تحتفي جمهورية ايران الاسلامية اليوم بالذكرى الخامسة والأربعين على قيام الثورة الاسلامية، هذه الثورة التي فجرها الشعب الايراني عام 1979م بقيادة الامام الراحل آية الله الخميني الذي كان يبث خطاباته الروحية الحماسية من باريس كقائد تاريخي لأحد أهم الثورات في التاريخ المعاصر، ولن نتطرق في سياقنا التالي الى ارهاصات الثورة وأسبابها ووضع ايران الملكية قبل ذلك التاريخ ولكننا نكتفي بالقول أن ايران كانت تسمى “شرطي” الولايات المتحدة في المنطقة، وكانت السفارة الامريكية تقع على مساحة كبيرة في قلب العاصمة طهران ومع قيام الثورة قامت مجموعة من الطلاب الثائرين باحتلال السفارة معلنة أن أولى مراحل الثورة هو التخلص من التبعية للقوى الاستعمارية ودخول عهد جديد يقوم على الاستقلال الوطني والاعتماد على الذات في تطوير البلاد .
لقد اعتمدت ايران على استثمار ثروات البلاد لصالح الشعب الايراني والدفاع عن مصالح الوطن الاستراتيجية والسعي لتطوير البلاد صناعيا وعسكريا لبناء جيش قوي قادرا على صد التهديدات الخارجية وكذلك في بعض المجالات الأخرى مثل التكنلوجيا النووية والطب والاسلحة البالستية، كل تلك التطورات بنيت على قواعد سياسية متينة ومرجعية نظام قوي حافظ على حالة من الثبات والصمود في وجه الضغوطات الخارجية والعقوبات الدولية طوال خمسة وأربعين عام، بل طوعت ايران تلك العقوبات فوصلت الى مرحلة متقدمة من العلوم نافست بها على الصعيد الدولي، ومع تزايد مستوى الضغط الذي وصل الى مرحلة التهديد بتوجيه ضربات عسكرية بقيت ايران على نهجها الثابت المقاوم دون تفريط في مساراتها الاستراتيجية لتقدم نفسها ضمن القوى الصاعدة على الساحة الدولية، وفي المفاوضات النووية مع مجموعة 5+1 قدمت ايران نموذجا استثنائيا في سياسة النفس الطويل وأجبرت تلك القوى على الجلوس معها لتوقيع اتفاقية نووية بالوكالة الدولية للطاقة الذرية بتمهيد اطاري في العاصمة العمانية مسقط .
لقد قدمت ايران نموذجا دوليا فتحولت من بلد تحكمه الارادة الخارجية الى بلد ينطلق سريعا في مجالات التطور والنمو تحكمه الأرادة الوطنية رغم المحطات الصعبة التي مرت على الثورة بدءا من الحرب العراقية الايرانية مرورا بوفاة زعيمها ومرجعها الروحي آية الله الخميني ووفاة عدد من أقطاب ثورتها في نفس الفترة ولكن قوة النظام الجمهوري ومؤسساته الحصينة مثل مؤسسة تشخيص مصلحة النظام ولجنة صيانة الدستور وقدرات جيشها وحرسها الثوري وقوة الباسيج وأسلحتها الاخرى ووعي شعبها والتزامه مع مرجعيته الفقهية فوظفت أوراقها القوية في خدمة مصلحة الجمهورية، مما جعل من نظامها الجمهوري ثابتا لا يتزعزع ثم آلت مرجعيتها وقيادتها بعد ذلك الى الامام على الخامنئي لاستكمال انطلاقها نحو المنافسة في نادي القوى العالمية ووصلت الى غزو الفضاء عبر برامجها الفضائية واستفادت من خبرة علماء الاتحاد السوفييتي السابق ثم شكلت قاعدة وطنية من العلماء الايرانيين في مجالات الفضاء والطب والذرة ووصلت في مجالات التصنيع الى مستويات متقدمة في مختلف مجالات التصنيع والتكنولوجيا النووية والصواريخ البالستية العابرة للقارات، وهكذا عندما تمتلك الدول إرادتها الوطنية وتسخر مواردها لخدمة شعبها فوصلت ايران الى مرحلة الاكتفاء الذاتي رغم استمرار وتنوع العقوبات الامريكية والدولية عليها .
لقد تجاوزت ايران عدد من الأزمات على الصعيد الداخلي في أهم محطتين الاولى كانت مع وفاة مرجعها وزعيمها الروحي آية الله الخميني والثانية عندما اندلعت الاحتجاجات المطالبة بالتغيير والتي يعتقد أن الايادي الخارجية لعبت دورا في إثارتها حيث طالبت تلك الاحتجاجات باصلاح النظام مع تحفظها على نظام ولاية الفقية وكذلك مطالبات أخرى بالانفتاح وتحسين بعض الظروف والاوضاع المعيشية، ولكن ايران تخطت كل تلك المحطات بسلام مؤكدة على قوة الجمهورية وقوة النظام في مواجهة الأزمات، ومازالت القوى المعادية تعول على مثل تلك الاحتجاجات في إضعاف ايران من الداخل إلا أن ذلك أصبح أمرا مألوفا واكتسبت ايران من تجاربها السابقة مناعة تامة، إذن ايران تثبت قدرتها كدولة مهيمنة اقليميا تتحرك بقوة نحو المنافسة العالمية مسجلة حضورها في نادي الأقوياء .
