الحرب عبر التاريخ تخلّف الموت والعديد من الأزمات والكوارث والآلام والدمار، لكنها تبقى في ظروف محددة وبيئة معينة مفروضة ضرورة وخياراً لا بدّ منه. فعندما يرتفع مستوى الأخطار والتهديدات المحتملة أو القائمة على أرض الواقع، وتصل الأمور إلى عتبة “الخطر الوجودي” الفعلي يصبح الدخول بحالة الحرب أهون الشرور بغضّ النظر عن التكلفة الباهظة المطلوب دفعها. ومنذ أن عرفت البشرية ظاهرة الحروب ومفاصل صنع القرار ملزمة على أن تضع في حساباتها مثل هذا التناقض البنيوي في الحرب كظاهرة مرافقة لسيرورة المجتمع الدولي المحكوم بتسارع عداد الموت بتناسب طردي مع شدة الأعمال القتالية. وهذا يفسّر الكره الفطري للحرب، وفي الوقت نفسه يفسّر حاجة أصحاب الحق لامتلاك كل ما يمكّنهم من الدفاع عن وجودهم وحياتهم وحقوقهم وكرامتهم، وحتى عن قيم الحق والخير وإنسانية الإنسان ونصرة المستضعفين. ولعل النص القرآني أول من أشار إلى هذه الثنائية التي تحمل التناقض الحتمي، وجاء ذلك بوضوح في قوله تعالى في الآية /216/ من سورة البقرة: (كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ). وهذا يفسّر تمسك جميع أقطاب محور المقاومة بمنع المعتدي من الاستمرار برفع سقوف اعتداءاته التي تقود إلى تهديد الوجود الفعلي لأي طرف أو قوة تحاول التمسك بمقوّمات هويتها الذاتية وحقها في الحياة بكرامة وسيادة، وما يجري في غزة الجريحة النازفة منذ أكثر من أربعة أشهر خير شاهد على هذا التناقض المركب بين تحاشي آثار الحرب المدمّرة وبين ضرورتها وحتمية اتخاذ قرارها، بعد مرور عقود من التناقض الفاضح بين ما تم الترويج له من مبادئ وقيم إنسانية والمستوى الرفيع من الرقي والحرص الغربي على إنسانية الإنسان، وبين ما يتمّ تنفيذه على جغرافيا قطاع غزة بخاصة وكامل الجغرافيا الفلسطينية والشرق أوسطية بعامة، حيث لم يتردّد الغرب الأطلسي المنافق في إسقاط الأقنعة المتعددة المستخدمة دفعة واحدة، والظهور على حقيقته الشريرة البعيدة عن كلّ عصرنة وحضارة، ما عدا الحداثة والتقنية العالية في صناعة أسلحة الفتك والتدمير والإبادة والقيام باستخدامها لقتل عشرات ومئات آلاف الأبرياء من أطفال ونساء وعجائز من دون أن يرفّ للوحوش المفترسة جفن. وليس هذا فحسب بل والتلويح بحتمية الانتقال إلى جغرافيات أخرى لنهش اللحم البشري حياً في أي مكان يريد منع التوحش والإجرام من الاستمرار بحرب الإبادة التي يعملون على إتمام ما تبقى من فصولها الأخيرة، والخطوات التهديدية اللاحقة تستهدف كل من يفكر بالحد من سرعة عداد القتل والدمار لفرض الهيمنة واستلاب إرادة الشعوب والدول بما يتناقض وجميع مفردات القانون الدولي وميثاق المنظمة الدولية الذي لطالما تبجحوا بأنهم حماته وبناته وضمان تنفيذه. وثبت أن كل ذلك ليس أكثر من كلام لا يغني ولا يسمن، كهشيم تذروه الرياح، وما أكثر عواصفهم وأعاصيرهم التدميرية.
