في ظلِّ معطيات كونيَّة متسارعة، وتراكمات اقتصاديَّة واجتماعيَّة متتالية، وظروف أُسريَّة وعائليَّة متفاقمة، وفي ظلِّ هواجس ارتفاع أعداد الباحثين عن عمل، وأعداد المُسرَّحين عن أعمالهم وانعكاساتها على الاستقرار النَّفْسي للباحث عن عمل والمُسرَّح عن عمله، وحالات التفكُّك الأُسري والطلاق والنَّفقة والخُلع، وتهالك العلاقات الزواجيَّة الَّتي باتَتْ تفصح عَنْها أعداد وأنواع وطبيعة الدعاوى الأُسرية المرفوعة إلى الادِّعاء العامِّ والمحاكم بمختلف مستوياتها، وفي ظلِّ غلاء الأسعار وتعقُّد الظروف المعيشيَّة وسيطرة الديون على حياة الكثير من المواطنين في ظلِّ تصرفات البنوك الانتهازيَّة، ثمَّ تعقُّد الإجراءات الحكوميَّة والمؤسَّسيَّة الَّتي تمارس في سبيل إنجاز المواطن لمعاملاته أو محاولة البحث عن مخارج وحلول لمعالجة واقعه المادِّي؛ لِتأتيَ إجراءات المنع وعدم الموافقة والرفض حجَر عثرة في وَجْه الطموحات والرَّغبات المشروعة والحقوق، قضايا وتراكمات كثيرة لَمْ يسَعِ المقال للإشارة إليه، لها تداعياتها السلبيَّة وإفرازاتها في جفاف الاستقرار النَّفْسي وارتفاع درجة القلق والخوف والتفكير والتذمُّر وندب الحظِّ والمقارنات، وتذبذب الهرمون النَّفْسي الَّذي يدير حياة الفرد ويضبط مساره.
لذلك لَمْ تَعُدِ الظواهر النَّفْسيَّة اليوم وانتشارها في المُجتمع حالة طارئة بقدر ما هي نتاج لتراكمات كثيرة أوجدتها ظروف الواقع، فنشأت في ظلِّ بيئة كونيَّة تعيش التناقضات، ولذلك فهي أحَد المقلقات الَّتي باتَتْ تُهدِّد المُكوِّن البَشَري وإنتاجيَّته واستقراره، وتداعياتها تكمن في حجم ما يترتب على غياب البُعد النَّفْسي من مخاطر على البناء الفكري والعقدي للفرد، وانتكاسة في القناعات والمبادئ والثوابت أو السلوكيَّات والممارسات، لِتنعكسَ سلبًا على أداء الفرد في مُجتمعه، وموقعه في السلَّم الاجتماعي، إذ الظواهر النَّفْسيَّة أشدُّ خطرًا على حياة الفرد الصحيَّة والاجتماعيَّة من الأمراض العضويَّة، إذ يعيش فيها الفرد لذاته، منعزلًا عن الآخرين غير ذي رغبة في التواصل معهم بما ينتج عَنْه من حالة فكريَّة ومزاجيَّة وتقلُّبات غير طبيعيَّة تؤثِّر سلبًا على صحَّته الجسديَّة وبنيته الفكريَّة والانفعاليَّة وتفاعله مع واقعه، وهو ما يؤكِّد اليوم إلى أهمِّية تعظيم مراقبة البُعد النَّفْسي ومتابعته وقراءة المتغيِّرات المرتبطة به لِمَا لها من تأثير على حياة الفرد وأمْنِه النَّفْسي وصحَّته النَّفْسيَّة وقدرته على التحكم في انفعالاته وقدراته وأفكاره وضبط ممارساته، لِتُشكِّلَ الظواهر النَّفْسيَّة تحدِّيًا كبيرًا في البناء الفكري والنَّفْسي والاجتماعي للفرد وقدرته على العيش في ظلِّ ظروف ومتغيِّرات متباينة.
