انطلاقَا من أنَّ الأمن الوطني يُشكِّل صمام الأمان للتنمية الوطنيَّة المستدامة؛ كونه يُعبِّر عن جملة الأبعاد الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والفكريَّة الَّتي تعمل في إطار النظام الأساسي للدَّولة والقوانين النَّافذة لتحقيق الأمن والأمان والاستقرار والرَّفاه الاجتماعي والعيش الكريم للمواطن وتضْمن له ممارسة حقوقيَّة واعية، في إطار تحقيق الأهداف التنمويَّة وترسيخ مبادئ العدْل والأمن والنِّظام ورفع درجة الوعي المُجتمعي والحسِّ الأمني بما يُعزِّز من كفاءة الاستثمار في الفرص التنمويَّة المتاحة والميزة التنافسيَّة المتحقِّقة. وعَلَيْه فإنَّ طرحنا لهذا الموضوع ينطلق من حجم التداعيات والمخاطر المرتبطة بالأيدي الوافدة على الاستقرار الاجتماعي والمعيشي للمواطن وفرص العمل المتاحة له والاستفادة من الخيارات الاقتصاديَّة والأنشطة في تعزيز حضوره في القِطاع الخاصِّ والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة والعمل الحُر، فإنَّ الأيدي الوافدة السَّائبة، سواء تلك الَّتي دخلت أرض سلطنة عُمان بطريقة غبر مشروعة أو خالفت في دخولها قانون العمل وقانون إقامة الأجانب أو جاءت عَبْرَ تأشيرات سياحيَّة مؤقتة؛ جراثيم خطرة تنخر في الجسد الوطني في ظلِّ ممارساتها وسلوكيَّاتها الَّتي تمجد ثقافة الربحيَّة والكسب السَّريع وتتجافى مع الثوابت والمتغيِّرات القيميَّة والأخلاقيَّة.
وتشير السَّاعة السكَّانيَّة بالمركز الوطني للإحصاء والمعلومات من أنَّ عدَد الوافدين في سلطنة عُمان حتَّى العاشر من فبراير من عام 2024 بلغ (2.228.568) مليون وافد بما نسبته (43.16%)؛ والَّذي بِدَوْره يُشكِّل تحدِّيًا كبيرًا على الموارد الوطنيَّة، والتوجُّهات السَّاعية إلى تعزيز حضور المواطن في مُكوِّنات النَّشاط الاقتصادي والإنتاجي والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة والشركات الناشئة والعمل الحُر، وسعي الحكومة نَحْوَ تعظيم حضور الشَّباب العُماني في القِطاع الخاصِّ لاستيعاب الارتفاع الحاصل في أعداد الباحثين عن عمل والَّذين تُشير الإحصائيَّات إلى أنَّهم تجاوزوا (110) آلاف باحث عن عمل حتَّى النِّصف الأوَّل من عام 2023، والإجراءات المُتَّخذة بشأن منع استقدام الأيدي الوافدة من الجنسيَّة البنجلاديشيَّة بهدف تنظيم هذا القِطاع وضبطه وبما يفسح المجال للمواطن في الحصول على الوظائف؛ ومع ذلك يبقى التحدِّي الأكبر في أنَّ هذا العدَد المشار إِلَيْه في أعداد الوافدين أقلَّ بكثير من الواقع الفعلي في ظلِّ ما يرصده حساب شُرطة عُمان السُّلطانيَّة عَبْرَ منصَّة (إكس) من ارتفاع نشاط دخول البلاد بطريقة غير مشروعة عَبْرَ البحر، أو بالتحايل على القانون أو أولئك الهاربِين من أعمالهم ويعملون خارج إطار الكفيل وربِّ العمل، وما يعنيه ذلك من أنَّ هناك أيديًا وافدة أخرى خارج الإطار القانوني وهي الفئة السَّائبة غير المرخَّصة والَّتي بدأ اتِّساعها وانتشارها يأخذ منحًى خطيرًا ونتائج سلبيَّة ليست على المنظومة الأخلاقيَّة والقيميَّة والهُوِيَّة العُمانيَّة أو على الموارد الوطنيَّة، بل أيضًا في ارتفاع أعداد الجرائم وزيادة الجناة من الوافدين وتأثيرها على الجانب الاقتصادي وعَبْرَ شرعنة التجارة المستترة الَّتي باتَتْ تضعف كفاءة الاقتصاد الوطني والأنشطة الاقتصاديَّة المعتمدة وتؤثِّر سلبًا على الحركة الاقتصاديَّة للمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة مشاريع الشَّباب، ناهيك عن ما باتَتْ تُسبِّبه هذه الأيدي الوافدة من مشكلات اجتماعيَّة بَيْنَ بعضها البعض وتجمُّعات في المناطق السكنيَّة والقديمة بما تثيره من ذعر وخوف لدى الكثير من الأسر، وحالة العراك والنزاع المستمرَّة بَيْنَ هذه الفئات الوافدة.
