رمضان ميلاد حياة جديدة، وبناء مسيرة متجددة في حياة الإنسان المؤمن، ومع رحيل رمضان تبقى النفوس مشتاقة إليه داعية الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أن يعيد رمضان أعوامًا عديدة وأزمنة مديدة، وأن يكون رمضان هذا العام وغيره مفتاحًا للأمل والعطاء والإنتاجية وحُسن الأداء وسُمو الفعال ونبل الخصال وصدق العمل وأمانة السلوك، ينشر في الوجدان مظلة الراحة والسكون، ويبعث في المزاج فرص التغيير والرقي والاستمتاع بنفحاته وروحانياته، ويهدي الفكر فرصًا أكبر للتأمل في عظيم فضل الله وإحسانه وصنع الله في الكون وكرمه الممتد، وما سخره للإنسان من مواسم الخير التي يعيد فيها إنتاج ذاته وتصحيح ممارساته وتجديد فكره وتصحيح واقعه بروح الصبر والإيمان وقراءة القرآن وذكر الله والبعد عن سفاسف الأمور، وتجلي الخيرية وعظم الثواب والاتقاء بالممارسات وتعظيم الأولويات وتجديد العهد مع الله بالعبادة والشكر والدعاء والفضل، فكان أمنًا وأمانًا وسلامًا واستقرارًا وروحًا وريحانًا.
إنَّ رمضان دروس متعلمة ومواقف ومبادئ واستراتيجيات حياة حملت الخير للإنسان، وأصَّلت فيه قِيَم العطاء والحُب والتعاون والالتزام، ورسمت فيه الفرح والبهجة والسرور بفطره وهو ينتظره برغبة ولقاء الله وهو يستشعر عظمته وكريم فضله وما منحه للصائم من كريم فضل وعظيم أجر، وما أسبغه على حياة الإنسان المسلم من معاني التكريم ومعالم الخيرية وصفاء الروح وصدق السيرة وصفاء السريرة والتنازل عن التعلق في الأنانيات والفوقيات والسلطويات والشهوانيات امتثالا لأمر الله واستشعارًا لمنهج التقوى، وما أسبغه على حياة الإنسان المسلم من خصال الخير ومعالي الأمور والحد من النفرة والاختلاف والخلاف بزيادة أسباب الألفة بين أبناء المجتمع المسلم تحقيقًا للوئام، وتأكيدًا للأجر والمثوبة، فإنَّ هذه الصورة النوعية التي بات يشكِّلها شهر الصوم في حياة الإنسان المسلم تقوم على قاعدة أصيلة من التوازنات في العلاقة بين رمضان وجودة الحياة، والصيام والتغيير في حياة الفرد، لتصبح شعيرة الصوم محطة لالتقاط الأنفاس وإعادة التفكير في صورة الواقع لما بعد رمضان، والتي ستتجه إما بالمحافظة على المكاسب النوعية والشخصية والمؤسسية ورفع مستوى استمرار واستدامة العمل المبرور والسعي المشكور في رسم معالم الجمال الذي انطبع في النفس محياه، والتصق في القلب أثره منذ بداية الشهر طاعةً واحتسابًا لله، ليعطي النفس مدد القوة، ويعزز فيها ضمير المسؤولية، ويمنح الروح دافعية العطاء المتجدد في إخلاصه.