على أنَّ ارتفاع أعداد المتردِّدين على العيادات النَّفْسيَّة في سلطنة عُمان، بحسب ما تشير إليه إحصائيَّات المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، حيث أشارت إلى أنَّ إجمالي الزيارات لعيادات الأمراض النَّفْسيَّة في مؤسَّسات وزارة الصحَّة بسلطنة عُمان في عام 2022 بلغت (108.838) ألف مريض بارتفاع (8%) عن عام 2021، كما أشارت إلى أن (15.162) ألف مريض جديد قَدْ زاروا العيادات النَّفْسيَّة لأوَّل مرَّة في عام 2022 مقارنة بـ(13.699) ألف مريض في عام 2021، وأنَّ (32%) من الحالات الجديدة للأمراض النَّفْسيَّة هُمْ في الفئة العمريَّة (0-18) سنة، مِنْهم (21%) ذكور في عام 2022، يحمل في طيَّاته دلالات كثيرة، ولعلَّ أوَّل وأهمَّ هذه الدلالات، أنَّ المُجتمع في سلطنة عُمان باتَ يعي مفهوم الأمراض النَّفْسيَّة ويدرك بما يحتاجه المرَض النَّفْسي والعلاج النَّفْسي من متابعات وجلسات تشخيصيَّة خارج إطار المنازل وعَبْرَ العيادات المتخصِّصة والأطبَّاء المتخصِّصين، ما يرفع درجة الوعي المُجتمعي ويؤصِّل لثقافة متوازنة في حياة المُجتمع تؤدِّي إلى تأكيد الحاجة إلى تعزيز الصحَّة النَّفْسيَّة، وتحقيق التوازنات العاطفيَّة والنَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والفكريَّة في بنية الفرد، في ظلِّ تراجع متوقَّع للأفكار السلبيَّة الَّتي ظلَّت راسخة في فكر بعض الأُسر والعائلات من خلال العلاج القائم على الدَّجل والشَّعوذة والباصر والسَّاحر وأصحاب الأفكار الأخرى غير الإيمانيَّة، بما يعني تراجع ثقة المُجتمع في الدجَّالين والمُشعوِذين والنَّصابِينَ وغيرهم ممَّن يستنزفون أموال النَّاس ومواردهم، ويسطون على أموالهم بحجج واهية تقوم على إخراج الجان ووجود عمل وسحر على الفرد أو بتزيين بعض الأفكار له، سواء فيما يتعلَّق بالتخلُّص من المرَض أو زيادة الجلسات العلاجيَّة مع المنتحلين لبرامج العلاج، الأمْرُ الَّذي يعكس فاعليَّة جهود المؤسَّسات الصحيَّة والتعليميَّة والأمنيَّة والقضائيَّة والشُّرطيَّة والضبطيَّة والاجتماعيَّة في التَّعامل مع هذا الأمْرِ وتوعية المُجتمع به، وما حصل من إلقاء القبض على بعض هؤلاء المُشعوِذين والدجَّالين في فترات سابقة عزَّز من وعي المُجتمع بهذه الفئة وممارساتها لِيتَّجهَ المواطن إلى العيادات التخصصيَّة للحصول على العلاج تحت أيدٍ أمينة ووسائل علاج سليمة ووفق وصفات طبيَّة واضحة.