ولعلَّ ما يزيد من فجاعة هذا التحدِّي وخطورته ما تفصح عَنْه الإحصائيَّات المتعلِّقة بالأيدي الوافدة، والَّتي من المتوقع أنَّها تحصل من الأيدي الوافدة السَّائبة غير المرخَّصة أو الَّتي لا تمتلك رخصة عمل أو هاربة أو ليس لدَيْها مهنة محدَّدة، وتعتمد في توفير احتياجاتها إمَّا على التسوُّل أو استغلال النَّاس والتحايل أو الدخول عَبْرَ ممارسات اقتصاديَّة مشبوهة أو السرقة أو سرقة الكابلات وأسلاك الحديد وغيرها، حسب ما كشف عَنْه المعرّف الرَّسمي لشُرطة عُمان السُّلطانيَّة في منصَّة (X) من ارتفاع عدد الجرائم والممارسات المرتبطة بسرقة كابلات الكهرباء وأسلاك الحديد من أماكن تنفيذ إنشاءات البناء أو المزارع وغيرها. وتُشير إحصائيَّات وزارة العمل لعام 2021 إلى أنَّ فِـرق التفتيـش المشتركة ُ المؤلَّفة مـن كـوادر تفتيـش العمـل بالـوزارة وشُـرطة عُمان السُّلطانيَّة قامت بتنفيـذ مجموعـة مـن حمـلات التفتيـش بالمحافظات لضبـط الأيدي الوافدة غيـر العُمانيَّة المخالفة لأحكام قانونـي العمـل والإقامة، حيـث بلـغ عـدد المخالِفين (3046) عاملًا وعاملـةً موزَّعيـن حسب جنسيَّات العمَّال الوافدين المخالفين على النَحْوِ الآتي: (1966) من الجنسية البنجلادشية وبنسبة (64.5%)، و(311) عاملًا وعاملة من الجنسيَّة الهنديَّـــــــة وبنسـبة (10.2%)، و(289( عاملًا وعاملة من الجنسيَّة الباكستانيَّـــة وبنسـبة (9.5%)، و(480) عاملًا وعاملة مــن جنسيَّـــات أخـــــرى، بنسـبة (15.8%)؛ كما جاء توزيع العمَّال المخالفين حسب فئة العمَّال على النَّحْوِ الآتي: (1918) عاملًا وعاملة بفئة الأعمال التجاريَّة وبنسبة (63%) و(1070) عاملًا وعاملة بفئة الخدمات الخاصَّة وبنسبة (35%) (وغالبيَّتهم من العاملين بمهنة عامل/عاملة منزل)، و(58) غير معرّفين وليس لَهُمْ أصحاب عمل وبنسبة (2%) (بعضهم دخلوا البلد بتأشيرات سياحيَّة أو زيارة).
