أفصح واقع التعليم في سلطنة عُمان عن مشتِّتات عديدة، باتَتْ تُسهم في رفع مستوى الفاقد التعليمي للطلبة في مؤسَّسات التعليم المدرسي، فبالإضافة إلى اتِّساع جراثيم الهدر التعليمي ومشكلات التسرُّب والانقِطاع والظواهر السلبيَّة والمشتِّتات الفكريَّة بفعل التقنيَّة والممارسات الروتينيَّة المتكررة يأتي غياب الأُطر والضوابط والمِنْهجيَّات وآليَّات العمل في التَّعامل مع الأنواء المناخيَّة والحالات الطارئة لتلقِي بثقلها كأحَد أسباب الفاقد التعليمي، فمع الثقة في كفاءة وتكامل الجهود الوطنيَّة في التَّعامل مع الحالات الطارئة إداريًّا وتنظيميًّا وتشريعيًّا، وما يتعلق بجوانب الإغاثة والإيواء والإنقاذ والإسعاف، إلَّا أنَّ تجسيد هذا الأمْرِ في واقع ميدان التعليم ما زال يتَّجه نَحْوَ الحلول السَّريعة «تعليق الدراسة»، ويفتقد للتنوُّع في الخيارات وطرح البدائل، لذلك باتَ تكرار هذا العمل في أثناء الأنواء المناخيَّة يطرح تساؤلات كثيرة من قِبل أولياء الأمور والطلبة والمتابعين للشَّأن التربوي، وعلامات استفهام حَوْلَ البدائل الَّتي اتَّخذتها وزارة التربية والتعليم في التَّعامل مع هذه الحالات، باعتبارها المسؤولة عن التعليم المدرسي في سلطنة عُمان، ورغم القناعة الأكيدة والتسليم المطلق بأنَّ سلامة الطلبة والمحافظة على أرواحهم وتجنيبهم مخاطر انجرافات الأودية أولويَّة وطنيَّة عُليا وغاية إنسانيَّة كبرى لا يصحُّ التنازل عَنْها، مدركين لحجم الجهود المبذولة من قِبل الوزارة في عمليَّات التَّنسيق المستمرَّة مع المركز الوطني للإنذار المبكِّر من المخاطر المتعدِّدة بهيئة الطيران المدَني، وسرعة تجاوب اللجنة المركزيَّة للحالات الطارئة بوزارة التربية والتعليم بشأن قرار تعليق الدراسة بناء على مؤشِّرات الرَّصد العدديَّة للمركز والمحافظات المشمولة بتأثير الحالة الجوِّيَّة، كما أعطيت المحافظات التعليميَّة صلاحيَّات مناسبة في تقدير الحالة الجوِّيَّة وتعليق الدراسة في مدارس المحافظة أو بعض ولاياتها.
كُلُّ ذلك وغيره ما زال يضع مسألة «تعليق الدراسة» كحلٍّ سريع وسهل أمام تساؤلات ونقاشات وحوارات في منصَّات التواصُل الاجتماعي، واتِّفاق على أهمِّية تبنِّي سياسات واضحة المعالم في التَّعامل مع هذه الأحوال، ذلك أنَّ مسألة «تعليق الدراسة» ليست الحلَّ السِّحري والنِّهائي في التَّعامل مع مِثل هذه الأوضاع المتكررة في سلطنة عُمان ـ والَّتي أصبحت معبرًا للكثير من الأعاصير والأنواء المناخيَّة والحالات الطارئة ـ الأمْرُ الَّذي يستدعي اليوم التفكير خارج صندوق الإجازات أو تعليق الدراسة، بحيث تقرأ المرحلة الحاليَّة ذلك باعتباره جزءًا من السِّياسات الوطنيَّة في التَّعامل مع منظومة الحالات الطارئة، فالحفاظ على الأرواح وسلامتها من المخاطر لا يعني بأيِّ حال من الأحوال إسقاط حقِّ الطالب في التعلُّم والتعليم، ذلك أنَّ تعليق الدراسة بما يُشكِّله من هدر وفاقد تعليمي هو خطر على سلامة الطالب الفكريَّة والنَّفْسيَّة والعقليَّة، لذلك كانت الحاجة إلى تبنِّي أُطر وبدائل، وصناعة فرص متجدِّدة تحافظ على القِيمة المضافة من نزول الأمطار وجريان الأودية والشِّعاب، وامتلاء السدود والأفلاج والآبار، وبَيْنَ شعور الطالب بالأريحيَّة في تعلُّمه، واستمراريَّته في الحصول على الحقِّ التعليمي مهما تعسَّرت الظروف وتصعَّبت المواقف، وبالتَّالي إعادة النظر في آليَّة العمل المتَّبعة، وإشراك المُجتمع المدرسي وأولياء الأمور والطلبة في إنتاج مسارات بديلة وخيارات واسعة لتعليم عالي الجودة وتعلُّم مستدام.
