في طيات تاريخ مصر الحديث، برزت شخصية استثنائية تجسدت في شخص الفقيه القانوني الكبير، أحمد فتحي سرور، السياسي الذي عاش عصراً تاريخياً مليئاً بالتحولات والتحديات، كانت له مكانة بارزة ضمن نظام حكم الرئيس السابق محمد حسني مبارك، حيث اعتبر من بين أقرب الشخصيات إليه، وكان له دور كبير في السياسة والقانون.
لقد صنع اسمه في ساحة البرلمان، حيث انتخب لرئاسة مجلس الشعب لمدة تزيد عن عقدين من الزمان، مما يشير إلى الثقة الواسعة التي كانت تحظى به شخصيته من زملائه والمواطنين على حد سواء، ومع ذلك، جاءت ثورة 25 يناير لتعكر صفو هذه السيرة الرائعة، حيث اتُهم بجريمة قتل المتظاهرين وأودع السجن.
لم يكن السجن عقبة لإرادته أو تصميمه على خدمة بلاده، بل بالعكس، استطاع أن يبرهن براءته أمام المحكمة، ورغم ذلك، استمر في العمل السياسي والقانوني بتفانٍ وإخلاص، وفي لحظة انتصاره على التهم الموجهة إليه، حافظ على كرامته وثباته، فما أن فرجت المحكمة عنه حتى عاد إلى خدمة وطنه دون تردد.
وفي 6 أبريل 2024، غادرنا هذا الرجل العظيم، تاركاً خلفه إرثاً لا يُنسى من العطاء والتفاني في خدمة الوطن والشعب، لقد رحل بعد حياة حافلة بالتضحيات والتحديات، ولكنه ترك وراءه بصمات قوية في قلوب الناس وفي تاريخ مصر السياسي في العصر الحديث.
أحمد فتحي سرور، الشخصية التي لطالما أثرت في حياتي وتركت بصمة لا تُمحى، وذلك من خلال تجارب عديدة ولقاءات معه، سواء كانت في الكويت، أو في أروقة جامعة القاهرة العريقة، فمكتبتي تضم العديد من كتبه، فقد كنت ألتقيه في الكثير من المناسبات العلمية والثقافية حيث كان يشارك بأفكاره وخبراته في مجال القانون، وكانت تلك اللقاءات فرصة للتعرف على عمق معرفته وشخصيته الفذة.
وكنت أتلقى نصائحه وتوجيهاته في مجالات مختلفة، ورغم بعده الجغرافي، إلا أنه كان يبقى قريباً بحكم حكمته وعلمه الواسع في القانون، إذ لم يكن أحمد فتحي سرور مجرد سياسي أو قانوني بارع، بل كان أيضاً استاذاً لي وإن كان ذلك بشكل غير مباشر، حيث تعلمت منه الكثير من القيم والمبادئ الأساسية في الحياة والعمل، وتركيزه على العلم والنهوض، كما كان دائماً مصدر إلهام لي وللكثيرين حوله، بالتالي، إن وفاته كانت خسارة كبيرة لمصر وللعالمين العربي والإسلامي، لكن ذكراه وإرثه سيظلان في قلوبنا وفي مكتباتنا، حيث تبقى كتبه ومآثره خير شاهد على إرثه العظيم وعطاءه اللا محدود.
النشأة
ولد أحمد فتحي سرور، هذا العملاق الذي أضاء سماء الحقوق والسياسة في مصر، في بلدة صغيرة بمحافظة قنا جنوب البلاد، ولكنه كان يحمل في داخله روحاً عظيمة وإرادة لا تلين، فلم يكن بداية حياته سهلة، فبعد أن أنهى تعليمه الابتدائي والثانوي، واجه التحديات التقليدية التي تواجه الشباب في بداية مسيرتهم الأكاديمية، لكن بفضل عزيمته وإصراره، تمكن من الانطلاق نحو النجاح وتحقيق أحلامه، حيث التحق بجامعة القاهرة، معقل العلم والمعرفة في مصر، حيث درس الحقوق وحصل على الإجازة في هذا التخصص عام 1953، وأظهر براعته واجتهاده الشديد في هذا المجال.
لم يكتفِ بذلك، بل سعى للمزيد من العلم والمعرفة، فحصل على درجة الدكتوراه في التخصص نفسه عام 1959، وسافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لمتابعة دراسته، حيث التحق بجامعة “ميتشغان” وحصل على ماجستير في القانون المقارن، إضافة إلى دبلوم في العلوم الجنائية من جامعة القاهرة، مما يبرهن على شغفه الدائم بتطوير مهاراته ومعرفته.
