ينطلق طرحنا للتساؤلِ من فرضية ما إذا كانت لا مركزية الخدمات قد تسببت في تراجع نشاط الحركة الاقتصادية في مراكز المحافظات، وطبيعة الدَّوْر الاستثنائي للمحافِظِين في إعادة الهيبة للمراكزِ الإدارية للمحافظاتِ كواجهة اقتصادية ومحطَّة جذب استثماري، حيث تشهد الخدمات التنموية الحكومية والخاصة تطوُّرًا سريعًا وانتشارًا واسعًا في مختلف ولايات سلطنة عُمان في ظلِّ تنامي عدد السكَّان، وشكَّل وجود الخدمات الحكومية واتساع نطاقها في كُلِّ الولايات محطَّة تحوُّل نوعية أسهمت في تعزيز مفهوم أعمقَ للخدمةِ المتكاملة، في كونها إطارًا وطنيًّا لتعزيزِ المواطنة العُمانية والانتماء الوطني، وترسيخ مفهوم القيمة المُضافة في الخدمة الحكومية، سواء من خلال بُعدها الزمني أو المكاني أو المجالي أو النَّفْسي أو الاقتصادي، أو قدرتها على توفير الوقت والجهد والمال، والتقليل من الازدحام والكثافة في مراكز المُدُن، وما يحصل أيضًا من قضاء المواطن للمسافاتِ الطويلة في سبيل الحصول على هذه الخدمات، حيث شهدت الخدمات الحكومية انتشارًا واسعًا وحضورًا نوعيًّا في مختلف الولايات، سواء ما يتعلَّق منها بالخدمات الشُّرطية بمختلف أنواعها ومستوياتها، والخدمات البلدية، والخدمات الإسكانية، وخدمات المنافع الاجتماعية، والخدمات المتعلقة بالكهرباء والمياه والصرف الصحي، والخدمات الصحية المتعلقة بتوطين المستشفيات المرجعية بالمحافظات، والخدمات المتعلقة بالتراخيص التجارية والسياحية، والادعاء العامِّ والمحاكم، وغيرها من الخدمات التي اقتربت من المواطن، ووصلت إليه حيث ولايته التي يستقر فيها، ما قلَّلت من استنزاف وقته وجهده في الوصول إليها.
ومع ذلك فإنَّ الكثير من هذه الخدمات باتَ يمارسها أو يحصل عليها المواطن وهو في بيته ومكانه في ظلِّ استخدام التقنيات الحديثة والتطبيقات الخدمية للمؤسَّسات والأنظمة الإلكترونية، حيث اختصرت هذه الأنظمة والبرامج الوقت والجهد والتكاليف وفي الوقت نفسه عزَّزت من فرص التنافسية في الخدمات المقدَّمة، وأصَّلت مفهومًا أعمقَ للامركزيةِ القائمة على تعزيزِ مسار الحوكمة في الخدمات، سواء في سرعة الوصول إليها، أو تكاملها، أو دقَّتها وكفاءتها وجودتها وإنتاجيتها وتغطيتها لكُلِّ شرائح المُجتمع، هذا الأمر لم يقتصر على الخدمات المؤسَّسية الحكومية والخاصة فحسب، بل شمل أيضًا اتساع انتشار مراكز التسوُّق والمولات التجارية والتنوُّع في الأنشطة والعلامات التجارية العالمية في كُلِّ الولايات، والتي تتوافر فيها كُلُّ المستلزمات والبضائع والمنتجات والاحتياجات الاستهلاكية للفرد والأُسرة في ظلِّ تعدُّد الخيارات وتنوُّع المعروض منها بأسعار تنافسية، ناهيك عمَّا تقدِّمه هذه المراكز والمولات من فرص للعروضِ الترويجية والتخفيضات في المواسم والمناسبات، لم يقتصر مسار اللامركزية عند هذا الحدِّ، بل إنَّ المناطق الصناعية في كُلِّ الولايات تشهد اليوم اتساعًا وانتشارًا كبيرًا، سواء في تنوُّع مجالاتها أو في تنظيمها وعمليات التطوير والتحديث التي تشهدها، والتي تنافس فيها بعض الولايات مراكز المحافظة.