وبالتَّالي جملة الموجات والأُطر الَّتي يجِبُ أن تعملَ عَلَيْها وزارة التربية والتعليم، ومن بَيْنِها:
مراجعة مفهوم زمن التعلُّم في سلطنة عُمان، فحجم المرونة المتاحة في هذا الموضوع والتباينات بَيْنَ دوَل العالَم في تحديد عدد الأيام الدراسة الفعليَّة، يقودُنا إلى أنَّ تحديد (180) يومًا ليس أمرًا ثابتًا ويُمكِن تغييره إلى أقلَّ من ذلك ولْيكُنْ (160) يومًا، في ظلِّ تدخُّل الظروف والخصوصيَّة وجملة المعطيات المرتبطة بطبيعة المُجتمعات لِتشكِّلَ محطَّات مُهِمَّة في مبرِّر التغيير والتفكير خارج الصندوق بطريقة أكثر مرونة وابتكاريَّة في تحديد زمن التعلُّم، ذلك أنَّ الهدر والفاقد التعليمي الناتج عن الأنواء المناخيَّة والحالات الطارئة والظروف الاستثنائية، وما يماثلها أيضًا من انقِطاع الطلبة بسبب الإجازات المرتبطة بالأعياد الدينيَّة واليوم الوطني ويوم المعلِّم العُماني، والأحداث المفاجئة العارضة المتعلِّقة بزيارة إحدى الشخصيَّات لسلطنة عُمان، خصوصًا في محافظة مسقط، وحيث إنَّ زمن التعلُّم بُنيت عَلَيْه الخطَّة الدراسيَّة والمناهج التعليميَّة والوقت المستقطع للمعلِّم لكُلِّ درس من الدروس في وحدات المناهج الدراسيَّة؛ لذلك كانت الحاجة إلى مراجعة العمل على التقليل من زمن التعلُّم في سلطنة عُمان لِيصلَ إلى (160) يومًا، وبهذا تتمُّ مراعاة كُلِّ هذه الجوانب المُسبِّبة للفاقد التعليمي في الأنشطة والمناهج وعدد الحصص ونصاب المعلِّم ووقت التعلُّم وغيره ممَّا يُحقِّق هذا الهدف الأخير وهو (160 يومًا)، وعِنْدها لَنْ تكُونَ هناك أيَّة مُشْكِلة في التَّعامل مع مسار زمن التعلُّم أو عدم قدرة المعلِّمين على اللّحاق بالمِنْهج والوفاء به واستيعاب الطلبة له.
