إن القرآن الكريم هو كتاب الله المعجز، المنزَّل على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وهو كلام الله تبارك وتعالى الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو النور الهادي، والشريعة الباقية، والحكمة الدائمة.
إن كلمات الله عزّ وجلّ التي تحمل في طياتها هداية للبشرية، شفاءً للصدور، ورشاداً للعقول، واستقامةً للنفوس، آياته بيّنات تتلى، وحقائقه نيرات تُضيء الدروب لكل من ألقى السمع وهو شهيد، والمؤمن الحق هو الذي يُنصت لهذا الكلام المقدس، يتدبر معانيه، ويعمل بمقتضاه، فيجد فيه زاداً للروح، ونوراً للقلب، وعلماً للحق، إنه منهج حياة شامل، يوجهنا في كل جوانب حياتنا، ويدعونا إلى التمسك بالقيم العليا والفضائل الرفيعة، فالقرآن الكريم هو المرشد الأمين الذي لا يضل من تمسك به، وهو الصراط المستقيم الذي لا يزيغ من سار عليه.
وفي كل حرف من حروفه إعجاز، وفي كل آية من آياته حكمة، وفي كل سورة من سوره هداية ورشاد، لن تجد طريقاً إلى الحق أوضح من طريقه، ولا نهجاً إلى الخير أصفى من نهجه، فطوبى لمن جعله نبراس حياته، واتخذه دستوراً ومنهجاً، فهو في الدنيا في سعادة وطمأنينة، وفي الآخرة في نعيم مقيم.
وفي بداية تفسير سورة النمل، قال تبارك وتعالى في كتابه الكريم: “طس تلك آيات القرآن وكتاب مبين هدىً وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون إن الذين لا يؤمنون بالآخرة زيّنا لهم أعمالهم فهم يعمهون أولئك الذين لهم سوء العذاب وهم في الآخرة هم الأخسرون وإنك لتُلقّى القرآن من لدن حكيم عليم”.
تلك آيات القرآن، وكتاب بيّن وواضح، إن القرآن هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم يؤمنون بالآخرة بكل يقين، أما الذين لا يؤمنون بالآخرة فقد زيّنا لهم أعمالهم فهم يتخبطون في ضلالهم، هؤلاء لهم سوء العذاب في الدنيا، وفي الآخرة هم الأكثر خسارة، وأنت، يا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، تتلقى القرآن من عند الله الحكيم العليم، الذي أحكم شرائعه وأوامره، ويعلم كل شيء بدقة وإحاطة.
من هنا، يتناول التفسير الحروف المقطعة في بداية السورة، مؤكداً أن هذه الآيات من القرآن هي هدى وبشرى للمؤمنين الذين يتبعون تعاليمه ويؤمنون بالآخرة، كما يوضح الله تعالى أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قد زُيّنت لهم أعمالهم، مما جعلهم يتخبطون في ضلالهم، وجزاؤهم هو سوء العذاب في الدنيا، وخسارة عظيمة في الآخرة، ويختم بأن النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم يتلقى القرآن من عند الله الحكيم العليم، الذي أحكم شرائعه ويعلم كل شيء، وفي لمسة قرآنية نرى أن الله عز وجل يبدأ السورة بتوضيح أهمية هذه الآيات كجزء من الكتاب المبين، ويبين صفات المؤمنين الذين يستفيدون من هداية القرآن، كما يوضح الله تبارك وتعالى مصير من يكذب بالآخرة ويستمر في ضلاله، ثم يؤكد على مصدر القرآن الكريم ككتاب من عند الله الحكيم العليم.
أما العلماء والمفسرون، فقد تناولوا الآيات الأولى من سورة النمل بكثير من الشرح والتفسير، مؤكدين على القوة والإعجاز الذي تحمله هذه الآيات، ومن بعض ما قاله علماء الدين عن هذه الآيات:
تفسير ابن كثير: ابن كثير أشار إلى أن الحروف المقطعة مثل “طس” في بداية السورة هي إشارة إلى إعجاز القرآن وأن هذه الحروف نفسها التي يستخدمها العرب في كلامهم، لكنها في القرآن تأتي ببيان معجز لا يستطيعون مجاراته، كما أكد أن هذه الآيات تُظهر بوضوح أن القرآن هدى وبشرى للمؤمنين الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة .
تفسير القرطبي: القرطبي في تفسيره أكد على أن القرآن هو كتاب هداية وشفاء للمؤمنين، وأن الآيات تُبرز أهمية الإيمان والعمل الصالح، وذكر أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قد زُيّنت لهم أعمالهم، مما يؤدي إلى ضلالهم وتيههم، وهذا جزء من الحكمة الإلهية في إضلال من يرفض الحق .