هذه الصورة السوداوية التي يريدون تعميمها وفرضها على البشرية جمعاء تقابلها صورة أخرى أكثر سوداوية لدى أولئك القتلة المجرمين أعداء الحق والقيم الإنسانية السمحة والنبيلة، لكن سيطرتهم على الإمبراطوريات الإعلامية في أربعة أصقاع الكون تساعدهم على إخفاء ما أمكن من مواطن الوهن والضعف والعجز المتجذر والمتمدد في شتى مرافق الحياة في الدول والكيانات المنفلتة من كل عقال لتعميم ثقافة الموت والخوف واليأس والإحباط والتردد، ودفع الجميع للتفكير في بدائل ممكنة، تظنها الغالبية أنها ذات جدوى وكأنها هبة السماء، في حين أن قراءة اللوحة بتأنٍ وهدوء أعصاب تبين بوضوح أن البدائل التي يتم تسليط الضوء عليها ما هي إلا بعض مما تتضمنه خطط إحكام السيطرة وفرض النفوذ والهيمنة. وهذا أخطر ما في الحروب التي اعتادت العقلية الصهيو ــــ أميركية على شنها لترويض الإرادة الكونية، فهم يطبقون مبدأ «الإدارة بالأزمات» وليس «إدارة الأزمات» وهيهات لهم أن يفلحوا في تحقيق أهدافهم الخبيثة.
موضوع الإدارة بالأزمات يشمل غالبية ما يتمّ تداوله إعلامياً، ويمكن استعراض أي عنوان يتم ترويجه ووضعه على طاولة التشريح لرؤية الحقيقة الصادمة التي يظنها البعض أنها هدف يجب العمل لبلوغه وتحقيقه، وسرعان ما يتبين أنها الهدف الذي تسعى واشنطن لتمريره بلبوس آخر يسارع العديد من الأنظمة المنبطحة للتبرع بتنفيذه، بغض النظر عن يقينهم بأن ما يهم الأميركي في المنطقة محصور بمصالحه الذاتية، وضمان ما يسمونه «أمن الكيان الإسرائيلي» وزيادة قدرته على العربدة وفرض السيطرة، ويمكن باختصار الإشارة إلى بعض النقاط التي تساعد على إزالة الستائر المخملية عن صور هي الأكثر دموية وإجراماً في العصر الحديث، ومنها:
*على امتداد الأيام السابقة تم تركيز الاهتمام الأكبر للإعلام الصهيو ـــ أميركي بمختلف منابره وأبواقه ووسائله وأشكاله وأصنافه وأنواعه المبطنة منها والمفضوحة على الضغوط التي يمكن أن تستخدمها إدارة بايدن على حكومة نتنياهو لمنع اجتياح «رفح» نظراً لاحتمال زيادة عداد الضحايا، حيث يحشر أكثر من مليون ونصف مليون فلسطيني في رفح، وبعد أسابيع من الحديث عن نفور بين بايدن ونتنياهو يتمّ الإعلان عن اتصال هاتفي حميمي استمرّ 45 دقيقة، والسقف الأعلى الذي وصل إليه بايدن هو ضرورة اعتماد خطة قبل الاقتحام البري لرفح من قبل وحوش جيش الاحتلال، مع التذكير بأنّ الهدف المشترك هو القضاء على حماس واجتثاثها، وأدنى درجات المقاربة العقلية تؤكد أن النتيجة الحتمية المضمونة من هجوم كهذا هي قتل عشرات آلاف الفلسطينيين أمام بصر العالم وسمعه. وإذا نجحوا في بلوغ ذلك فلن يتردّدوا في تبادل الأنخاب المملوءة بالدماء المسفوحة ظلما وتوحشاً في مجتمع دولي لا يتقن إلا تكرار الإدانة الممجوجة في أفضل الأحوال.
