لم يعد خافيا اليوم تفككُ الرأي العربي ومن ورائه الإسلامي، وأنه بات نتيجةً ظاهرةً لجهدٍ جهيد أخذ حقه من السنوات الطوال، وميدانُه متعددٌ، بين السياسي والإقتصادي والعسكري والإعلامي والتربوي، حتى وصل أصحابه (الغرب الرأسمالي) لقمة النجاح في تفكك هذه الأمة العظيمة وتبعثرها..
ليس لدينا الحلُّ السحري لمثل هذا الموقف الصعب القائم اليوم، ولا ما يمكن أن يُخرِجَ الأمةَ من وَحْلِ ما نزلتْ فيه، وضِيقِ ما دُفِعَتْ إليه، ولكن لا شك أن لدينا يقينا كاملا بأن الحقَ باقٍ ، والباطلَ زاهقٌ، وأنّ العدلَ سينتصر على الظلم، إلا أننا لا بد لنا من اختيار أحد السبيلين: ذاك المؤدي إلى الحق الظاهر، أو ذلك المؤدي إلى الباطل المظلم، والعملِ على أساسه.
حضرةَ صاحب الجلالة سلطانَ البلاد المعظم ومن يليه من الأخوة المسؤولين، نثق بكم ونعتز بكم جميعا، ولا نشكك في أصالة ما أنتم عليه، كيف وردودُ فعلكم -بالنسبة لغيرها- تاجٌ على رؤوس المواقف عامة، ولكننا -نحن أناسَكم وشعبَكم- مكونٌ أساسٌ مسؤولٌ معكم في رسم التاريخ للأجيال القادمة بضمان حاضر مشرق، وشريكٌ مشفقٌ على أن لا نؤديَ واجبنا في ذلك اتجاهكم..
المسؤولون الأحبةُ المعنيون بالسياسة الخارجية والعلاقات الدولية، والأخوةُ المعنيون بالأمن الداخلي والخارجي، إنّ دماءَنا تراق في غزة وفلسطين، وحرماتِنا تُنتَهَك، ونساءَنا تًغتصَب، وأطفالَنا يبادون، ومساجدَنا ومستشفياتِنا تُهدَّم، وعجائزَنا وشيوخَنا يُذَلُّون ويُهانون ويُحرَقون، أيها المسؤولون الأعزةُ إنّ ما يربطُنا بتلكم الأرضِ المباركةِ أكبرُ من جنسيةٍ في جوازٍ أحمرَ أو أخضر أو أزرق، إنّ ما يربطنا بهم أعمقُ وأدق، ما يربطنا بهم هو دينٌ عظيم، ودمٌ ثخين، ولسانٌ مبين، وثقافةٌ عتيقة، وإنسانيةٌ تليدة، إننا -نحن العمانيين- من يُقْتل كلَّ يومٍ ويُبادُ في أرضِ غزّة، وإنّ حدودَ سايكسبيكو ودولِ الاستعمار غيرُ قادرةٍ اليومَ على تحييدِنا عن واقعِ ما يدورُ في فلسطين، وإنْ لم يكن منكم -أنتم الرسميين- من إدراكٍ لذلكم الشعورِ المتنامي، وتفاعلٍ داعمٍ وحكيمٍ في احتوائه وتوجيهه -وليس في كبته ومنعه- فإنّ الأمنَ الداخليَ والخارجي معرضٌ بشكلٍ متزايدٍ للانفلات، ولاتَ حينَ مناص..
أيها الأحبة الغالون جميعا دون عدٍّ، لستم بأقلَّ منا غيرةً على حُرُماتِ الله ورسوله ودينه، ولا حرمات الإنسان العربي والمسلم في فلسطينَ وغزّة خاصة، والإنسان في العالم عامة، ولا نريد أن نكلَّفَكم فوق ما تطيقون، ولا نعرِّضَكم لحرجٍ دونَ حاجة، ولكن هو ما تتطلبه المرحلة في أبسط ردة فعلٍ واجبة حسب ما نرى، فنطرح عليكم ما قد يجعلكم ويجعلنا في حِلٍّ أمام الله وأمام التاريخ وأمام الإنسانية، ويمنع الانفلاتاتِ الأمنيةَ، والفتنَ، والعشوائيةَ في ردود الأفعال عن وطننا الغالي عمان، كما إنه سيعمل كورقةِ ضغطٍ على قوى الظلام المسيطرةِ على العالم، ويرسلُ رسالةً واضحةً للمتابعين والمحللين في دوائر وزارة خارجيتهم وأمنهم عن إمكانية فقدان مصالحهم بسبب دعم الكيان النازي المجرم غير المشروط، فإليكموها كاملةً:
أولا: طردُ المكون الصهيوني في مركز الشرق الأوسط لأبحاث تحلية المياه بولاية السيب، والذي أنشئ في ١٩٩٦ م ضمن عملية السلام التابع للأمم المتحدة، وقد اتضح عيانا موتُ عملية السلام على لسان الكيان الرسمي٫ ورفضُهم لمشروع حل الدولتين المولود ميتًّا، وإن تعذر طرد العضو الصهيوني منه فإغلاقه وطلب نقله لدولة أخرى غير عمان، ولا بواكي عليه.
