تعتبر إجراءات التحكيم جزءاً أساسياً من النظام القانوني في العديد من الدول حول العالم، حيث توفر للأطراف وسيلة فعالة لحل النزاعات بطريقة سريعة وفعالة خارج النظام القضائي التقليدي، كما يتيح التحكيم للأطراف التوافق على إجراءات التحكيم، واختيار المحكمين، وتحديد القواعد التي يرغبون في تطبيقها على النزاع، مما يضمن لهم درجة من المرونة والتخصيص في عملية حل النزاع.
ومع ذلك، تختلف قوانين التحكيم من بلد لآخر، حيث تحدد كل دولة إطارها القانوني الخاص بهذه العملية، ففي بعض الدول، يُعتبر حكم التحكيم نهائياً وقابلاً للتنفيذ دون إمكانية الطعن فيه، بينما تقدم بعض الدول إمكانية الطعن في حكم التحكيم وفقاً لبعض الشروط والإجراءات المحددة.
بالتالي، يهدف هذا المقال إلى استكشاف وتوضيح موقف القانون من عملية التحكيم، مع التركيز على إجراءات تنفيذ حكم التحكيم وتأثير الاتفاقيات بين الأطراف على هذه العملية، كما سنناقش كيفية تفاوت قوانين التحكيم والإجراءات التي يجب اتباعها، بما في ذلك التحكيم في إجراءات التنفيذ الجبري، والتحديات التي قد تواجه الأطراف في هذه العملية.
تحظى إجراءات التنفيذ الجبري بأهمية بالغة في النظام القانوني، حيث يتولى القضاء بصورة حصرية تنفيذ الأحكام والقرارات، فالمنازعات التي تنشأ حول تنفيذ القرارات القضائية تخضع للتدخل الحصري والإشراف المباشر من قبل السلطة القضائية، كما يعكس هذا النهج القانوني الأساسي والذي ينبثق من طبيعة إجراءات التنفيذ الجبري، حيث يقتضي الأمر استخدام السلطة والقوة لتنفيذ القرارات الصادرة عن السلطة القضائية، عند الضرورة.
ومع ذلك، تختلف الأمور بشكل بعض الشيء عندما يتعلق الأمر بتنفيذ حكم التحكيم. فبناءً على الطبيعة الخاصة للتحكيم وتبعياته القانونية، تتحول محكمة الاستئناف إلى السلطة المختصة في تنفيذ حكم التحكيم، وتقوم محكمة الاستئناف بذلك بناءً على القوانين واللوائح المعمول بها، وتتخذ الإجراءات الضرورية لضمان تنفيذ الحكم بشكل فعّال وفقاً للأحكام القانونية.
وبشكل عام، يعمل القضاء على معالجة النزاعات المتعلقة بتنفيذ الأحكام الصادرة عنه، وهو الذي يتولى فصل المنازعات المتعلقة بإجراءات التنفيذ بواسطة المحاكمة المصاحبة لتلك الإجراءات، وبالرغم من أن هناك بعض التشابه في الإجراءات المتبعة في التنفيذ سواء كانت تلك القرارات صادرة عن القضاء أو من خلال التحكيم، فإن هناك اختلافات تُلاحظ في الإجراءات والسلطات المعنية بكل نوع من أنواع الأحكام.
وبناءً على ما تم ذكره، يمكن القول بأن التحكيم يمثل نظاماً قانونياً بذات طابعه الخاص، حيث تتغير الجهات المختصة في تنفيذ حكم التحكيم وفقاً للتشريعات المعمول بها، وبالتالي، فإن محكمة الاستئناف تتخذ دوراً أساسياً في ضمان تنفيذ الحكم التحكيمي وفقاً للقوانين النافذة.
وفي النظام القانوني، يُعتبر التحكيم غالباً وسيلة فعّالة لحل النزاعات، وتمكن الأطراف المتنازعة من اختيار آلية تحكيمية خاصة لحسم النزاعات بينهم، ومع ذلك، يختلف التطبيق القانوني للتحكيم بشكل بارز حين يتعلق الأمر بتنفيذ القرارات التحكيمية، خصوصاً فيما يتعلق بالإجراءات الاختيارية لتنفيذ هذه القرارات.
وفي العديد من الحالات، يتمكن الأطراف المعنية بالتحكيم، سواء كانوا المحكوم لهم أو المحكوم عليهم، من تنفيذ حكم التحكيم بشكل اختياري، وعندما يتم تنفيذ الحكم دون أي تغيير أو تعديل في مضمونه، يُعتبر ذلك تنفيذاً اختيارياً، كما يمكن للأطراف التوصل إلى اتفاق لإلغاء بعض البنود الواردة في الحكم، ويُعتبر هذا التسوية صالحاً فيما يتعلق بتنفيذ الحكم.