وبالعودة إلى تصنيفات الجرائم، تُشير إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء لعام 2021 إلى أنَّ الجرائم المخالفة للقوانين قَدْ حصلت على المرتبة الثالثة في تصنيف الجرائم وبنسبة (17.3%) بواقع (2.217) جريمة. وبالنظر إلى تفاصيل هذه الجريمة، أظهرت الإحصائيَّات أنَّها تتركز بشكلٍ أكبر في: دخول البلاد بطريقة غير مشروعة بواقع (1324) جريمة وبنسبة (60%) من الجرائم الواقعة تحت هذا التصنيف، حيث بلغ عدد الجناة الوافدين فيها (2697) مقابل فقط (22) مواطنًا؛ يليها مخالفة قانوني إقامة الأجانب وقانون العمل بواقع (538) وبنسبة (24%)، حيث بلغ عدد الجناة الوافدين فيها (692) مقابل فقط (76) مواطنًا. وتُشير الإحصائيَّات إلى أنَّ (51%) من الجناة هم وافدون، كما أنَّ أكثر من (88.6%) مِنْهم من فئة الذكور و(11.4%) من الإناث. وبالنظر إلى توزيع الجناة بحسب تصنيف الجرائم لعام 2021، فإنَّ الوافدين يُشكِّلون أكثر الفئات في نسبة ممارسة الجرائم المخالفة للقوانين (40.3%)، كما يُشكِّلون حضورًا واسعًا في الجرائم الواقعة على الأموال (22.7%)، والجرائم الواقعة على الأفراد (11.3%) وجرام المخدرات (6.6%) والجرائم المخلَّة بالعِرض والأخلاق العامَّة (6.3%)، فمثلًا يًشكِّل الوافدون في الجرائم الواقعة على الأموال من بَيْنِ جملة عدد الجرائم (4.121) جريمة ما مجموعه (2.124) جريمة، وتوزَّعت بشكل أكبر على السرقة والشروع فيها بواقع (906) جرائم، تليها إساءة الأمانة بواقع (651)، وأمَّا بشأن الجرائم المخلَّة بالعِرض والأخلاق العامَّة فقَدْ بلغ عدد الجناة الوافدين (590) توزَّعت على ممارسة الدعارة بواقع (373)، تليها لعب القمار (137).
عَلَيْه، تحمل هذه المؤشِّرات الإحصائيَّة دلالات كبيرة بشأن مخاطر الأيدي الوافدة على المنظومة الوطنيَّة الأمنيَّة الشَّاملة، وتزيد هذه الخطورة عِندما تأتي من الأيدي الوافدة السَّائبة؛ كونها خارجة عن القانون، وتلاحقها أيادي العدالة، لذلك فهي تبحث عن كُلِّ الطرُّق الَّتي تضْمن لها الحصول على المكسب السريع بالرشوة أو السرقة أو القتل أو الاحتيال أو غير ذلك، وتداعياتها السلبيَّة على استقرار وسمعة سُوق العمل، في ظلِّ نُموِّ الأنماط الاقتصاديَّة المشوّهة والمبتذلة النَّاتجة عن التجارة المستترة، مِثل: الاحتكار والسُّوق السوداء وتزايد حالات الغشِّ التجاري، والتأثير على تنظيم سُوق العمل، والمنافسة غير المتكافئة مع روَّاد الأعمال والمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة، والتهرُّب الضريبي، والتحايل على الإجراءات المعمول بها، وترسيخ صورة مشوّهة تزعزع الثِّقة في قدرة سُوق العمل العُماني على استيعاب الكفاءات الوطنيَّة واستقطاب الخبرة الدوليَّة وتوطينها، كما تقلِّل من أهمِّية الإجراءات والتوجُّهات الوطنيَّة السَّاعية لتنظيم السُّوق وما تمَّ اتِّخاذه في هذه الشَّأن.
