب التحقيق، لكن لأن الغرب بغالبيته يقف مع الكيان الصهيوني وكل مشاهد الدم والدمار وقتل الأطفال وتشريد مئات الآلاف لم تحرك هذا المجتمع قيد أنملة للتصرف بضمير حي باستثناء جنوب إفريقيا.
لكن في هذا السياق، هناك أمل بسيط في أن يكمن الدور الحيوي لتفعيل القانون الدولي كوسيلة لتحقيق العدالة ومحاسبة أي انتهاكات لحقوق الإنسان التي قد تحدث، كما يجب أن يكون القانون هو المرجع الذي يحكم التفاعل الدولي ويضمن أن تكون الجهود الجماعية مستدامة وفعالة، ومن خلال التضامن القائم على القيم الإنسانية والعدالة، يمكن للمجتمع الدولي أن يلعب دوراً محورياً في تحقيق حلول دائمة وإنهاء الصراع الفلسطيني الصهيوني، بالتالي، لا بد من توحيد الجهود وتعزيز التفاهم الدولي لتحقيق سلام عادل ومستدام في المنطقة، والوقوف بجانب الشعب الفلسطيني في سعيهم لتحقيق حقوقهم المشروعة وإرساء مستقبل يعيشون فيه بكرامة وأمان.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.