ومع ذلك، تظل بعض أحكام التحكيم غير صالحة للتنفيذ، وذلك نظراً لضرورة حل بعض المسائل المتبقية التي لم تُحسم بين الأطراف أثناء التحكيم، كالحكم بتخصيص مساحة معينة للمحكوم له دون تحديد موقعها الدقيق أو بتقدير ثمن الممتلكات دون تحديد العقار المحدد، في هذه الحالات، يُعتبر التحكيم وسيلة مناسبة لحسم النزاعات الباقية، حيث يتمتع الحكم التحكيمي بقوة نهائية بعد انتهاء مدة للطعن فيه أو بعد موافقة الأطراف المشاركة في التحكيم على تنفيذه.
باختصار، يُظهر التحكيم نقطة التحول التي يمكن للأطراف في النزاع أن تسعى من خلالها لتنفيذ القرارات التحكيمية بشكل فعّال، خاصةً في مواجهة الجوانب الناقصة أو الغير صالحة للتنفيذ في الحكم التحكيمي.
وبناءً على السياق القانوني، يتبين أن الحكم الاستئنافي المستأنف قد تعرض لتأويل يُعتبر فيه الحكم الصادر عن لجنة التحكيم على أنه قرار تنفيذي، وينبع هذا الاعتبار من فهم الشعبة المدنية للمحكمة التي وصفت لجنة التحكيم بمثابة قاضي التنفيذ، حيث أدرجت القرار الصادر عنها في نطاق التنفيذ الاختياري، بالإضافة إلى فصلها في المسائل الموضوعية، ومع ذلك، بعد استعراض ملف القضية (س)، وجدت أن الأطراف المتنازعة قد توصلت إلى اتفاق لتحكيم لجنة التحكيم بهدف تعيين خبراء للمسح والتثمين وتحقيق العدالة في التوزيع، وفقاً لما جاء في حكم التحكيم السابق الصادر من لجنة التحكيم، لذا، كان من الضروري على المحكمة الاستئنافية التي نظرت في الطعن المقدم بطلب البطلان في هذه القضية أن تُعتبر هذه الإجراءات التي اتخذها المحكمون الحاليون إجراءات تحكيمية، وليست إجراءات تنفيذية.
كما تعد مسألة تنفيذ حكم التحكيم أحد الجوانب الحيوية في النظام القانوني، حيث تُعتبر الأحكام التحكيمية قابلة للتنفيذ بعد انقضاء فترة التقديم القانونية لطعن البطلان، وفقاً للمادة 57 من قانون التحكيم، وتنص المادة على أن “تصبح الأحكام التحكيمية نهائية وقابلة للتنفيذ بعد انتهاء مدة الطعن أو انتهاء المدة المحددة لرفع دعوى البطلان دون رفعها، أو بعد صدور قرار برفضها في حال تقديمها للمحكمة”، ومن المعلوم أن محكمة الاستئناف تعد الجهة المختصة بتنفيذ هذه الأحكام، ويُسمح لها بتكليف المحاكم الأخرى بتنفيذها، وفقاً للمادة 58 من نفس القانون، التي تنص على أن “تختص محكمة الاستئناف أو المحكمة التي تنوب عنها بتنفيذ أحكام التحكيم”.
ووفقاً للقوانين القضائية والتحكيمية، يقتصر دور محكمة الاستئناف في ما يتعلق بأحكام التحكيم عند الادعاء ببطلانها على الرقابة القانونية، وذلك وفقاً للمادة 53 من قانون التحكيم، بموجب هذا النص، تُعتبر محكمة الاستئناف محكمة قانونية، ولا يجوز لها التدخل في محتوى حكم التحكيم أو تعديله بأي شكل، وبالتالي، عند نظرها لدعوى البطلان، تكتفي محكمة الاستئناف بـ إما رفض الدعوى بالبطلان، مما يؤدي إلى صحة حكم التحكيم، أو قبول الدعوى وبالتالي يُعتبر حكم التحكيم باطلاً.
أما فيما يتعلق بطلبات تنفيذ حكم التحكيم، فإن محكمة الاستئناف ملزمة بتنفيذ ما جاء في محتوى حكم التحكيم كما هو، حيث يُعتبر هذا الحكم محددًا للحق الذي يُمكن تنفيذه، وبالتالي، لا يملك محكمة الاستئناف التدخل في النزاعات الخلافية بين الأطراف التي لم يتم حسمها بواسطة حكم التحكيم المُطلوب تنفيذه، وعلى هذا الأساس، تسمح المادة المذكورة بإمكانية التحكيم مرة أخرى في هذه النزاعات، نظرًا لأنها تُعتبر إجراءات تحكيمية وليست إجراءات تنفيذية، وفقًا لما ورد في الحكم المذكور.
وبناءً على ما سبق، يكون من غير الممكن على محكمة الاستئناف تنفيذ حكم التحكيم قبل فصلها في النزاعات الخلافية، مثل تقسيم وتعيين حصة الشريك من مجموعة من الأراضي المتباينة في مواقعها وقيمتها.