لقد أسْهمَ هذا التحوُّل نحو تعزيز مفهوم اللامركزية في الخدمات الحكومية واتساع انتشارها في الولايات، في تعزيز مفهوم الاستقرار الاجتماعي، وتعظيم أهمِّيته في قناعات وثقة المواطنين من سكَّان الولايات، وأعطت الولايات ميزة تنافسية جعلت منها، وفرة هذه الخدمات محطَّة اهتمام من أبناء الولاية ذاتها في تعزيز الحركة الاقتصادية لولايتهم، وتعظيم فرص الاستفادة من كُلِّ الفرص الاقتصادية والاستثمارية والسياحية في الولاية؛ والبحث عن خيارات أوسع وآليات تنموية أنضج في معالجة الفراغ الذي يتركه لا مركزية الخدمات الحكومية ومسار التوسُّع لها في ولايات كُلِّ محافظة وانعكاساته على ضآلة الاحتياج اليومي لمركزِ المحافظة، والانتقال اليومي للمواطنين للحصولِ على هذه الخدمات من مراكز المحافظات إلَّا في حدود ضيقة جدًّا. نظرًا لتوافر هذه الخدمات في كُلِّ مكان، بالكفاءة والجودة نَفْسها، وبالتالي ما إذا كان لهذا الأمر انعكاسات سلبية على نشاط الحركة الاقتصادية والتجارية وحركة الأسواق التقليدية التي كانت تنتشر بشكلٍ أكبر في مراكز المحافظات؛ باعتبارها مركز جذب تجاري واقتصادي، وتشهد اليوم تراجعًا كبيرًا في أدائها، حتى أنَّ الكثير من الأسواق التقليدية الأسبوعية التي كانت تعجُّ بالحركة الاقتصادية لا يوجد بها إلَّا العدد القليل من الباعة والمتسوِّقين وغيرهم؛ ما يطرح اليوم على مراكز المحافظات مسؤولية التفكير الجادِّ واستشراف مستقبل هذه المراكز وتبنِّي مسارات أكثر وضوحًا ومهنية ومنهجية وسياسات تنموية أكثر نضجًا تُعيد خلالها إنتاج ذاتها وتطوير سياساتها والتفكير خارج الصندوق بطريقة أكثر احترافية، وعَبْرَ استقطاب الكفاءات والقدرات والاستثمارات المتاحة في عموم المحافظة وتقديم الامتيازات لها في تحقيق منجز نوعي أو مشروع حضاري يعزِّز من مكانتها كمركز رئيس للمحافظة.
ومع هذه الفرص المتحققة إلَّا أنَّ ما طرحه تساؤلنا يضعنا أمام قراءة أخرى لحجمِ التداعيات الناتجة عن هذا الأمر ـ ولو في حدود ضيقة ـ خصوصًا على نشاط الحركة الاقتصادية في مراكز المحافظات، ولعلَّ المتابع لحال مراكز المحافظات في وقت ذروة التسوُّق الصباحية والمسائية، يجد أنَّها لم تكُنْ بذات المستوى الذي كانت عليه من الحركة النشطة التي كانت قَبل عشر سنوات مضت، عندما كانت كُلُّ الخدمات الحكومية موجودة في مركز المحافظة، ولعلَّ هذا القياس قد يختلف من مركز محافظة إلى مركز محافظة أخرى بحسب الكثافة السكَّانية في الولايات، وطبيعة الأنشطة التجارية والاقتصادية وحجم وكثافة المنشآت الاقتصادية والمشاريع الاستثمارية فيها، الأمر الذي سيكُونُ له أثَره في استخدام المَرافق المتاحة أو الاستفادة من الخدمات.
