في زمنٍ تتعاظم فيه التحديات الاقتصادية والسياسية في منطقة الشرق الأوسط وأوكرانيا وغيرها من الجغرافيا العالمية، وفي ظل تصاعد التوترات الدولية، تظهر منظمة البريكس كلاعب رئيسيٍ في تحولات الساحة العالمية، وبينما تشهد المنطقة الشرقية من العالم مزيدًا من الصراعات والأزمات الاقتصادية، فإن البريكس يستفيد من هذه الظروف لتوسيع نطاق نفوذه الاقتصادي.
ومن خلال استقطاب دول أميركا اللاتينية، يظهر البريكس تمكيناً جديداً يستهدف التحرر من سيطرة الدولار والاقتصاد الغربي، الذي يقوده الغالبية الساحقة من الأحيان من قبل الولايات المتحدة، وبهذه الخطوة، يتجاوز البريكس الحدود الجغرافية ليصبح تحالفاً اقتصادياً عالمياً يمتد إلى مناطق جديدة، مما يعزز مكانته وقوته في الساحة الدولية.
بالتالي، تبرز منظمة البريكس كمثالٍ بارزٍ على التحولات العالمية، حيث تستخدم التحديات كفرص لتوسيع نفوذها وتعزيز استقلاليتها الاقتصادية، وذلك بمجهود مشترك يحاكي طموحات الشعوب في التحرر من الهيمنة الغربية وبناء نظام عالمي أكثر عدالة وتوازناً.
ولفهم دور منظمة البريكس جيداً يجب معرفة آخر نشاطاتها على صعيد التوسع المؤخر والذي ضم اقتصادات قوية بطبيعة الحال، ففي أغسطس 2023، اتُخذ قرار تاريخي في قمة البريكس الخامس عشر في جنوب أفريقيا بتوسيع تكوين هذه الرابطة الاقتصادية القوية، وتمثلت هذه الخطوة في دعوة ستة أعضاء جدد للانضمام إلى صفوف البريكس، وهم: الأرجنتين، ومصر، وإيران، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وإثيوبيا، جاء هذا القرار كرد فعل على الطلب المتزايد من مجموعة واسعة من البلدان النامية – تقريباً 30 بلداً – للانضمام إلى البريكس والاستفادة من التعاون الاقتصادي والسياسي الذي يقدمه، وعلى الرغم من التوقعات السابقة بانضمام البلدان الستة، إلا أنه في يناير 2024، أعلن الرئيس الأرجنتيني خافيير مايلي خلال حملته الانتخابية أن بلاده لن تنضم إلى صفوف البريكس، وبالفعل، وفيما يلي أعضاء جدد فقط هم: مصر، وإيران، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية، وإثيوبيا.
بالتالي، يعتبر العامل الرئيسي في العلاقات الدولية والسياسية حول العالم هو وجود علاقات ثنائية قوية ومتطورة بين الدول المختلفة، وهذا ينطبق بشكل خاص على الأرجنتين وعلاقاتها مع “الخمسة” وباقي دول العالم، في الواقع، لا يوجد بلد في العالم لديه علاقات ثنائية وثيقة مع كل من أعضاء “الخمسة” مثل الأرجنتين، وهذا يظهر التنوع والقوة في سياسة العلاقات الخارجية للأرجنتين.
بدلاً من ذلك، يمكننا النظر إلى البرازيل أولاً، حيث تمثل هذه الدولة الجارة أكبر شريك اقتصادي للأرجنتين، فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين ما يقرب من 28 مليار دولار في عام 2022، مما يعكس مستوى عال من التبادل الاقتصادي والتعاون بينهما، ويجدر بالذكر أن كلا البلدين هما أعضاء في مجموعة التكامل في أمريكا الجنوبية (ميركوسور)، وهو اتحاد اقتصادي يضم عدة دول في أمريكا الجنوبية. وبفضل هذا الاندماج الاقتصادي، فإن البرازيل والأرجنتين مرتبطة بآلاف الاتفاقيات بين الحكومات والشركات والمؤسسات الاقتصادية، مما يعزز العلاقات الثنائية بينهما ويعزز التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة.