إنَّ من بَيْنِ الأمور الَّتي نؤكِّد على أهمِّيتها في استمرار تأصيل هذا التوجُّه السَّليم وتعزيز التوازنات النَّفْسيَّة لدى الفرد، وتغيير القناعات السلبيَّة حَوْلَ المَرضَى النَّفْسيِّين والعلاج النَّفْسي، ما يأتي:
تأصيل مفاهيم الإيجابيَّة والذَّوق الحسَن وإدارة المشاعر واستشعار أهمِّية التخفيف على المواطن في كُلِّ ما يتعلَّق باحتياجاته اليوميَّة وتعاملاته، لِتجسِّدَ طريقة تعاطي المؤسَّسات معه صورة أخرى تعكس روح التآلف والحرص والدَّعم والشعور بإنسانيَّته، إذ إنَّ الكثير من الإسقاطات السلبيَّة والتراكمات الَّتي باتَ يُعانيها المواطن إنَّما هي نتاج للصورة الأخرى الَّتي تعمل المؤسَّسات في سبيل إيصالها للمواطن كمحاولة الضَّغط عَلَيْه أو عدم مراعاة ظروفه كأن يتمَّ قطْع الماء والكهرباء عَنْه بسبب عدم سداد الفواتير في نصف الشهر، حيث لا تتوافر لدَيْه السيولة وهو ينتظر راتب الشهر لِيصرفَ على أُسرته وأولاده، أو أن يأتيَ القَطْع في وقت الأعياد والمناسبات الدينيَّة مع حاجته على ذلك المبلغ، أو المبالغة الحاصلة في الفواتير وطريقة الاستحقاق وغيرها ممَّا باتَتْ له إسقاطاته السلبيَّة على استقرار المواطن النَّفْسي وزيادة حجم القلق والضَّغط المالي لدَيْه. إنَّ تأصيل مبادئ الإنسانيَّة والرَّأفة، وتقديم الدَّعم وفتح خيارات أوسع للمواطن للسَّداد سوف يضْمَن المزيد من الشعور الإيجابي الَّذي سينعكس إيجابًا على قناعاته حَوْلَ الخدمات المؤسَّسيَّة واستحقاقاتها فيتعامل معها بكُلِّ أريحيَّة.
لَمْ تَعُدْ مسألة البناء النَّفْسي للفرد اليوم حالة وقتيَّة نظرًا للظروف والمتغيِّرات الَّتي يعيشها الفرد في المُجتمع، بل يجِبُ أن تتخذَ مسار العمل الوطني المستدام والمتكامل وعَبْرَ إيجاد إطار وطني لتعزيز الصحَّة النَّفْسيَّة في الأُسرة وبيئة العمل والمؤسَّسات والتشريعات والخِطاب الوطني، وفي طريقة تقديم الخدمات وإنجاز المعاملات والتعامل مع المراجعين والحدِّ من فائض العمليَّات المتكررة والروتينيَّة الَّتي باتَتْ تقلِّل من الكفاءة والجودة في الأداء، وتبنِّي سياسات وطنيَّة أكثر قدرة على تكييف الصحَّة النَّفْسيَّة للمواطن؛ باعتبارها جزءًا من العلاقة مع الذَّات والتَّصالح مع المُجتمع ومؤسَّساته، وهي جملة من الممكِّنات النَّفْسيَّة الَّتي تستهدف رفع درجة الأمن والاستقرار النَّفْسي للمواطن وشعوره بالاحتواء والاهتمام، وأنَّ الجهود المقدَّمة من المؤسَّسات إنَّما تستهدف مزيدًا من التَّسهيل والتَّبسيط والأريحيَّة والحصول عَلَيْها بجودة عالية وكفاءة مهنيَّة، إنَّها تعني الإنسان أوَّلًا، إذ إنسانيَّة الإنسان وضمان أمْنِه النَّفْسي واستقراره الفكري مقدَّم على ما يتحقق من تقديم الخدمة من أرباح أو يحدّد من رسوم، وأنَّ هذه الرسوم في ظلِّ هذه الروح التفاعليَّة والعلاقة الحميميَّة بَيْنَ المواطن ومقدِّم الخدمة وطريقة تقديمها سوف تبني جسور التَّواصل والأمان والسَّلام الداخلي لِيتَّجهَ العمل إلى تبادل المشتركات، فبَيْنَ التزام المواطن بدفع ما عَلَيْه من التزامات تجد المؤسَّسات في هذا الالتزام مساحة لها في تطوير خدماتها وبناء قدراتها وتعظيم فرص التحوُّل الرَّقمي السَّلِس والمنتِج في خدماتها.