تفعيل العمل بنظام التعلُّم عن بُعد وجعله مساحة حاضرة في التعليم المدرسي في سلطنة عُمان وبشكلٍ خاصٍّ في الصفوف (10- 12)، وأن تتَّجهَ رؤية العمل الوطنيَّة في وزارة التربية والتعليم إلى تبنِّي سياسات وخطط وبرامج وأدوات تشخيصيَّة وإثرائيَّة وتقييميَّة وتدريسيَّة تتَّسم بالتقنين ووضوح الاستراتيجيَّات، وتكامل الأُطر وتناغم الأدوات وجاهزيَّة المدارس والمعلِّمين والطلبة، ووجود البرامج المعزِّزة أو الميسّرة لاستخدام التعلُّم عن بُعد، وعلى الرّغم من أنَّ هذا التوجُّه ظلَّ خيارًا وطنيًّا تبنَّته وزارة التربية والغليم في ظلِّ جائحة كورونا (كوفيد 19)، ورغم المحاذير المرتبطة به في الصفوف (1-9)، إلَّا أنَّ تجربة استخدامه في الصفوف العُليا كانت ناجحة إلى حدٍّ كبير. إنَّ من شأن هذا التوجُّه ـ إن أُحسنت إدارته وتوافرت له الممكنات والأدوات والاستراتيجيَّات والمنصَّات التعليميَّة الَّتي يستخدمها الطلبة ويتقنها المعلِّم ـ من شأنه أن يقللَ من مستوى الفاقد التعليمي للطلبة في الصفوف العُليا، ويوفِّر بكُلِّ أريحيَّة حقَّ الطالب في التعليم والتعلُّم حتَّى في أصعب الظروف والأحوال، الَّتي لا تُسقط حقَّ الطالب في حصوله على تعليم مستدام عالي الجودة، ما يؤكِّد أهمِّية العمل على إيجاد أُطر عمل واضحة واستراتيجيَّات أداء مقنَّنة، وتوجُّهات سليمة تحافظ على بقاء التعليم عن بُعد كخيار استراتيجي يُمكِن التعويل عَلَيْه واعتماده في الحدِّ من الفاقد التعليمي.
تقييم بنية المناهج الدراسيَّة والمحتوى التعليمي، بمعنى أهمِّية معالجة حالة الحشو والتَّلقين والكثافة في المحتوى والتوسُّع في عدد الدروس والعناوين الَّتي تضمُّها وحدات الكِتاب المدرسي وفصوله، في ظلِّ ما يحصل في بعضها من تكراريَّة وروتين وسطحيَّة، تُمثِّل اليوم أحَد مسبِّبات الهدر والفاقد التعليمي، ذلك أنَّ حجم هذه الدروس وتعدُّدها يقيِّد مساحة التحرُّك والحُريَّة أمام المعلِّم في إثراء المحتوى ويجعله أكثر التزامًا بتدريس ما هو موجود بَيْنَ دفَّتي الكِتاب، لذلك يجِبُ العمل على تقليل حجم المناهج سواء في المحتوى أو عدد الدروس، بحيث يتمُّ توزيع المحتوى الدراسي (150) يومًا، ويُمكِن في مِثل هذه الحالة إعادة النظر في توزيع هذه المحتويات والوحدات الدراسيَّة والموضوعات الموجودة فيها، بحيث يتمُّ تقسيمها إلى قسمَيْنِ: موضوعات أساسيَّة في الوحدة يجِبُ على المعلِّم أن يمنحَها وقْتَه وجهدَه بالشَّرح والنِّقاش والحوار، ويوفِّر لها حضورًا في عمليَّات التخطيط والتدريس والتقييم والبناء عَلَيْها، والقِسم الآخر، موضوعات أو دروس إثرائيَّة في الوحدة يستعين بها المعلِّم أو الطالب أو يتمُّ تدريسها بحسب الظروف، وهي إثرائيَّة لا تدخل في تقييم الطلبة أو امتحاناتهم، ويُمكِن للمعلِّم أن يقومَ بتدريسها عِنْدما يتوافر لدَيْه الوقت الكافي لذلك أو تنعدم أسباب الهدر والفاقد التعليمي، وعِنْدها سيكُونُ التركيز موجَّهًا على الموضوعات الَّتي فيها صفة التكامليَّة والعُمق والتراكميَّة بَيْنَما تستثني الموضوعات والدروس الأخرى من التدريس ويصبح موقعها في المنهج أقرب إلى الدروس الإثرائيَّة.