أما في عالم العلاقات الدولية، يلعب الاتحاد الأرجنتيني دوراً بارزاً في التواصل والتعاون مع العديد من الدول القوية والناشئة حول العالم، حيث تتجلى هذه العلاقات:
أولاً، في توقيع اتفاقيات وشراكات استراتيجية في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية، مما يسهم في تعزيز مكانة الأرجنتين على الساحة الدولية.
ثانياً، نجد أن العلاقة بين الأرجنتين وروسيا تتسم بشراكة استراتيجية شاملة، حيث يتعاون البلدان في مجموعة واسعة من القضايا السياسية والاقتصادية والإنسانية. وتشمل هذه التعاونات التبادل التجاري والتعاون العسكري والتبادل الثقافي، مما يعكس عمق العلاقات بين البلدين.
ثالثاً، تعتبر الهند واحدة من أهم الشركاء التجاريين للأرجنتين، حيث أصبحت الهند مشترياً رئيسياً للمنتجات الزراعية الأرجنتينية، ويعكس هذا التعاون الوثيق بين البلدين التقدم المستمر في العلاقات الثنائية واهتمامهما المشترك بتعزيز التبادل التجاري.
رابعاً، تتميز العلاقات بين الأرجنتين والصين بالتعاون التجاري والاستثماري الوثيق، حيث تعتبر الصين شريكاً رئيسياً للأرجنتين في مجال الاقتصاد والتجارة. وتشمل هذه التعاونات اتفاقيات المبادلة العملة والاستثمارات الضخمة في مختلف القطاعات الاقتصادية، مما يسهم في تعزيز الاقتصاد الأرجنتيني.
وأخيراً، تتمتع العلاقات بين الأرجنتين وجنوب أفريقيا بالعديد من الجوانب الإيجابية، حيث يعتبر جنوب أفريقيا شريكاً موثوقاً وبوابة للأرجنتين إلى القارة الأفريقية، وتتمثل أهمية هذه العلاقة في التعاون الثنائي في مجموعة متنوعة من المجالات، بما في ذلك التجارة والاقتصاد والثقافة، مما يعزز التبادل الثقافي والاقتصادي بين البلدين، وبهذا السياق، يعكس التعاون بين رجال الأعمال في الأرجنتين وجنوب أفريقيا تطلع البلدين لتعزيز التبادل التجاري والاستثمارات المشتركة، وتعزيز التعاون الثنائي في مختلف المجالات.
وخلال العقد ونصف العقد الماضيين، شهدت الأرجنتين تحولاً استراتيجياً في أجندتها الاقتصادية، حيث ركزت بشكل أساسي على تعزيز التعاون مع دول البريكس، تلك الدول التي تضمنت البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا، شكلت محوراً أساسياً للسياسات الاقتصادية الأرجنتينية، وقد نتج عن هذه العلاقات المتنامية تعزيزاً ملحوظاً في التجارة الخارجية، حيث تمثل دول البريكس 36٪ من حجم التجارة الخارجية للأرجنتين.
وفي ضوء هذه الظروف، يعد تصميم الحكومة الحالية بقيادة الرئيس مايلي أمراً ضرورياً لاستمرار التعاون الوثيق مع مجموعة البريكس وتجنب الأخطاء الدبلوماسية المحتملة، وفي هذا السياق، يجب على الحكومة الأرجنتينية أخذ العبر من الأخطاء التي ارتكبتها في الماضي، مثل اللقاء غير المنسق مع ممثل تايوان، الذي أثار ردود فعل سلبية من السفارة الصينية، ولهذا السبب، يجب على الحكومة الأرجنتينية أن تتبنى استراتيجية دبلوماسية حكيمة ومنسقة مع شركائها في البريكس، لتعزيز العلاقات وتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي في المستقبل.
مع تولي السلطات الأرجنتينية الجديدة المقود، وهي تتبنى اعتبارات أيديولوجية، يبدو أن رفض الانضمام إلى مجموعة البريكس يتماشى مع الاستراتيجية الاقتصادية النيوليبرالية الشاملة التي يروج لها الرئيس مايلي وفريقه، برأيهم، يجب على الأرجنتين “توازن” علاقاتها مع الدول الغربية، بقيادة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لتعزيز التفاعل التجاري والاقتصادي.