أهمِّية استحضار مدخلات الصحَّة النَّفْسيَّة في المُجتمع تعليمًا وتدريبًا وتأهيلًا وتشريعًا وممارسة، بدءًا من مؤسَّسات التعليم والأُسرة، خصوصًا في ظلِّ ما تشير إليه المؤشِّرات من أنَّ (32%) من الحالات الجديدة للأمراض النَّفْسيَّة في عام 2022 هُمْ في الفئة العمريَّة (0-18) سنة، مرتفعة عمَّا كانت عَلَيْه عام 2021 والَّتي بلغت (18.2%) للفئة نَفْسها، أي من طلبة التعليم المدرسي وما قَبل المدرسة بما يؤكِّد الحاجة إلى تشخيص عملي وواقعي بناء على اختبارات ومقاييس لدراسة هذه الحالة المُجتمعيَّة، وإلى أيِّ مدى تؤدِّي الممارسات غير المسؤولة في الأُسرة والمدرسة أو الطبيعة الفطريَّة والوراثيَّة للطفل إلى جفاف البُعد النَّفْسي المتوازن في شخصيَّته، ما يؤكِّد على أهمِّية قراءة هذا المسار منذ المراحل الأولى في حياة الطفل، وأن تتبنى وزارة الصحَّة مع وزارة التربية والتعليم ومؤسَّسات التعليم العالي ومراكز البحوث الإنسانيَّة والنَّفْسيَّة والعيادات النَّفْسيَّة وجامعة السُّلطان قابوس والمؤسَّسات العسكريَّة والأمنيَّة برامج لتعزيز الصحَّة النَّفْسيَّة في حياة الطفولة بحيث تصبح نهجًا مستدامًا يجِبُ أن يُبنى في الأُسرة ويصقل ويهذب ويؤطَّر وينظَّم في بيئة المدرسة ومؤسَّسات التربية والتعليم، ويتمُّ خلاله تعريض المتعلِّم لمواقف محاكاة تجسِّد مفهوم الصحَّة النَّفْسيَّة وكيفيَّة احتوائها، لِينتقلَ الأمْرُ إلى المؤسَّسات وبيئة العمل وأنماط الأعمال في سبيل بناء بيئة عمل منتِجة تُعزِّز من إيجابيَّة الفرد الموظف وتؤصِّل فيه نوازع الخيريَّة والأمان والسَّلام لِينعكسَ ذلك إيجابًا على مهامه واستخدامه للأدوات الَّتي تحافظ على درجة التوازن في حياته الدراسيَّة والمهنيَّة والوظيفيَّة والأُسريَّة.
أخيرًا، ومع تعدُّد الموجِّهات الَّتي يجِبُ اتِّخاذها في سبيل تعزيز البناء النَّفْسي المتوازن لشخصيَّة الفرد في التكيُّف مع نَفْسه وواقعه والظروف والمتغيِّرات الَّتي باتَتْ تؤثِّر عَلَيْه، وكيفيَّة توظيف الفرص للارتقاء النَّفْسي المعزِّز للصحَّة النَّفْسيَّة، يأتي التأكيد على أهمِّية أن تتَّجهَ منظومة الحماية الاجتماعيَّة إلى تعزيز مفاهيم الصحَّة النَّفْسيَّة في المنافع النقديَّة والبرامج التأمينيَّة، من خلال رفع درجة المحفِّزات المعنويَّة والمادِّيَّة في حياة المواطن، بالإضافة إلى تعظيم إدارة المشاعر في بيئة العمل وتقديم الخدمات الحكوميَّة، واستنطاق القِيَم المعزِّزة للسَّلام الداخلي والتَّصالح مع الذَّات واحتواء المواطن، إذ أصبح وجود هذه المرتكزات خيارًا استراتيجيًّا في حماية الإنسان من اتِّساع الأمراض النَّفْسيَّة، وإعادة هندسة المُكوِّن البَشَري الوطني المنتج المُحقِّق لمستهدفات رؤية عُمان 2040.
د.رجب بن علي العويسي