تُعتبر قضايا إسقاط الدين للمدينين المعسرين وتحميله من زكاة الدائن من المسائل القانونية والشرعية التي تثير الكثير من الجدل والتحقيق، ونتناول في هذا المقال التحليل القانوني والشرعي هذه المسألة، من خلال استعراض وجهات النظر المتعددة المتعلقة بها.
ففي الأساس، يتفق الفقهاء والقانونيون على أن الإسقاط يمكن أن يكون إجراءً مناسباً في حالة عدم قدرة المدين المعسر على سداد دينه، مع الأخذ في الاعتبار المصلحة العامة والمبادئ الأخلاقية، ويرى البعض أن هذا الإجراء يعكس مبدأ العدالة الاجتماعية والتضامن الاقتصادي، حيث يهدف إلى تخفيف العبء المالي عن الأفراد الذين يعانون من الفقر والمعسرة، لكن ومع ذلك، تظل هناك وجهات نظر تعارض هذا الرأي، حيث يرى بعض الفقهاء والمفتون أن إسقاط الدين يمكن أن يتعارض مع حقوق الدائن والعقود المبرمة بين الطرفين، وقد يؤدي إلى تشجيع المدينين على تجاهل التزاماتهم المالية.
وفي هذا الصدد، يتمحور النقاش القانوني والشرعي حول ما إذا كان يجوز قانوناً وشرعاً إسقاط الدين للمعسرين واحتسابه من زكاة الدائن، وما هي الشروط والضوابط التي يجب أن تتوافر لتطبيق هذا الإجراء بشكل صحيح وعادل؟
من هنا، تعد مسألة إسقاط الدائن لدينه لدى الفقير المعسر العاجز عن السداد واحتسابه من الزكاة موضوعاً يثير اهتماماً كبيراً في السياق القانوني والشرعي، فقد توجهت آراء متعددة نحو هذا الأمر، حيث يرى البعض أنه لا يجوز إسقاط الدين من الفقير المدين، مبررين ذلك بأن الدائن يسعى لمصلحته الشخصية بالاحتفاظ بحقوقه المالية وتسديد دينه، في حين ينظر إلى الزكاة على أنها مأخوذة ومعطاة، وبالتالي لا يمكن تطبيقها على الدين الذي تم إسقاطه.
ومع ذلك، تظهر وجهات نظر أخرى تبرز الجوانب الإنسانية ومسألة المسامحة في الفقه الإسلامي، حيث يؤكد بعض الفقهاء على جواز إسقاط الدين للفقير المدين الذي لا يستطيع سداده، وذلك بناءً على مبدأ الرفق بالمعسر وتخفيف العبء عنه، مع الحفاظ على الأصول الشرعية للزكاة، إذ يؤمن هؤلاء بأن الإسقاط يمكن أن يعد تنفيذاً لمبدأ التضامن الاجتماعي والتوازن بين حقوق الدائن ومصلحة المدين المعسر.
لذا، يتضح أن هذه المسألة ليست خالية من التعقيدات والتباينات في التفسير القانوني والشرعي، إنما تتطلب دراسة مستفيضة للنصوص القانونية والفقهية المتعلقة بهذا الشأن، بالإضافة إلى النظر في السياق الاجتماعي والاقتصادي لكل حالة على حدة، للتوصل إلى تفسير شامل ومتوازن يحفظ مصالح الجميع ويتوافق مع القيم الأخلاقية والشرعية.
وتنويهاً لأطروحات متعددة في الفقه الإسلامي، فإن بعض الفقهاء، منهم الشافعية وأشهب من المالكية وابن حزم، والذي يُنسب إليه القول عن الحسن البصري وعطاء، قد اعتمدوا على جواز إسقاط الدين عن المعسر واحتسابه من الزكاة، وفي سياق معاصر، رجحت دار الإفتاء المصرية هذا الرأي، بجانب مجموعة من العلماء البارزين مثل مصطفى الزرقاء، والشيخ يوسف القرضاوي، وعلي جمعة.
وينظر الراجحون إلى جواز إسقاط الدين عن المدين الفقير المعسر واحتسابه من زكاة الدائن، بشرط أن يكون المدين قادراً على سداد جزء من الدين وليس جاحداً له بالكامل، بالتالي، يُفسر هذا الرأي على أنه أقرب إلى الروح الشرعية ومقاصد الشريعة الإسلامية، حيث يهدف إلى تحقيق الحكمة من الزكاة وتوجيهها للفقراء والمعسرين والمدينين، لمساعدتهم على تخفيف الحاجة ورفع الضغوط المالية عنهم.
ومن الجدير بالذكر أن الفقير المعسر الذي يجد نفسه غير قادر على سداد دينه يُعتبر جزءاً من فئات المستحقين للزكاة، بجانب الفقراء والمساكين والمدينين، وبهذا، يُظهر الفهم القانوني والشرعي لهذه المسألة دور الزكاة في دعم وتمكين الفئات المحتاجة وتخفيف العبء المالي عنهم، مما يعكس الرؤية الإنسانية والتضامنية التي تُشجع عليها الشريعة الإسلامية.
كما يجب الانتباه إلى أن الخيار الأول والأمثل بالنسبة للدائن هو النظر في إعفاء المدين المعسر الذي غير قادر على سداد دينه، بوجه الله تبارك وتعالى.