على أنَّ إنشاء وحدة التفتيش في وزارة العمل بالتنسيق مع شُرطة عُمان السُّلطانيَّة ومؤسَّسة الأمن والسَّلامة في ما من شأنه ضبط العمَّال المخالِفين لقانون العمل، والحدُّ من إشكاليَّات هذه الظاهرة عَبْرِ تعزيز كفاءة عمليَّات التفتيش والضبطيَّة والمراقبة العمَّاليَّة، والضبطيَّة القضائيَّة الممنوحة للعاملين في هذه الوحدة؛ يأتي منسجمًا مع توجُّهات الحكومة في تنظيم سُوق العمل وما تمَّ اتِّخاذه من إجراءات سابقة، ومِنْها ما أعلنته وزارة العمل في الفترة الأخيرة عن قائمة من الأنشطة المحظورة على الاستثمار الأجنبي مزاولتها والَّتي تجاوزت ما يزيد على (207) أنشطة؛ بهدف توطين هذه المِهن وتعمينها والحدِّ من عمليَّات الاحتكار والمنافسة عَلَيْها من قِبل الأيدي الوافدة، بالإضافة إلى قرار وزارة التجارة والصناعة وترويج الاستثمار رقم (412/2023) بشأن مكافحة التجارة المستترة بالتعاون مع عددٍ من الجهات الحكوميَّة، بما من شأنه إعادة موقع المواطن في سُوق العمل، خصوصًا في ظلِّ التوجُّهات الوطنيَّة نَحْوَ رفع سقف الإنتاجيَّة للمؤسَّسات الصغيرة والمتوسِّطة والأنشطة التجاريَّة والاقتصاديَّة الَّتي يمارسها المواطن.
إنَّ ما سبَق ذِكْره يؤكِّد الحاجة إلى تبنِّي سياسات وطنيَّة واضحة في تعقُّب العمَّال المخالِفين، وسدِّ الثغرات والمنافذ الَّتي تُشكِّل مدخلًا لانتشار الأيدي الوافدة السَّائبة، وأن تتَّخذَ آليَّة العمل الوطني شكْلَ العمل المنظَّم والمدروس الَّذي يؤسِّس لمرحلة إعادة هندسة هذا الملف بطريقة تضع الجميع أمام تحمُّل مسؤوليَّته، إذ على الشركات في القِطاع الخاصِّ والأهلي تحمُّل مسؤوليَّتها في نتائج وتبعات التعاطي السلبي مع هذه الفئة، ومسؤوليَّة المواطن في الإبلاغ عن هذه الفئة وعدم التستُّر عَلَيْها أو إيوائها أو تشغيلها بدُونِ ترخيص، والجزاءات والعقوبات النافذة في حالة مخالفته لذلك، ودَوْره في مساعدة فِرق عمل وحدة التفتيش المشتركة، في ترصُّد وتعقُّب وضبْط العمل المخالِفين في مختلف محافظات سلطنة عُمان، وتبنِّي برامج لتعزيز الحسِّ الأمني باستخدام كفاءة البيانات والرصد الفوري للمعلومات وتتبع وجود العمَّال المخالِفين من خلال برامج تعقُّب متخصِّصة، وأن يُسهمَ الإعلام بكُلِّ منصَّاته وقنواته بِدَوْر أكبر في بناء مسارات أكثر اتِّساعًا وعُمقًا في عمليَّات التوعية والتثقيف، وتعدُّد لُغات الخِطاب الموجَّهة في تفسير القوانين النافذة لهذه الفئة، بما من شأنه أن يضعَها أمام مسؤوليَّة ضبْط ممارساتها واحترام وجودها، وتعزيز دَوْر فِرق الدَّعم والتَّوجيه والرِّقابة والرِّعاية العمَّاليَّة في إدارة هذا السلوك.
أخيرًا، فإنَّ تحقيق تحوُّل نَوْعي من وجود وحدة التفتيش المشار إليها في تحقيق مهام عملها بكفاءة عالية، يؤكِّد الحاجة إلى إعادة قراءة جديدة لقانون العمل الصادر بالمرسوم السُّلطاني رقم (53/2023) في بعض مواده لضمان تقديم الدعم اللازم لعمل هذه الوحدة، وبما يتناغم مع التوجُّه الوطني الجادِّ نَحْوَ تعقُّب العمَّال المخالِفين وضبْط العمالة السَّائبة وتخليص البلاد من خطرها.
د.رجب بن علي العويسي