ويأتي الأهم في الاستراتيجية الايرانية الذي رسخته ايران الثورة في توجهها ونهجها ورؤيتها الخاصة بدعم قوى المقاومة العربية في فلسطين ولبنان حيث تبنت دعم القضية الفلسطينية وارتبطت بها عقائديا مما جعلها على خط العداء مع القوى الاستعمارية بشكل مباشر، لذلك وجهت ايران رسائلها القوية في أكثر من مناسبة لقوى الاستكبار العالمي وكيان الاحتلال الصهيوني في وقت كانت تدرك فيه مستوى قدراتها التي حققت لها خاصية الردع مع تلك القوى ومع الكيان الصهيوني أو “الغدة السرطانية” كما سماها آية الله الخميني، وهذا السلوك والنهج الايراني في دعم قوى المقاومة شكل لها قاعدة جماهيرية قوية وارتباطا فكريا وعقائديا مع فكرة المقاومة، ومازال الدعم الايراني لقوى المقاومة يعتبر نهجا رئيسا ضمن أولويات السياسة الايرانية كما أن الاحداث اللاحقة زادت من نفوذ ايران في المنطقة وأصبحت على تماس مباشر مع حدود فلسطين المحتلة عبر العراق وسوريا ولبنان لا سيما بعدما أفرزته الازمة السورية من نتائج ايجابية في صالح محور المقاومة .
لقد أفشلت ايران كل مخططات الاعداء لاشغالها ببعض الأزمات والحروب وفوبيا تصدير الثورة واللعب على الوتر الطائفي والمذهبي وشيطنة ايران وبث روح العداء مع الطرف العربي المجاور الذي استخدم كورقة في مواجهة ايران من خلال تسويق بعض جوانب العداء بين الطرفين وهي سياسة قديمة حديثة للقوى الاستعمارية “سياسة فرق تسد” ومع كل تلك المحاولات تخرج ايران بقوة وحصانة وتقدم في مختلف المجالات، وأخيرا فاجأت ايران العالم بتوقيعها اتفاق مع المملكة العربية السعودية برعاية الصين في اتفاق ياتي على خلاف رغبة القوى الامبريالية التي تزكي الخلاف وتأجيج الصراع والتوترات في المنطقة، مع العلم أن القوى الدولية ذاتها تتجنب مواجهة ايران لادراكها التام بمستوى الردع الذي يتوفر لدى جمهورية ايران الاسلامية وحاولت القوى المعادية لايران مؤخرا استثمار الحرب الاستخبارية وتوجيه ضربات نوعية دقيقة لعناصر المقاومة التابعة لايران في العراق وسوريا ولبنان ولكن الرد الايراني دائما ياتي بشكل موجع للاعداء في المكان والزمان المحدد، وهكذا عندما تملك الدول قرارها الوطني وسيادتها وتعتمد على قظراتها وتشكل قاعدة أحلافها وتقف بالندية والتكافؤ ولا تخذلها في وقت الأزمات على عكس بعض الاحلاف والمحاور التي تتعامل بنظرة دونية لحلفاءها المنضوية تحت ارادتها، لذا يحق لايران بعد خمسة وأربعين عاما من قيام ثورتها أن تفخر بما وصلت إليه من عزة وكرامة وتقدم وازدهار .
ايران تمثل واقعا جغرافيا وتاريخيا في المنطقة كقوة اقليمية وهي من المسلمات الأزلية أما القوى القادمة من وراء البحار والمحيطات فهي حالة مؤقتة وستزول آجلا أم عاجلا، والخفاظ على لغة التفاهم والاتفاق مع جمهورية ايران الاسلامية لما له من خير في صالح المنطقة، وبالتالي ينبغي تفعيل لغة الشراكة الاقتصادية والاستثمار والتبادل التجاري وتعزيز التعاون بين الطرفين لتحقيق الخير والتنمية لشعوب لمنطقة عموما.
لقد حققت ايران الثورة نقلة نوعية متقدمة في مختلف المجالات وهي تحتفي اليوم بعيد ثورتها الخامس والاربعين لتقدم رسالة للمنطقة والعالم أن الاعتماد على الذات يمثل العزة والكرامة ويجعل الاعداء قبل الاصدقاء ينظرون اليك باحترام شديد .
خميس بن عبيد القطيطي