ويبقى رمضان أحد الموجهات التي تعطي للمواقف في حياة المسلم ذكرى، وتمنح النفس على مر الأيام ذاكرة حسنة في جمالها وجلالها وتسامحها وروحها الأبية ورونقها الزاكي الذي يصفو في النفس فتتألق بِشرًا وسلامًا وأمنًا وأمانًا وسكينة وطمأنينة تنعكس على تفاصيل حياة المسلم ودقائقها، فتعكس ممارساته في رمضان وانطباعاته وقراءاته لواقع السلوك وردود الفعل الحاصلة في التعامل مع الأحداث والأزمات، منهج الحكمة والعقل والتفاؤل والهدوء والاتصال بالله، بحيث يجعل في أولوياته تحقيق أعلى درجات السعادة والأمن والطمأنينة والاستقرار لنفسه وأُسرته ومُجتمعه، القائم على استغلال أيام رمضان وأوقاته في الذكر والدعاء والصوم والصدقة والبِر، لتتجلى في النفس عظمة مبادئه وسُمو خصاله وانطلاقة مهامه، بعيدًا عن أي منغصات للنفس أو معكرات للمزاج أو مضيعات سلبية للوقت، أو ملهيات عن الأولويات، وهي محددات تتطلب مستويات من الوعي والشعور بقيمة الصوم والمحافظة على استدامة سلوك التأدب مع الله، من أجل صوم يقبل، ودعاء يستجاب، وعمل يتقبل، وأجر لا ينقطع، يستحضر عمق الإيمان في بلوغ الفردوس الأعلى من الجنان، وعظيم الفضل بتحقق التقوى التي هي أساس الميزان، يحمل عوامل نجاحه للإنسان واستقراره، فتصبح الممارسة المطلوبة متوافقة مع هذه المبادئ، ساعية لتحقيق هذه النهج، واعية بقيمة الصوم عقيدة ومبادئ وقضية وهدف، محافظًا عليها، عارفًا بما عليه من حقوق وواجبات، لديه جاهزية وشغف وقدرة على التعامل مع المواقف، يمتلك حس المعرفة اليقينية والأحكام الشرعية التي تصقل حياة الصائم بردًا وسلامًا، حتى يكون له دليلًا وهاديًا، ومرشدًا وحافظًا له من الوقوع في المحظور، عارفًا بالآداب والمبادئ والأخلاقيات التي عليه أن يرسخها في تعامله مع متطلبات الصيام، ليصبح التزامه منجاة، وقيام ليله وصيام نهاره طريقًا للسعادة، ومدخلًا للتصالح، وبناء علاقات ودٍّ مع الأصدقاء والأهل والأرحام، فيرسخ في نفسه مفهوم الالتزام في تحقيق مقاصد الصوم، ويرقي وازع الضمير، وقيمة الضبط والربط، والاقتصاد في الإنفاق، وسلوك الاتزان في الإجراءات، وحُسن الخُلق، وطيب التعامل وقيمة الاستعداد والجاهزية في نصرة أخيه المسلم والوقوف معه وسد حاجاته، والشعور بالمسؤولية الشخصية نحو ذاته بالمحافظة عليها ونقلها إلى مرحلة البصيرة والحكمة في اتخاذ القرار، والبحث عن أُطر تحقيق السعادة في التزام وتناصح.
لقد علمتنا مدرسة الصوم قيمة الصبر والتحمل والاجتهاد والتفاؤل والعطاء والاعتدال، والتسامي فوق الخلاف وتجاوز الاختلاف المؤدي إلى الضرر، وهي مغذيات غنية لسُمو الروح وحياة الضمير، نحتاج إليها في سبيل تحقيق مقاصد الصيام، نتحمل أخطاء الآخرين، ونجهد أنفسنا في بلوغ أسمى الأهداف وأنبل المقاصد، وأعظم الأمنيات، وأجمل الطموحات، علمتنا مدرسة الصيام قيمة الانتظار والتسامح والحوار والتثاقف والتواصل، وبناء شراكات قائمة على الثقة والتعاون والتكافل، ومزيد من الحب والألفة والود. إنَّ رمضان بكل أجندته ومعطياته، فرصة للمراجعة والتقييم، وإعادة صياغة الواقع الشخصي، ومتطلبات تحقق مؤشرات الفعل الممارس في رمضان كموجهات لجودة الحياة الرمضانية وتحقيق الاستقرار النفسي والسعادة والطمأنينة، فسلوك التعايش في جوانبه الفكرية والنفسية والأخلاقية والاجتماعية والإنسانية ناتج من قبوله الآخر واعترافه بقيمة النقد البناء وتأكيد منطق الحوار وقبول الرأي والرأي الآخر إذ يقابل السيئة بالحسنة، ناهيك عما يؤكده رمضان من قِيَم الاعتدال وحكمة التصرف وإدارة المواقف بكل مهنية، والامتناع عن كل ما يسء للقول ويخرجه عن الاعتدال؛ والتعايش الأخلاقي ناتج من خلال سلوك التواصل الاجتماعي والعلاقات والزيارات وصلة الأرحام ومساعدة المحتاج والصدقة ومواساة الآخرين وتذكر المحرومين والضعفاء مما يقوي من الروابط الأخلاقية، ويعزز من نمو السلوك الاجتماعي القائم على الحُب والتعاون والتكاتف وغيرها، في حين يظهر التعايش النفسي من خلال نواتج السلوك والممارسات التي يقوم بها الفرد في رمضان من ذكر وقراءة القرآن والصلاة وقول الحق والشعور بالرقابة الذاتية وأداء الواجب وتبليغ الأمانة وزيادة روح الاتصال والتواصل، مرتكزات لحياة هانئة وتحقيق السلام الداخلي.