تفسير الطبري: الطبري أشار إلى أن هذه الآيات تبين بجلاء الفرق بين المؤمنين والكافرين، حيث يوضح الله أن القرآن هو هدى وبشرى للمؤمنين فقط، بينما الكافرون تتزين لهم أعمالهم فيضلون، وأكد أن هذا التزيين هو نوع من العقوبة الإلهية على كفرهم وإنكارهم للآخرة .
تفسير السعدي: السعدي في تفسيره ذكر أن بداية سورة النمل تبيّن أن القرآن هو كتاب بيّن في أحكامه وأخباره، وأنه هدى وبشرى للمؤمنين الذين يعملون بما فيه من شرائع وأحكام، وبيّن أن الكافرين بالآخرة يتيهون في ضلالهم بسبب تزيين الله لأعمالهم السيئة، وهذا تذكير بعدل الله وحكمته في التعامل مع عباده.
تفسير البغوي: البغوي أكد أن هذه الآيات تُظهر عظمة القرآن في بيانه وإعجازه، وأنه كتاب واضح لمن أراد الهداية، كما بيّن أن الذين لا يؤمنون بالآخرة قد زُيّنت لهم أعمالهم، مما يجعلهم يتخبطون في ضلالهم وهذا جزء من العذاب الذي ينالونه بسبب كفرهم .
بالتالي، إن النقاط الأساسية التي أكد عليها العلماء:
- إعجاز القرآن: الحروف المقطعة تشير إلى عظمة وإعجاز القرآن الكريم؛
- الهداية والبشرى: القرآن هو هدى وبشرى للمؤمنين الذين يؤمنون ويعملون بما فيه؛
- الفرق بين المؤمنين والكافرين: المؤمنون ينتفعون بالقرآن بينما الكافرون تتزين لهم أعمالهم فيضلون؛
- العدل الإلهي: تزيين الأعمال السيئة للكافرين هو نوع من العقوبة العادلة على كفرهم.
هذه الآيات تحمل رسائل قوية تبرز الحكمة الإلهية في الهداية والضلال، وتؤكد على إعجاز القرآن ككتاب من عند الله الحكيم العليم.
أيضاً، في الآيات الأولى من سورة النمل تتجلى العديد من المحسنات اللغوية والبلاغية والبديعية التي تُبرز قوة القرآن الكريم وتُعمِّق رسائله السماوية.
الحروف المقطعة: “طس” هي من الحروف المقطعة التي تفتتح بها بعض السور، ويُعتقد أنها تشير إلى إعجاز القرآن الكريم وتركيبه اللفظي المتميز، وتلفت انتباه القارئ إلى أن هذا الكتاب المكوّن من نفس الحروف التي يتكلم بها العرب هو معجز في بيانه وبلاغته.
الإشارة والتأكيد: “تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ” تستخدم الإشارة بـ “تلك” للإشارة إلى عظمة وسمو الآيات القرآنية، مع التأكيد على وضوحها وجلاء معانيها، مما يُبرز قوة البيان القرآني.
التضاد: “هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ” مقابل “إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالاَخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ” يظهر التضاد بين هداية المؤمنين وتيه الكافرين، مما يُعزز الفهم العميق لنتائج الإيمان والكفر.
الجناس: “أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ” و”هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ” هنا جناس ناقص بين “سوء” و”أخسرون” يعزز المعنى ويقوي الأثر النفسي على القارئ.
الاستعارة: “زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ” يستعمل التزيين كاستعارة لتوضيح كيف يرون أعمالهم، وهي في الحقيقة سيئة، في صورة حسنة، مما يُبرز مدى ضلالهم.
التكرار: “هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ” التكرار في “هُمْ” يبرز ويؤكد خسارتهم الفادحة في الآخرة.
الإيقاع الصوتي: استخدام الكلمات المتناغمة والإيقاع الصوتي في النص مثل “هُدًى وَبُشْرَى” و”يُقِيمُونَ” و”يُؤْتُونَ” و”يُوقِنُونَ” يُضفي موسيقية خاصة تجذب السامع وتؤثر فيه.