أما في سياق تنفيذ حكم التحكيم، يصبح غالبًا الضرورة للقضاء في مواجهة تحديات تتعلق بتحديد التفاصيل الدقيقة للتنفيذ، مثل تحديد العقار المحدد الذي يجب تنفيذ الحكم عليه من بين مجموعة من العقارات، أو تحديد القيمة المحددة للتعويض دون تحديد مقداره بشكل واضح، في الحالات المماثلة، يتبنى القضاء موقفًا ينص على جواز التحكيم في النزاعات الخلافية بين الأطراف، حيث يُعتبر هذا النوع من الإجراءات تحكيمية وليس تنفيذية، وذلك استناداً إلى ما ورد في الحكم السابق الذي تم التحكيم عليه لإجراءات التنفيذ، وفي السياق نفسه، يصبح الحكم التحكيمي السابق الذي تم التحكيم عليه في إجراءات التنفيذ قابلاً للتنفيذ بشكل نهائي بعد انقضاء المدة المحددة لتقديم الطعن في صحته، وفقاً لأحكام القانون المعمول به.
ويأخذ القانون التحكيمي بعين الاعتبار حرية الأطراف في تحديد الإجراءات التي يجب اتخاذها من قبل لجنة التحكيم، وفقاً لما ينص عليه القانون في المادة 32 من قانون التحكيم، هذا يعني أنه يمكن للأطراف المتنازعة التوافق على الإجراءات الملائمة التي يجب اتخاذها خلال عملية التحكيم.
كما تنظم أحكام التنفيذ والتي تنص عليها قوانين المرافعات إجراءات التنفيذ دون أن تتعلق بصحة الحكم الصادر أو بأصل الحق المحكوم به، بالتالي، يتم رفع منازعات التنفيذ أمام رئيس المحكمة الابتدائية الذي يشغل دور قاضي التنفيذ في هذا السياق.
أما بالنسبة لتنفيذ حكم التحكيم، فإن الاختصاص بهذا الشأن ينحصر في محكمة الاستئناف، التي تُعتبر محكمة قانونية فيما يتعلق بأحكام التحكيم. تقوم هذه المحكمة بالتحقق من وجود حالات بطلان حكم التحكيم المدعى به، ولكنها ليست مخولة بالتدخل في أمور تعديل حكم التحكيم أو النظر في طلبات جديدة. ففي مرحلة النظر في دعوى البطلان، تكون محكمة الاستئناف محكمة قانونية وليست محكمة موضوعية كما هو الحال في الاستئناف العادي.
وبناءً على هذا المنطق، يتبنى تنفيذ حكم التحكيم الذي يقوم به محكمة الاستئناف خصوصيات معينة، حيث يتطلب تنفيذ حكم التحكيم أن يكون الحكم صالحاً للتنفيذ دون الحاجة إلى التدخل في النزاعات الجديدة بين الأطراف التي قامت بالتحكيم.
ووفقاً للتشريعات القانونية، يُسمح لأطراف حكم التحكيم بالاتفاق على تنفيذ حكم التحكيم اختيارياً، حيث يُعتبر هذا الاتفاق تنفيذاً اختياريًا لحكم التحكيم إذا تم التوافق على تنفيذه كما هو منصوص عليه في الحكم نفسه، وفي حال تم التوافق على تعديل أو إسقاط بعض بنود حكم التحكيم، يعتبر ذلك صلحاً بين الأطراف، بشرط أن يكون هذا التعديل مدرجاً في الاتفاق.
ومع ذلك، يُحظر على أطراف حكم التحكيم الاتفاق على التحكيم في إجراءات التنفيذ الجبري لحكم التحكيم، حيث يعتبر ذلك من اختصاص محكمة الاستئناف أو أي جهة مخولة بذلك، وهنا يجب التنويه إلى أن التنفيذ الجبري يتضمن استخدام وسائل جبرية يمكن أن تستلزم تدخل قوة السلطة العامة.
في الختام، يظهر بوضوح أن التحكيم يلعب دوراً حيوياً في تسوية النزاعات بطريقة فعالة ومرنة خارج الإطار القضائي التقليدي، كما يعكس توافر الخيارات والمرونة في عملية التحكيم التزام القانونيين والأطراف بالعمل بروح التعاون والتفاهم لحل النزاعات بطريقة تتناسب مع مصالحهم وتطلعاتهم.
وتحمل عمليات التحكيم مسؤولية كبيرة على عاتق القانونيين، حيث يتعين عليهم العمل بجدية وحرفية لضمان سير العملية بشكل عادل ومنصف، يتطلب ذلك مهارات تحليلية عالية وفهم عميق للقوانين والأنظمة المحلية والدولية المتعلقة بعملية التحكيم.
وبالتعاون مع الأطراف المعنية والمحكمين المعينين، يمكن للقانونيين أن يساهموا بشكل فعال في تسوية النزاعات بطريقة تلبي مصالح الجميع وتحافظ على العدالة والنزاهة، إن دورهم الحيوي في عملية التحكيم يساهم في تعزيز الثقة في النظام القانوني وتعزيز مبادئ العدالة والمساواة.
وبهذا، يؤكد دور القانونيين على أهمية التزامهم بأعلى معايير الأخلاقيات المهنية والمسؤولية الاجتماعية، وعلى ضرورة مواصلة تطوير مهاراتهم وتعزيز فهمهم للتحكيم كوسيلة فعالة لحل النزاعات في مجتمعاتنا المتنوعة والمتغيرة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.