تعد مسألة الوقف واحدة من المسائل الشرعية والقانونية التي تثير اهتماماً كبيراً في العديد من الأنظمة القانونية والشرعية حول العالم، كما يعتبر الوقف، وفقاً للشريعة الإسلامية، توقيف المال في سبيل الله تعالى، وذلك من خلال تخصيص أصول معينة لتحقيق أغراض دينية أو خيرية، مما يعكس الجانب الإنساني والاجتماعي للشريعة الإسلامية.
وتسعى الشريعة الإسلامية إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ودعم الفقراء والمحتاجين من خلال إقامة الأوقاف، التي تعتبر أحد أهم آليات تحقيق هذه الأهداف، وتعتبر المؤسسات القانونية في العديد من البلدان الإسلامية مسؤولة عن تنظيم وإدارة الأوقاف وفقاً للأحكام الشرعية والقانونية المعترف بها.
من جانبه، يعكس القانون في العديد من الأنظمة القانونية الحديثة، بما في ذلك الأنظمة القانونية المدنية والإسلامية، الجهود المبذولة لتطبيق وتنظيم الوقف بما يتماشى مع القيم والمبادئ الدينية والقانونية المعترف بها دولياً، ومن خلال دراسة الوقف من منظور الشريعة الإسلامية والقانون الوقفي، يتضح دوره المهم في تعزيز العدالة الاجتماعية وتحقيق التنمية المستدامة وتقديم الدعم للفئات المحتاجة في المجتمعات، وهو ما يجسد التكامل بين الأبعاد الدينية والقانونية في هذا الجانب المهم من الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
بالتالي، تنص المادة /5/ من قانون التحكيم بوضوح على عدم جواز التحكيم في المسائل التي يُحظر فيها الصلح، ومن بين تلك المسائل يُعتبر الوقف، يندرج الوقف تحت هذا المفهوم، إذ يمنع القانون المدني الصلح بشأن ممتلكات الوقف، ما لم تتوافر ظروف استثنائية محددة، ومن الجدير بالذكر أنه يُسمح بالتحكيم فيما يتعلق بحقوق الانتفاع بالعين الموقوفة، إذا نشأ خلاف بشأن تلك الحقوق.
وفي إحدى الدعاوى، إن الطعن يمثل وسيلة فعالة للطرف الطاعن، حيث أسست محكمة الاستئناف في إحدى الدول العربية حكمها على أساس المادة (5/ ف 2) من قانون التحكيم التي تحظر التحكيم في ملكية الوقف، على الرغم من أن الطرفين يتفقان على أن ملكية العين محل النزاع تعود للوقف، إلا أن النزاع الفعلي يتعلق بحقوق الانتفاع بالعين الموقوفة، حيث يدعي كل طرف استحقاقه للمنفعة، ونظراً لأن الحظر المذكور في المادة (5/ ف 2) يتعلق بالملكية والرقبة الوقف، وليس بحقوق الانتفاع، فإن محكمة الاستئناف كان من الواجب عليها النظر في دعوى البطلان، مما يستدعي قبول الطعن ونقض الحكم الاستئنافي.
وأوضح قانون التحكيم حظر التحكيم في ممتلكات الوقف، حيث نصت المادة (5) على منع التحكيم في المسائل التي لا يمكن فيها التصالح، ومن خلال تحليل هذا النص القانوني، يتبين أنه تم تأكيد عدم جواز التحكيم في الموضوعات التي لا يمكن فيها التصالح، ويتفق الفقه الإسلامي على عدم جواز التصالح في ممتلكات الوقف، لأن التصالح ينطوي على التنازل، واللا تنازل يتم بموافقة صاحب الممتلكات، وبما أن المسؤول عن الوقف ليس مالكاً للممتلكات الموقوفة، فإنه لا يمكن له أن يتنازل عنها أو يسقطها، حيث تقتصر صلاحيته على إدارة ورعاية وحماية الممتلكات الموقوفة دون الحق في التنازل عنها أو إسقاطها.
بالإضافة إلى ذلك، إن قانون التحكيم أكد في المادة (5) الفقرة (د) على عدم جواز التحكيم في المسائل التي لا يمكن فيها التصالح، وأوضحت المادة (671) من القانون المدني أنه لا يمكن التصالح لمن لا يملك التصرف كالصبي المأذون له وولي الصغير وناظر الوقف إلا في حالتين استثنائيتين، وبما أن الصلح في ملكية الوقف غير مجاز، فإنه لا يجوز التحكيم في ملكية الوقف أو ملكية الرقبة وفقاً للمادة (5) الفقرة (د) من قانون التحكيم، بالتالي، يعود عدم جواز الصلح في ملكية الوقف إلى أن ناظر الوقف ليس مالكاً للوقف، بل مسؤول عن إدارته وحمايته، حيث أن المالك الحقيقي للوقف هو الله، وبالتالي لا يحق للمسؤول عن الوقف التصرف فيها بشكل يتضمن الصلح على رقبة الوقف، وبما أن التصالح يتضمن اسقاط جزء من ممتلكات الوقف، فإنه غير جائز، وبالتالي، فإن التحكيم، على الرغم من عدم تضمنه الاسقاط، يشكل مخاطر على ممتلكات الوقف بشكل أقل من التصالح، مما يجعله غير مجازاً بالنسبة للمسائل التي تتعلق بملكية الوقف.