قوة القرآن الكريم والرسائل السماوية: الآيات تُظهر بجلاء أن القرآن ليس كتاباً عادياً، بل هو كتاب هداية وإرشاد يحمل في طياته بشرى للمؤمنين وهداية للناس كافة. تُظهر الآيات أن المؤمنين الذين يُقيمون الصلاة ويُؤتون الزكاة ويوقنون بالآخرة، هم المستفيدون الحقيقيون من هداية القرآن، مما يعكس دور القرآن في تقويم السلوك البشري وتوجيهه نحو الصراط المستقيم.
في المقابل، تكشف الآيات عن مصير الذين لا يؤمنون بالآخرة، وكيف أن الله زيّن لهم أعمالهم السيئة فأصبحوا يتخبطون في ضلالهم، مما يبرز عدل الله في معاملة الناس بناءً على إيمانهم وأعمالهم، وتختتم الآيات بتأكيد أن القرآن الذي يتلقاه النبي محمد صلى الله عليه وسلم هو من عند الله الحكيم العليم، مما يضيف للقرآن صفة الإعجاز والحكمة والعلم الشامل، وهو ما يجعل هذا الكتاب فريداً ومتفرداً في هدايته وتعاليمه.
بالإضافة إلى ذلك، في الآيات الأولى من سورة النمل تتجلى العديد من مظاهر الحكمة الإلهية التي يمكن استنباطها، وهي كالتالي:
إظهار حقيقة الإيمان وأثره: في قوله تعالى: “تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُّبِينٍ * هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ”، تتجلى الحكمة في أن القرآن هو مصدر الهداية والبشرى فقط للمؤمنين الذين يلتزمون بتعاليمه، ويعملون بما فيه من أوامر ونواهي، مما يدل على أن الإيمان هو المفتاح للاستفادة من القرآن.
ربط العمل بالإيمان: “الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ” توضح الآيات أن الإيمان ليس مجرد تصديق بالقلب، بل هو مرتبط بأعمال ظاهرة كإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، بالإضافة إلى اليقين بالآخرة، هذه الأعمال هي تعبيرات عن الإيمان العميق، مما يظهر أن الإيمان والعمل الصالح لا ينفصلان.
العدل الإلهي في المكافأة والعقاب: “إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ” تشير إلى الحكمة الإلهية في تزيين الأعمال السيئة لغير المؤمنين بالآخرة، بحيث يتيهون في ضلالهم، مما يعد جزاءً عادلاً على تكذيبهم بالآخرة وإنكارهم لها، هذا يظهر عدل الله في معاملة الناس بحسب مواقفهم وأفعالهم.
التذكير بمصير الآخرة: “أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الأخْسَرُونَ” تؤكد الآيات أن هناك حسابًا في الآخرة، وأن الذين يكذبون بالآخرة لهم سوء العذاب في الدنيا وخسارة فادحة في الآخرة، مما يبرز الحكمة في تحذير الناس وتوجيههم نحو التفكير في المصير الأخروي والاستعداد له.
بيان مصدر القرآن: “وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ” توضح أن القرآن نزل من عند الله الحكيم العليم، مما يدل على أن كل ما في القرآن هو عن علم وحكمة تامة، وأنه مصدر موثوق للهداية والتوجيه. هذا يضفي على القرآن صفة الإعجاز والحكمة، ويعزز الإيمان بأنه كتاب من عند الله لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.
باختصار، تتجلى الحكمة الإلهية في هذه الآيات من خلال بيان أهمية الإيمان والعمل الصالح، والتحذير من عواقب الكفر والضلال، وتأكيد عدل الله في المكافأة والعقاب، بالإضافة إلى إظهار مصدر القرآن الكريم ككتاب حكيم وعليم.
وفي الختام، ندرك بعمق أن هذا الكتاب العظيم هو أعظم نعمة من الله تبارك تعالى على عباده، إنه المصدر الأسمى للهداية، والمرشد الأوفى في كل مناحي الحياة، والشفاء الكامل للقلوب والأرواح، والمؤمن الحق هو من يجعل القرآن رفيقه الدائم، يتعلم منه ويعمل به، ويتدبر آياته ليل نهار. هو من يجد في كل حرف منه نوراً، وفي كل كلمة منه رحمة، وفي كل آية منه حكمة، وبقراءة القرآن وفهمه وتطبيقه، يرتقي الإنسان في مدارج الكمال، ويعيش في ظل رضا الرحمن، وينال في الآخرة النعيم المقيم. فطوبى لمن أخذ بالقرآن منهجاً، واستمسك بحبله المتين، فهو في الدنيا في أمان وفي الآخرة في فوز عظيم، اللهم اجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا، وارزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار على الوجه الذي يرضيك عنا، يا أرحم الراحمين.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.