*اعتماد محور المقاومة اللغة المتزنة والمسؤولة في الخطاب الرسمي لا يعني قط الخوف من توسع الحرب في المنطقة، بل محاولة تفادي تحمّل المسؤولية المباشرة عن إشعالها لا أكثر. وما يتمّ التلويح به كورقة قوة بيد نتنياهو عبر التهديد بإشعال المنطقة، فهذه الورقة ذاتها هو الورقة الأقوى التي قد تضطر أطراف محور المقاومة لاستخدامها عملياً، إما بشكل متدرّج ومتدحرج كما يحدث على مسرح العمليات في الجبهات المساندة، أو بشكل صاعق وغير متوقع عندما يتمّ التأكد من استحالة البناء على خيارات أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار أنه على الرغم من مساوئ خيار كهذا، لأنّ تحوّله إلى قرار يبقى أقلّ تكلفة من قبول خيار واحد ووحيد يفرضه العدو. فالخيار الوحيد لا يمكن أن نسمّيه قراراً، وإنْ حدث تكون التسمية الصحيحة له «قرار إذعان»، ولا وجود لمثل هذا المصطلح في قاموس نهج المقاومة.
*بعيداً عن المنطق الهوليودي في رواية الميدان وتفاصيله، فالداخل الإسرائيلي ورغم اصطفاف قوى إقليمية ودولية فاعلة معه ومناصرتها لإجرامه إلا أنه أكثر من مأزوم، وأكثر من متشرذم ومتشظٍ، والهجرة باتجاه واحد ترعب مفاصل صنع القرار في تل أبيب، وستتضاعف عشرات المرات إنْ خرجت الأمور عن السيطرة وتوسعت ألسنة اللهب. وهذا ما يدركه المستوطنون على مختلف انتماءاتهم وأصولهم ومواطنهم التي قدموا منها، وهم على يقين أنه في أيّ وقت قد تصبح القدرة على مغادرة «الوطن الموعود» الذي أتوا إليه حلماً بعيد المنال، لأن تلك المطارات ستكون خارج الخدمة والصلاحية في غضون ساعات قليلة من تدحرج كرة النار.
*لا يمكن أن تشطب من سلة الاحتمالات أن روسيا والصين في طور انتظار اللحظة الحرجة، عندما تظهر بوادر إنهاك إمبراطورية القتل والإجرام بعد إغراقها أكثر فأكثر في أوحال بيئة مضطربة وغير قابلة للاستقرار إلا بتغيير المدخلات بكليتها، وقد تكون قدرة أطراف محور المقاومة على تغيير المدخلات توازي القدرة الصهيو ـــ أميركية، ولا يستبعد أن تكون تفوقها، وعندها يمكن توقع انتقال موسكو وبكين من الضفة الدبلوماسية بسقفها المتواضع إلى ما بعده، ويبقى هذا أحد الاحتمالات الذي لا يحتاج إلى حتمية نشوب حرب عالمية ثالثة تقليدية يتهرّب الجميع من تحمل مسؤولية اندلاعها.
*إذا كان بعض المهزومين نفسياً ومعنوياً لا يرون في تل أبيب وواشنطن إلا القدرات التي لا تُحَدّ، والإرادة التي لا تُرَدّ، والقوة التي لا تُصَدّ، فإن مفاصل صنع القرار في حكومة نتنياهو وإدارة بايدن لديهم هذه النظرة، ونظرات أخرى تتضمن اليقين بالعجز الحقيقي عن تحمل التكاليف والتداعيات، وقد يكون من المفيد تذكير اليائسين المحبطين المهزومين يشكل مسبق أنّ جبهة الأعداء ليست أقلّ منهم خوفاً ورعباً من اندلاع حرب شاملة، وكلّ ما يتمّ فعله من إرسال وفود وتقديم مقترحات لتفاهمات ممكنة، وأصوات تعلو حيناً وتنخفض أحياناً أخرى هو جزء من خطة الحرب المطلوبة إسرائيلياً، والمحكومة بحتمية الانتقال بالكيان بكليته من الأخطار والتهديدات الكبرى إلى التهديد الوجودي، ولولا ذلك لما تردّد نتنياهو وبايدن ومن معهما من إشعال فتيل تفجير المنطقة بمن فيها.
د. حسن أحمد حسن / باحث سوري متخصص بالجيوبوليتيك والدراسات الاستراتيجية.