من هنا يأتي التساؤل المطروح: كيف يُمكِن لمراكزِ المحافظات أن تحافظَ على مركزها الإداري كواجهة اقتصادية للمحافظةِ ومحطَّة جذب استثماري تعزِّز من قوَّتها الاقتصادية والاستثمارية؟ هذا التساؤل يعود بنا إلى التأكيد على أهمِّية إعادة قراءة مسار عمل مراكز المحافظات في تحقيق مفهوم اللامركزية والتحوُّلات الشاملة منطلِقة في ذلك من التوجُّهات التي رسَمَتها الاستراتيجية العمرانية لسلطنة عُمان، ومفهوم مراكز المُدًن «المدينة تاون»، في البحث عن فرص جذب اقتصادي واستثماري وسياحي، تضْمَن نموًّا واسعًا مستدامًا لنشاطِ الحركة الاقتصادية لها، سواء من الولايات المجاورة أو ولايات المحافظة ذاتها، الأمر الذي يؤكد على أهمِّية البحث عن استراتيجيات عمل قادرة على توجيه الاهتمام لهذه المراكز بالشكل الذي يرفع من مستوى التطوُّر والتقدُّم والاحترافية في المشروعات المنجزة في مراكز المحافظات، وأن تتبنَّى مراكز المحافظات الإدارية مسارًا عمليًّا مؤطرًا في الابتكارية والمنافسة، سواء في حجم ونوعية الخدمات الحكومية والخاصة والاستثمارات وطريقة تنفيذها وإيجاد بيئات عالمية جاذبة قادرة على توجيه الاهتمام المُجتمعي لها مستفيدة من وجود المؤسَّسات التعليمية الكبرى فيها كالجامعات والكليَّات في خلق ميزة تنافسية تتفوق بها على مختلف ولايات المحافظة، الأمر الذي يتطلب رفع سقف الخدمات المنفَّذة فيها بحيث تكُونُ خدمات استثنائية غير موجودة في ولايات المحافظة، أو أن تكُونَ الخدمات السياحية والبيئات الاستثمارية المقدَّمة في مركز المحافظة تمتلك موجِّهات ووسائل وأدوات تتميز بها عن الولايات الأخرى في المحافظة، وهو أمر يجِبُ أن يطرحَ اليوم على المحافِظِين مسؤولية الانطلاقة الجادَّة من برنامج المحافظات، وحجم المخصَّصات المالية للمحافظة، في رسم صورة أخرى يُعيد القوَّة والهيبة الإدارية والاقتصادية لمراكزِ المحافظات، فمسألة تنفيذ المشروعات الخدمية في المحافظات يجِبُ أن لا يكُونَ بالوتيرة والآليَّة نَفْسها، إذا ما سلَّمنا بأنَّ الكثير من مراكز المُدُن قد لا تتوافر بها الخصائص والسِّمات والفرص التي قد تتوافر في ولايات أخرى من المحافظة، لذلك يجِبُ أن يراعيَ نظام المحافظات هذا الجانب وتعكس تصرفات مراكز المحافظات جوانب نوعية أكثر ابتكارية وإنتاجية وقدرة على صناعة الفارق؟ فهل ستراعي عملية تنفيذ اللامركزية والحوكمة هذا البُعد الاستراتيجي بحيث يتمُّ توظيف التوجُّه الوطني بتطوير مراكز المُدُن الكبيرة أو مراكز المحافظات نحو تحقيق عوائد اقتصادية ومالية واستثمارية تُعيد مكانة هذه المراكز كعواصم إدارية باعتبارها عواصم اقتصادية ووجهة جذب سياحية للمحافظات، أم سيستمر التراجع الكبير الذي تشهده بعض مراكز المُدُن والمحافظات، بينما تشهد بعض ولاياتها فرص تطوُّر ونشاط اقتصادي واستثماري وسياحي أكبر وأوسع وأكثر استدامة وقوَّة؟
د.رجب بن علي العويسي