إنَّ ما يحمله شهر رمضان من صحوة الضمير والرقابة الذاتية وصدق الكلمة ودقة الالتزام وثقافة الهدوء وفرص التأمل وتعظيم قيمة الإنتاجية في العمل وإدارة الوقت واستغلاله ونمط التفاعل مع الآخر، ما يعزز من ثقافة الحياة المتجددة بالمؤسسات ومنظومة الجودة في العمل؛ مرتكزات لسلوك مؤسسي ناجح وممارسة وظيفية قادرة على تحقيق الإنجاز ومتفاعلة مع طبيعة الدور الذي ينبغي أن يقوم به الفرد في ظل محددات الوظيفة التي يمارس اختصاصاتها. وبمعنى آخر، أنَّ هذه القِيَم الرمضانية باتت تؤتي ثمارها الإيجابية بطريقة عفوية وبرغبة ذاتية من الفرد كإحدى عاداته اليومية بدون أن يتدخل فيها أي قرار مؤسسي أو نمط معين من الرقابة والمتابعة، فإنَّ قدرة الفرد على بناء عادات يومية إيجابية في سلوكه المهني قائمة على الاختيار الواعي والحرص على تبنِّي منطلقات تجديدية مستمرة سوف تعمل على تجاوز المنغصات ومواجهة ضغوط العمل بأسلوب علمي مدفوع بإطار أخلاقي، مما ينتج عنه تلاشي العديد من الممارسات السلبية والقناعات المرتبطة بالنوازع الذاتية والأمزجة الشخصية والرغبات والأنانيات، حتى بدا واضحًا في ثقافة العمل التركيز على العمل الجاد، والالتزام بوقت الدوام الرسمي وإنجاز المهام بصورة أوَّلية مباشرة، وفرص الممارسة التأملية المدفوعة بالابتكار في الأساليب وتنويع أدوات الإنجاز رغم قصر الوقت، فأوجد هذا التحول في السلوك علاقة تفاعلية بين الموظف ومفهوم الالتزام الوظيفي حتى تعدى مجرد الحضور والانصراف إلى القرب من مهام عمل المؤسسة وطبيعة الدور المرتبط بالمهام الوظيفية، وهو أمر عزز من الاستفادة من الكفاءة المعطلة ذاتيًّا من قبل الفرد في تحقيق إنجاز يتوافق مع طبيعة الدور المأمول ويستثمر في الفرص المتاحة.
أخيرًا، فإنَّ ما تحقق للمنظومات الوطنية والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية وغيرها ومؤسسات الدولة من فرص ونجاحات، وما حققته من مكتسبات، وأصَّلته من عادات وظيفية، وقواعد مبتكرة وخيارات بديلة ومنصات متجددة في بناء السلوك المهني الذي يحافظ على درجة الالتزام والمعنية وسقف التوقعات عالية لدى الموظف والفرد والمجتمع. وعلى سبيل المثال، فإنَّ متابعة لجهود مؤسسات الإعلام وما أوجدته من برامج، وفرص في الدورة البرامجية الرمضانية والابتكارية والتنوع في توظيف روحانيات هذا الشهر إعلاميًّا وتوسيع دائرة الاستفادة من الفرص الإعلامية في تقديم منتج إعلامي يتناغم مع خصوصية الصوم ويتوافق مع طموحات المجتمع ويُلبِّي تطلعات الأفراد في إعلام متجدد يمتلك فرص التغيير والتأثير ويحافظ على القِيَم والهُوية والخصوصية الوطنية، ويعزز من فرص توظيف القدرات وإعادة إنتاج الفرص، وبالتالي جماليات الصورة المشرفة التي رسمها التفاعل الإعلامي في تجسيد روحانيات هذا الشهر، الأمر الذي قدم خلاله الإعلام الوطني الحكومي الرسمي والخاص منه وتوظيف الإعلام الرقمي، ليقدم الإعلام صورة استثنائية في برامجه ودوراته البرامجية المتنوعة ما لم يقدمه في بقية العام، أو كذلك ما اتخذته وزارة العمل من قرارات في سبيل تعزيز أنظمة العمل وتنظيم أوقاته من خلال التوسيع في تطبيق العمل المرن والعمل عن بُعد، يؤكد الحاجة إلى أن تقف أجهزة الدولة جميعها كل في مجال اختصاصاته على هذه المحطات بروح متأنية وأدوات متناغمة تجسد الصورة الإيجابية التي عملت على تحقيقها. إنها دعوة إلى أن يكون رمضان محطة تحول في مسيرة البناء والتطوير وإدارة التغيير وتعظيم وإنتاج المكاسب المتحققة منه في الحياة والعمل.
د.رجب بن علي العويسي