ثانيا: تأكيدُ منع طيران الكيان الصهيونى من أجواء السلطنة من الجهة ذات الصلة، بدل التخمين وفتنة الناس حوله.
ثالثا: استدعاءُ سفراءَ الدول الغربية المشاركة في إبادة غزة، وإدانةُ دولهم في دعمهم للكيان المحتل، سياسيا، وعسكريا، واقتصاديا، ووقوفِهم حجَرَ عثرةٍ لرفع الإبادة الجماعية عن أهلنا في غزة، على رأسهم أمريكا وبريطانيا (إن تعذر عليكم طردهم).
رابعا: التعبيرُ للدول العربية المشاركة والداعمةِ للكيان، سواءً كان دعما إعلاميا، أو سياسيا، أو اقتصاديا أو غيرَ ذلك، عن رفضنا لموقفهم المخزي، عبر سفاراتهم أو أيِّ وسيلةٍ أخرى، ودعوتُهم للعودة للحضن الاسلامي والعربي، وإيجادُ وسائلِ ضغطٍ داخليةٍ حقيقيةٍ لردعهم عن قبيحِ موقفِهم، سواءً كان ذلك الموقفَ الداعمَ للكيان، أو الخانقَ لغزة المبيدَ لأهلها جوعا وعطشا، أو المتاجرَ بأزمتهم ومصيبتهم على حدودها، ولا يمنعْكم عن ذلكم زعمُ الحفاظ على الصف العربي أو الوحدةِ العربية، ولا مجلسِ التعاون، ولا جامعةِ الدول العربية، إذ إنّ هذه الدولَ لم تحترمْ هذه المؤسساتِ ولا تجمعاتِها ولا دولَها وأعضاءَها ولم تحترمكم أنتم، وأنتم على رأسها، ولم تحترم اتفاقياتِها، ولا الوحدةَ العربية المزعومة، لم تحترمها جميعا في الباطل، فطَبَّعَتْ مع العدو الصهيوني، وقاطعت الشقيقَ العربي، وغزت القريبَ المسلم، فكيف يكون منكم أو يُطلَبُ منكم مراعاتُها واحترامُها بعدم التجاوب للحق حين دعاكم، والخنوعِ والتسليم لباطلهم حين سفهوا بكم وبمؤسساتكم ومواثيقكم ودولكم؟!!!
خامسا: تمكينُ العمانيين والمقيمين نساء ورجالا، صغارا وكبارا، من التعبير عبر التجمهر والتظاهر أمام سفارات الدول المشاركة في الإبادة لأهلنا بغزة، فليست سفاراتهم بأقدس من البيت الأبيض حيث المظاهراتُ أمامَه، وليست حكومتُنا بأقلَّ من حكومتهم في احترام شعبها ومشاعره، وتنظيم ذلك والسماح به، هذا وحكومتُنا صاحبةُ حقٍّ وقضية، وحكومتُهم صاحبةُ باطل ورزية، وليس شعبُنا بأقلَّ من شعبهم إحساسا بأهله في فلسطين، فيتظاهرَ أولائك ولا يتظاهرَ أولاء، ولا أقل وعيا ومدنيةً ومسؤوليةً، حتى يُخشى منا التخريب والانفلاتُ ولا يخشى منهم… بدل الخَنْزَةِ والكَنْزَة التي يعانونها في ساحات الجامع الأكبر، وفي جنح الليل المظلم، وكأنما تقام على استحياء، والتي يمتنع حضورُها على عدد كبير من مناصري الحرية ومعارضي الإبادة لظروفها٫ من عمانيين ومقيمين، مسلمين وغير مسلمين، من رجال ونساء، وصغير وكبير.