ولم تقتصر إسهاماته على المجال الأكاديمي فحسب، بل كان له أيضاً إسهامات عظيمة في المجال السياسي، حيث شغل مناصب عدة في الحكومة المصرية وحزب الوفد، وترك بصمات قوية في رحلته الطويلة، ما جعله يحظى بتقدير واحترام الكثيرين، بالإضافة إلى ذلك، تم تكريمه بدرجة الدكتوراه الفخرية من جامعة بولونيا في إيطاليا، مما يُظهر اعتراف الجهات العلمية العالمية بإسهاماته الفذة في مجال القانون والسياسة.
أحمد فتحي سرور، رجل السياسة الذي بقي حجر الزاوية في الساحة السياسية المصرية لأكثر من عقدين من الزمن، وكان يعدّ من بين رموز نظام الرئيس حسني مبارك، بدأت رحلته السياسية بالانضمام إلى الحزب الوطني، حيث تحوّلت هذه الخطوة إلى مفتاح بقائه في دائرة الضوء السياسي لسنوات طويلة.
رئاسة مجلس الشعب لمدة 21 عاماً متتالية، جعلته رقماً ثابتاً يطغى على المشهد البرلماني المصري، حيث كان المجلس يصدر القوانين والنصوص التي أثارت جدلاً واسعاً في الشارع المصري، منها قوانين تمديد حالة الطوارئ وتصدير الغاز إلى “الكيان الصهيوني”.
كان فتحي سرور ليس فقط رئيساً لمجلس الشعب، بل كان أيضاً عضواً في عدة منظمات برلمانية عربية وإفريقية، حيث كان يمثل مصر بكل فخر واعتزاز في المحافل الدولية، ومع مرور الزمن، تحولت الصورة، وبدأت ثورة الشعب المصري تكشف أوراق الفساد والانتهاكات، رغم مواقفه الصلبة وتصريحاته المثيرة للجدل، تغيرت مواقفه مع تصاعد قوة الثورة، حيث أعلن رفضه للتزوير في انتخابات مجلس الشعب واعتبر ذلك خيانة لإرادة الشعب.
وبعد سقوط نظام مبارك، جاءت الاتهامات والمحاكمات، حيث اُتهم بالتورط في قضايا فساد وتضليل واعتداء على حقوق الإنسان، وعلى الرغم من براءته من تهمة قتل المتظاهرين، إلا أنه بقي تحت الملاحقة في قضايا الفساد وتضخم الثروة، وتم التحفظ على أمواله وأموال عائلته، مما أثار جدلاً واسعاً حول أصول ثروته وكيفية تراكمها، في نهاية المطاف، لا يمكن إنكار إسهامات أحمد فتحي سرور في الساحة السياسية المصرية، سواء بمواقفه أو بإجراءاته التشريعية، لكن تاريخه السياسي بات يحمل عبئاً من الجدل والانتقادات، مما يجعل إرثه يثير التساؤلات والنقاشات في الساحة العامة.
أما عن إسهاماته، فقد برزت إسهامات الراحل، القوية والمؤثرة في عدة مجالات، حيث برزت إسهاماته البارزة في العلوم القانونية والتعليم والسياسة والدبلوماسية، بعد تخرجه من الجامعة، انضم إلى النيابة العامة حيث خدم بتفانٍ واجتهاد، ثم انتقل لتدريس الحقوق في جامعة القاهرة، حيث ارتقى في المراتب العلمية ليصبح عميداً لكلية الحقوق في عام 1983، ونائباً لرئيس الجامعة في عام 1985، ولم يكن إسهامه يقتصر على العلم القانوني فقط، بل شمل أيضاً العمل الدبلوماسي، حيث خدم في السلك الدبلوماسي المصري وتولى منصب وزير التعليم في عام 1986، حيث برزت قدراته القيادية والإدارية.
أما عمله السياسي فلم يكن أقل إثارة، حيث انتخب عضواً في مجلس الشعب عام 1987، وتولى رئاسة المجلس في عام 1990 بعد حادثة اغتيال رئيسه السابق رفعت المحجوب، كما نال عضوية المكتب السياسي للحزب الوطني، مما يظهر تأثيره الكبير وقيادته الحكيمة في المشهد السياسي المصري.
وفي المجال القانوني، فإن سرور لم يكن مجرد وجه بارز بل كان قامة بارزة، حيث شغل مناصب مهمة مثل وكيل النائب العام ورئيس اتحاد الحقوقيين المصريين، وكان نائباً لرئيس الجمعية الدولية للقانون الجنائي، ورئيساً فخرياً لمعهد الدراسات العليا للعلوم الجنائية في سيراكوزا بإيطاليا، مما يبرز تفانيه واهتمامه بالقضايا القانونية على المستوى الدولي، باختصار، أحمد فتحي سرور لم يكن مجرد رجل سياسة أو قانوني بل كان قامة وطنية كبيرة، أثرت إسهاماته البارزة في شتى المجالات وتركت بصمة لا تُمحى في تاريخ مصر ومسيرتها السياسية والقانونية.