أما ملكية رقبة أموال الوقف فهي تعود إلى الله تعالى، وبناءً على ذلك، لا يجوز التصرف في مال الوقف بأي من التصرفات الناقلة للملكية مثل البيع والهبة والنذر والوصية، إلا أنه يمكن تأجير مال الوقف، ومن خلال عقد الإيجار، يحصل المستأجر على حق الانتفاع بمال الوقف المؤجر لغايات محددة، وينتقل هذا الحق في حال وفاة المستأجر إلى ورثته وفقاً لأحكام الشريعة والقانون.
وإذا قام المستأجر ببناء أو غرس أو إصلاح العين المؤجرة بإذن من الجهة المسؤولة عن الوقف، فإنه يكتسب حق العناء الظاهر أو حق اليد العرفية أو الشقية، وحق الانتفاع بالوقف هو حق مالي يتم الحصول عليه مقابل مبلغ نقدي أو عوض مادي، كما يمكن تحديد حق الانتفاع بالعين الموقوفة بموجب وقفية الواقف، التي تحدد فيها الفئات المستحقة للاستفادة من العين الموقوفة وفقاً لأوصاف الواقف وتعليماته. وفي هذا السياق، تنص المادة (86) من قانون الوقف على أنه لا يحصل المستأجر على حق اليد إلا في العناء الظاهر مثل الغرس والبناء والإصلاح إذا تم ذلك بموافقة الجهة المختصة.
وبهذه الطريقة، تضمن الأحكام القانونية والشرعية حقوق المستأجر والواقف بشكل واضح ودقيق، مما يسهم في تنظيم علاقات الوقف وضمان استخدامها بالشكل الصحيح والمناسب.
بالتالي، إن حق الانتفاع بمال الوقف يتضح ويتحدد بناءً على وقفية الواقف، حيث يحدد الواقف في وقفيته الأشخاص المستحقين للاستفادة من الأموال التي يوقفها، ومن جهة أخرى، يمكن تحديد حق الانتفاع بالأموال الموقوفة من خلال عقد إيجار بين ولي الوقف والمستأجر، حيث يترتب على هذا العقد حق الاستفادة بالأموال الموقوفة المؤجرة.
وبموجب الفقه، يُعتبر عقد الإيجار عقداً يهدف إلى منح المستأجر حقوق الملكية المؤقتة على المنفعة، وبالتالي فإن حق الانتفاع بالعين الموقوفة يُعتبر حقًا معتبرًا ومحددًا في الشريعة والقانون، ونتيجة لذلك، يمكن للأشخاص الذين يختلفون حول استخدام الوقف اللجوء إلى التحكيم كوسيلة لتسوية الخلافات المتعلقة بحق الانتفاع بالوقف.
ويجدر التنويه إلى أن هذا النوع من التحكيم لا يتداخل مع حق ملكية الرقبة في العين الموقوفة، حيث إن ملكية العين الموقوفة تعود إلى الله تعالى، وبالتالي فإن التحكيم بشأن حق الانتفاع لا يؤثر على ملكية العين الموقوفة.
وقد أجاز الحكم محل التحكيم في الحق في الانتفاع بمال الوقف، المعروف أيضاً بـ “حق اليد”، استناداً إلى أن هذا التحكيم لا يتعلق بملكية الرقبة أو أصل مال الوقف، ففي الحالات التي يتم فيها التحكيم، يكون البائع والمشتري أو المستفيد المحتكم في استخدام الوقف، مقرين ومعترفين بأن ملكية الأرض أو رقبتها تنتمي إلى الأوقاف، وأن لهم فقط حق الانتفاع بها، وبما أن محل التحكيم وموضوعه في هذه الحالة ليسا ملكية الرقبة في مال الوقف، بل هو حق الانتفاع في تلك الأرض، فإنه يعتبر قابلاً للتحكيم.
ومن المهم أن نلاحظ أن حق الانتفاع في أرض الوقف هو حق يمكن نقله والتصرف فيه، وبناءً على ذلك، يملك المستفيد الحق في التصالح أو التحكيم في حق الانتفاع بمال الوقف، حيث يتمتع بالقدرة على التصرف في حقه في الاستفادة من العين الموقوفة.
من هنا، يظهر بوضوح أن الوقف يمثل جانباً مهماً من القيم الدينية والقانونية التي تسعى إلى تحقيق العدالة الاجتماعية ودعم الفئات المحتاجة في المجتمعات، ومن خلال الشريعة الإسلامية، تأتي الأوقاف كوسيلة فعّالة لتحقيق الخير وتعزيز التنمية المستدامة، حيث تمنح الفرصة لتقديم الدعم الاجتماعي والاقتصادي للفئات المحتاجة، وتعزز من مفهوم المسؤولية المجتمعية.
ومن ناحية أخرى، يلعب المحامون دوراً بارزاً في مسألة الوقف، حيث يعملون على توفير النصح القانوني اللازم للأفراد والمؤسسات التي تسعى لتأسيس الأوقاف وإدارتها بشكل فعّال، فهم يسعون إلى توضيح الأحكام الشرعية والقانونية المتعلقة بالوقف وتطبيقها بشكل صحيح، ويعملون على حل النزاعات المتعلقة بمسائل الوقف بطرق قانونية ومهنية.
وبهذا، يظهر أن التفاعل بين الشريعة والقانون ودور المحامين يسهم في تعزيز مفهوم العدالة وتحقيق الغرض الإنساني من الأوقاف، وبالتالي، يؤدي إلى بناء مجتمعات أكثر استقراراً وتنمية.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ مستشار قانوني – الكويت.