وفي مجتمعاتنا الحديثة، تعد مسألة إسقاط الديون للمدين المعسر واحتسابها من زكاة الدائن واحدة من أكثر المسائل التي تستدعي اهتمام القانونيين والمجتمع بشكل عام، فهي ليست مجرد قضية شخصية بين الدائن والمدين، بل تمتد لتشمل جوانب اقتصادية، واجتماعية، وأخلاقية تتعلق بالعدالة وتحقيق المصلحة العامة، كما يعتبر القانونيون في هذا السياق أساسيين في التصدي لتلك المشكلة، حيث يقع على عاتقهم تطبيق القوانين والأنظمة المعمول بها وتحليلها بما يضمن حماية حقوق الأفراد وتوفير العدالة الاجتماعية. ولهم دور حيوي في تطوير السياسات القانونية التي تعالج هذه المسألة بشكل شامل ومتوازن، مع مراعاة الظروف والأوضاع الفريدة لكل حالة.
وبالتوازي مع ذلك، يمكن للقانونيين أن يسهموا في توظيف هذه المسألة المهمة من خلال العمل على نشر الوعي والتثقيف حول حقوق الأفراد والتزاماتهم المالية، وتعزيز الثقافة المالية الصحيحة في المجتمع، كما يمكنهم المشاركة في إيجاد حلول إبداعية ومبتكرة لتسهيل عمليات السداد وتقليل الديون المتراكمة، وبالتالي تعزيز الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي في المجتمعات.
وبالنسبة لدور الحكومات في تأمين شعوبها ومنع تفاقم الأزمات المالية والديون يعتبر أمراً حيوياً لاستقرار المجتمعات وتحقيق التنمية المستدامة، حيث تتضمن مسؤوليات الحكومات في هذا السياق العديد من الإجراءات والسياسات التي يمكنها اتخاذها:
وضع التشريعات والأنظمة: على الحكومات أن تقوم بوضع التشريعات والقوانين التي تنظم العلاقات المالية بين الأفراد والمؤسسات، وتحدد حقوق الدائنين والمدينين، وتضع آليات لحل النزاعات المالية بطرق عادلة وفعالة.
تعزيز التثقيف المالي: على الحكومات أن تقوم بتعزيز التثقيف المالي بين المواطنين، من خلال توفير برامج توعية وتدريب حول إدارة المال والتخطيط المالي الشخصي، وذلك لتعزيز الوعي المالي والحد من الديون غير المستدامة.
دعم الفئات الضعيفة والمعسرين: على الحكومات أن تقوم بتقديم الدعم والمساعدة للفئات الاقتصادية الضعيفة والمعسرين، من خلال برامج الرعاية الاجتماعية والمساعدات المالية، وتوفير الفرص الاقتصادية للتحسين الاجتماعي والاقتصادي لهؤلاء.
تشجيع النمو الاقتصادي المستدام: على الحكومات أن تقوم بتشجيع بيئة الأعمال المناسبة وتعزيز النمو الاقتصادي المستدام، من خلال استثمارات في البنية التحتية، وتوفير الدعم للقطاعات الاقتصادية الناشئة والمبادرات الريادية.
مراقبة النظام المالي: على الحكومات أن تقوم بمراقبة النظام المالي وتنظيمه، لضمان استقراره وتفادي الأزمات المالية، من خلال تطبيق سياسات رقابية وإصلاحية تهدف إلى تعزيز الشفافية والمساءلة.
بالتالي، ومن خلال تبني هذه الإجراءات والسياسات، يمكن للحكومات تعزيز الاستقرار المالي والاقتصادي لشعوبها، والحد من احتمالية تعرضهم لأزمات الديون والمشاكل المالية غير المستدامة.
من هنا، يتضح أن مسألة إسقاط الدين للمدين المعسر واحتسابه من زكاة الدائن تشكل تحدياً قانونياً وشرعياً يستدعي التأمل والتفكير العميق، فعلى الرغم من وجود أراء متباينة في هذا الصدد، إلا أن الهدف الأسمى هو تحقيق المصالح العامة والعدالة الاجتماعية، كما تتطلب هذه المسألة المزيد من البحث والدراسة لتحديد الضوابط والمعايير التي يجب أخذها بعين الاعتبار عند النظر في حالات إسقاط الدين وتحميله من زكاة الدائن، بالإضافة إلى ذلك، ينبغي التركيز على إيجاد التوازن المناسب بين حقوق الدائن والمدين والمصلحة العامة، مع مراعاة القيم الأخلاقية والشرعية التي تنطوي عليها هذه المسألة.
وبناءً على ذلك، يتعين على القوانين والأنظمة القانونية الناظمة لهذه القضية أن تكون شاملة ومتوازنة، تحقق العدالة وتحمي حقوق جميع الأطراف المعنية، حيث أن تطبيق القانون والشريعة الإسلامية بحكمة وعدالة يسهم في بناء مجتمع أكثر استقرارًا وتنميةً مستدامة، وهو مبدأ يجب أن يكون عنصراً أساسياً في تشكيل السياسات واتخاذ القرارات القانونية المتعلقة بهذه القضية المعقدة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / كاتب ومفكر – الكويت.