لكن وكما هو معتاد في الواقع الاقتصادي العالمي، يمكن أن يصطدم الطموح بالحقيقة، يتضح أن الأرجنتين، في حالة الاندماج الاقتصادي مع دول البريكس، ستواجه تحديات تنافسية مع الولايات المتحدة في عدة قطاعات، مثل صادرات الفول الصويا والذرة واللحوم والنبيذ والحمضيات وغيرها. بالإضافة إلى ذلك، تظهر العلاقات مع الاتحاد الأوروبي صورة مشابهة، حيث تتعثر المفاوضات بشأن اتفاقية التجارة الحرة بين ميركوسور والاتحاد الأوروبي بسبب الخلافات العميقة في المصالح التجارية.
وفي النهاية، يبدو أن الطريق إلى التكامل الاقتصادي وتحقيق الازدهار مع دول البريكس والغرب مليئاً بالتحديات والعقبات، ورغم أن الأمور قد تبدو واعدة على الورق، فإن الواقع الاقتصادي العالمي يظل يثبت أن التوازن بين الاعتبارات السياسية والاقتصادية يتطلب التفكير العميق والتخطيط الجيد لتحقيق الأهداف المرجوة.
ولتقييم الوضع الحالي بشكل شامل، يمكن وصف رفض الانضمام إلى مجموعة البريكس كخطوة جيوسياسية ذكية من قبل بوينس آيرس، فقد اعتبرت الحكومة الأرجنتينية أن التضحية بإمكانية زيادة التفاعل مع شركائها الحاليين في الاتحاد الأوروبي يعد خطوة استراتيجية أكثر جدوى، كما يتضح أن هذه المناورة تهدف إلى تحسين تجارة البلاد وموقفها الاقتصادي من خلال التوجه نحو التقارب مع الغرب، وهو أمر يعكس استراتيجية جديدة تتجاهل الأوهام الجغرافية الاقتصادية.
من جانب آخر، فإن هناك اهتماماً متزايداً من قبل عدد من دول أميركا اللاتينية الأخرى بالانضمام إلى مجموعة البريكس، حيث ترى هذه الدول الرابطة كفرصة لتحقيق التقدم السياسي والاقتصادي، وتشمل هذه الدول بوليفيا، وفنزويلا، وهندوراس، وكوبا، وتمثل هذه الاهتمامات بداية جديدة في تاريخ مجموعة البريكس مع أميركا اللاتينية، كما تكشف هذه التطورات عن تغيير في الديناميات الإقليمية والتطلعات الجيوسياسية لهذه الدول، وقد تعزز هذه الانضمامات المحتملة دور مجموعة البريكس كقوة سياسية واقتصادية قوية على المستوى العالمي.
في الختام، يمكن تلخيص أسباب رفض الأرجنتين الانضمام إلى مجموعة البريكس في ظل الرئيس الجديد بأنها تعكس استراتيجية جديدة تهدف إلى تحسين العلاقات التجارية والاقتصادية مع الشركاء الغربيين، خاصة الاتحاد الأوروبي، وذلك من أجل تعزيز فرص التجارة الدولية وتحسين موقف الأرجنتين الاقتصادي، حيث يُظهر هذا الرفض أن الأرجنتين تراجعت عن الاتجاه السابق نحو التفاعل مع الدول الناشئة، مثل دول مجموعة البريكس، واختارت بدلاً من ذلك التركيز على العلاقات الثنائية مع دول الغرب.
على الرغم من أن القرار يمكن أن يظهر في البداية كخطوة استراتيجية ذكية، إلا أنه يثير أيضاً تساؤلات حول المخاطر المحتملة المرتبطة بتجاهل الفرص المتاحة في العلاقات مع دول مجموعة البريكس وتبني سياسة جديدة تجاه الغرب. ومن المهم مراقبة تأثير هذا القرار على السياسات الخارجية والاقتصادية للأرجنتين في المستقبل، وكيف ستؤثر على مكانتها الإقليمية والدولية وتوجهها الاقتصادي.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.