سادسا: بعد فرز الدول الداعمة للكيان من الدول العربية والإسلامية والعالمية، وحيث إنّ القضيةَ لم تعد قضيةً عربيةً أو إسلاميةً فحسبُ بل باتت قضيةً عالمية، قضيةَ حقٍّ وباطل، يصطفُّ خلفها الإنسانُ، مسلما وغير مسلم، عربيا وغير عربي، فإنه يتطلب القيامُ بالبحث عن بقيةٍ باقيةٍ من الدول العربية ومن دول العالم الحر الأخرى ومنظماته، وتشكيلُ تحالفٍ وتكتلٍ سياسي دولي في سبيل مجابهة محور دول الإبادة والشر الغربي والعربي، والضغطُ عليها عبر إجراءات وتحركات ماراثونية دبلوماسية واقتصادية وسياسية، وحتى ضغوطات عسكرية لو تطلب الأمر، انتصارا لله وللدين والدم والعروبة وللإنسانية، وانتصارا للأمم المتحدة وشرائعها المعطلة والمنتهكة، وترميما لها ولمجلس الأمن المختطف، ونزع مسببات الفوضى العالمية، من عضوية دائمة، وحق النقض (الڤيتو)، فعمانُ ليستْ دولةً طارئةً حديثةً غيرَ قادرةٍ على مجابهةِ الشرّ الدولي والاستعماري ولجمِه كما فعلت من قبل، والصمتُ ومداهنةُ هذه الدول لا سيما العربيةَ في مشاركتها وإجرامها بحق من يجب عليهم نصرته هو مداهنةٌ وصمتٌ مخزٍ غيرُ أخلاقي وغيرُ مغتفر، وإجرامٌ في حق الله ورسوله ودينه والإنسان كبير!
سابعا: كما بدأنا نستمر؛ تعليقُ كل مظاهر الفرح والبهجة من مهرجانات وغيرها، إلا ما لزم من عمل لا يحتمل التأجيل أو التعليق، ومراعاةُ شعورنا ونحن نذبح ونباد في غزة وفلسطين فضلا عن شعور إخواننا تحت القتل والإبادة هناك..
ثامنا: إيجادُ برامجَ في قنواتنا الرسمية، مرئيةً، ومسموعةً، ومقروءةً، على قدر من المسوولية والوعي في مجابهة الإعلام الرسمي المسعور في الكيان المحتل لكل ما هو إسلامي وعربي، وأن تكون لنا مساحةٌ تعبر عنا نحن الشعبَ في قضية هي في وجداننا، وقطعة من قلوبنا، وبعضٌ من أرواحنا..
تاسعا: تصحيحُ قاموسِ إعلامنا الرسمي ودبلوماسيتنا ومنهاجنا التربوية في الإشارة إلى الأراضي العربية المحتلة، فهي فلسطينُ المحتلة، والأراضي العربيةُ والسوريةُ واللبنانية المحتلة، والامتناعُ عن ذكر هذا الكيان إلا بصفته الحقيقية، التي دللت عليها أفعالُه ومواقفه وجرائمه منذ الاحتلال عام ١٩٤٨ م، أنه العدو الصهيونى، وقواته قوات احتلال، لا شعب له ولا أرض.. ليبقى الشمالُ والجنوبُ والشرقُ والغربُ شمالَ فلسطينَ المحتلة وجنوبَها وشرقَها وغربَها، ولا شمالَ للكيان الغاصب ولا جنوب.
عاشرا: الرجوعُ عن الخطيئة والكبيرةِ الموسومةِ بحلّ الدولتين، والتمسكُ بتحرير فلسطين المحتلة عام ١٩٤٨ م كاملة من البحر إلى النهر، والكفُّ عنها في الخطاب الرسمي وغير الرسمي، فإن لم يكن ذلك استجابةً وتصحيحا لموقف واجبٍ من أول يومٍ من الاحتلال تم نسيه والتنازل عنه خطأ، فلا أقل من ردة فعلٍ واجبة لبيانات هذا المحتل وحكومته في رفض مبدأ حل الدولتين، والتمسك بدولة واحدة يهودية لهم، لا أقلّ من ردة فعل ضده، تتمثل بتمسكنا بدولة واحدة فقط وهي فلسطين حرة بكل أرضها وسماءها وبحرها، فإن كان هذا العدو المحتل جادّا فسيتقدم، بدل مذلة المبادرات العربية، ورفض هذا الكيان لها بصورة مهينة و استعلائية.
أخيرًا نؤكد ما ابتدأنا به، فوحدةُ القرار العربي بات من المستحيلات في ظل الأنظمة الحاكمة اليوم وتبايناتها، والمؤسسات والتكتلات العربية والخليجية باتت ميتة من الناحية العملية، والبحث عن بدائل حقيقية مؤقتة ودائمة بات أمرا استراتيجيا ملحا، والصيرورة إلى الفردانية في القرار من أصحاب الحقّ والمبادئ أولى بالبيان اليوم والصدح مقابل ما انفردت به بعض الدول بالباطل والظلم في قرارتها.. حفظ الله عمان وأهلها، وأعزّ فلسطين ورجالها، ونصر غزة ومقاومتها، وأخزى الله ما دون ذلك من صهاينة معتدين ودولهم وأذنابهم، عربا وعجما.
عبد الحميد بن حميد بن عبد الله الجامعي
الجمعة
٦ شعبان ١٤٤٥ هـ
١٦ فبراير ٢٠٢٤ م