تصحيح مسار التمدرس والوقت الَّذي يقضيه الطالب بفاعلية في عمليَّة التعليم والتعلُّم، وهذا الأمْرُ يتحقق من خلال عدَّة جوانب من بَيْنِها: ضرورة حلِّ مُشْكِلة التعليم في المدارس ذات الفترتيْنِ في ظلِّ الانتشار الحاصل للمدارس المسائيَّة، والَّتي باتَتْ أحَد الأسباب الَّتي تُسهم في زيادة الفاقد التعليمي للطلبة، إذ فرص التعلُّم الَّتي يحصل عَلَيْها الطالب في المدارس المسائيَّة أو المدارس ذات الفترتيْنِ أقلُّ بكثير من الفرص الَّتي يحصل عَلَيْها الطالب في المدارس الصباحيَّة أو ذات الفترة الواحدة، الأمْرُ الَّذي يقلِّل من فرص العدالة وتكافؤ الفرص بَيْنَ الطلبة. ويدخل في هذا الأمْرِ أيضًا: المساحة الَّتي تُعطى لِتعلُّم الطالب في اليوم الدراسي في ظلِّ ما يحصل من هدر بسبب مشاركات الطلبة في الفقرات الاحتفاليَّة أو في أثناء زيارة أحَد المسؤولين من الوزارة أو في إقامة الاحتفالات بإحدى المناسبات الاجتماعيَّة وغيرها، حتَّى أصبح يُشكِّل هدرًا وفاقدًا تعليميًّا للطلبة في ظلِّ الشكليَّات الَّتي باتَتْ تتَّجه إِلَيْها هذه المشاركات، الأمْرُ الَّذي يرفع من الفاقد التعليمي تؤخر الطلبة ويصبح المعلِّم ليس لدَيْه الوقت الكافي لتدريس الطالب أو تعويض الفاقد بسبب مشاركته في فعاليَّة أو احتفاليَّة داخل المدرسة أو خارجها.
تقنين وضبط آليَّة تقييم الطلبة، بحيث تراعي عمليَّة تقييم الطلبة كُلَّ هذا المعطيات ومن بَيْنِها: تقنين عدد الاختبارات الأربعة، الفتري الأوَّل ونصف الفتري والفتري الثَّاني والنِّهائي، إذ إنَّ أربعة اختبارات للطلبة سوف تكُونُ على حساب وقت التمدرس والحصص الدراسيَّة المستقطعة من حصص المادَّة، وأن تركزَ الاختبارات وواضعو الاختبارات على الدروس والموضوعات الرئيسة ويُستثنى تلك الدروس الإثرائيَّة الَّتي أشَرنا إَلَيْها سلفًا والَّتي يفترض أن يتمَّ تحديدها مسبقًا من قِبل الوزارة مع بدء العام الدراسي، مع وضع المعلِّم والمُشرِف وواضعي الاختبارات في المناهج في الصورة بصدور تعميم من الوزارة في هذا الشأن.
أخيرًا.. تبقى هذه الموَجِّهات خيارات مطروحة، بحاجة إلى المزيد من التَّشخيص والتَّقييم والمراجعة، بما يعنيه من أهمِّية بناء إطار واضح وإجراء مُحدَّد لإدارة الحالات الطارئة في الحدِّ من الفاقد التعليمي، وتبنِّي خيارات أكثر احترافيَّة ومهنيَّة وعُمقًا تتجاوز الخيار السَّهل، وهو «تعليق الدراسة واستقِطاع حقِّ الطلبة في التعلُّم، خصوصًا في الصفوف العُليا» فلا يجوز أن يصادرَ هذا الحقّ من الطالب بحجَّة الأنواء المناخيَّة ما دامت توجد بدائل حاضرة ومأمونة وموثوقة ومعمول بها في دوَل مختلفة من العالَم كمسار تعليمي معترَف به دوليًّا. كما أنَّ المحافَظة على حياة الطالب كاستحقاق وجوبي أكَّده النظام الأساسي للدَّولة وقانون التعليم، باعتباره صمام الأمان بعيدًا عن المخاطر، لا تعني منْع الطالب من الحصول على الحقِّ التعليمي، بل أن يجدَ في بقائه في البيت (تعليق الدراسة) مساحة أمان لاستمرار حصوله على التعلُّم حاضرًا في كُلِّ وقتٍ وحين.
د.رجب بن علي العويسي