أحمد فتحي سرور، الشخصية البارزة التي أثرت في عدة مجالات بفضل تفانيها وإبداعها اللا محدود، في المجال البرلماني، تألق وتألق، حيث عين رئيساً لاتحاد البرلمانات الأفريقية في عام 1990، ليمثل صوت القارة السمراء ويسهم في تعزيز التعاون الإفريقي وتطوير الديمقراطية على القارة، ولم يكتفِ بذلك، بل تولى رئاسة الاتحاد البرلماني الدولي في الفترة من عام 1994 إلى 1997، ومن ثم تولى قيادة الاتحاد البرلماني العربي حتى عام 2000، حيث عمل جاهداً على تعزيز التضامن والتعاون بين دول العالم العربي.
ولم يكن إسهامه يقتصر على المستوى العربي فحسب، بل شمل أيضاً المستوى الإسلامي والدولي، حيث عين رئيساً للاتحاد البرلماني الإسلامي في عام 2000، وكذلك رئيساً لمؤتمر رؤساء برلمانات الدول الأورومتوسطية، ورئيساً للبرلمان الأورومتوسطي في عام 2004، ليكون صوتاً مهماً في تعزيز التفاهم والتعاون بين الدول والثقافات المختلفة.
وفي المجال الثقافي، كان للراحل دور كبير ومؤثر، حيث عمل كملحق ثقافي في برن بسويسرا ومستشار ثقافي في باريس، وكان مندوباً دائماً لجامعة الدول العربية لدى اليونسكو، ونائب رئيس المجلس الدولي للتربية بجنيف، وفي عام 1989، تقلد رئاسة المؤتمر الدولي للتربية بجنيف، حيث ساهم في تعزيز الحوار الثقافي والتعاون الدولي في مجال التعليم والثقافة.
ومن بين المؤلفين البارزين في مجال القانون والسياسة، يبرز اسم أحمد فتحي سرور بإشراقته وإبداعه اللا محدود في كتابة الكتب التي تركت بصمة قوية في عالم الفكر والتحليل السياسي، فقد ألّف العديد من الكتب التي تتناول قضايا مهمة وحساسة، منها “المواجهة القانونية للإرهاب” التي تناولت تحليلاً عميقاً للتحديات القانونية المتعلقة بالإرهاب وكيفية التعامل معها بما يحفظ الأمن والحريات العامة.
ومن خلال كتابه “منهج الإصلاح الدستوري في مصر”، قدّم سرور رؤية شاملة للتحولات الدستورية في مصر وكيفية بناء نظام دستوري يعكس آمال وتطلعات الشعب المصري، كما استعرض في كتابه “أصول السياسة الجنائية والدبلوماسية البرلمانية والتعاون الدولي” الجوانب المختلفة للسياسة الجنائية ودور البرلمان في تشكيل السياسات الدولية والتعاون بين الدول في مكافحة الجريمة.
وبجانب ذلك، قدم سرور في كتابه “العالم الجديد بين الاقتصاد والسياسة والقانون” تحليلاً عميقاً لتفاعلات العوامل الاقتصادية والسياسية والقانونية في تشكيل مسار التطور العالمي، ودور القانون في تحقيق التوازن بين الاقتصاد والسياسة في سبيل تحقيق التنمية المستدامة، وإلى جانب مؤلفاته الرائعة، فقد نال أحمد فتحي سرور العديد من الجوائز والأوسمة التي تشهد على تميزه وإبداعه، بما في ذلك جائزة الدولة التشجيعية في القانون الجنائي عام 1964، وجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1993، بالإضافة إلى وسام النيلين من السودان، ووسام الكوكبة من الجمعية الدولية للبرلمانيين بفرنسا، وجائزة التميز لأفضل برلماني عربي من الاتحاد البرلماني العربي.
وفي الختام، برحيل أحمد فتحي سرور، خيّم الحزن على القلوب، وقد غادرنا في ليالي مباركة، فقد فقدنا قامة وطنية كبيرة وعالماً بارزاً في مجالات عدة، ولكن ذكراه ستظل خالدة، محفورة في ذاكرة الأمة العربية والإسلامية، إن رحيله يترك فجوة كبيرة في المشهد السياسي والثقافي، لكننا نأخذ عزاءنا في أن إرثه العظيم الذي سيظل حيّاً وملهماً للأجيال القادمة، كما نتقدم بأحر التعازي لأسرته الكريمة ولمحبيه ومتتبعي أفكاره ومؤلفاته، ونسأل الله أن يتغمده بواسع رحمته ويسكنه فسيح جناته، وأن يلهمنا جميعاً الصبر والسلوان في هذا الوقت العصيب، إنا لله وإنا إليه راجعون.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.