هدّدَ الرئيس بوتين الغرب بتسليح دول معادية له ، ( وأقصد للغرب ) ، جاء ذلك على لسانه ،و بصراحة يوم 2024/6/5 , خلال لقاءه مندوبي وكالات انباء اجنبية ، وقال ” إذا كان احد يعتقد انه يمكن تقديم اسلحة في منطقة المعارك لضرب اراضينا …لماذا لايكون لنا الحق في ارسال أسلحتنا من الطراز نفسه إلى مناطق في العالم توجه فيها ضربات إلى منشئات حساسة تابعة للدول التي تتحرك ضّدَ روسيا ” ؟.
التهديد الروسي لدول حلف الناتو ولامريكا بسبب دعمهم اللامحدود بالسلاح والمال لأوكرانيا ، ليس بجديد ، ولكن تصاعدَ في حدته وتنوّع في خيارات تنفيذه ،بعدما رفعت امريكا منع استخدام سلاحها ،من قبل الجيش الأوكراني، لضرب اهداف داخل الأراضي الروسية ، ومن بين خيارات تنفيذ التهديد هو ما جاء على لسان الرئيس بوتين ،في قوله ؛ سنسلّح الدول المعاديّة للغرب !.
أول ملاحظة على تصريح الرئيس بوتين هي ماوردَ في تصريحه ” سنسّلح دول معاديّة للغرب ” . قالَ ” دول ” ولم يقلْ جهات او حركات او قوى معادية للغرب ،وهي ايضاً كُثرٌ وفاعلة في منطقة الشرق الأوسط وفي أفريقيا ، و ربما مؤثرة و تؤذي الغرب اكثر من الدول ! هاهي حركة انصار الله في اليمن ،تحارب مصالح امريكا وبريطانيا و اسرائيل ،و علناً و بقوة . هل كان مقصوداً على حصر التسليح فقط لدول ،ام وردَ ذكر ” الدول ” على سبيل المثال و التعميم ؟.
عندما تكون قوة عظمى في حرب ناعمة او ” خشنة ” مع قوة او قوى عظمى ،كما هو حال روسيا مع امريكا و مع دول حلف الناتو ، كل وسائل التأثير و القتال ،التي تساعد على تحقيق النصر او الصمود ،مُتاحة . بعبارة اخرى ،روسيا لم ولن تتردّدْ بتسليح حركة او جهة او فصيل ،يخدمُ مصالحها ، فكيف الحال إذا كانت ( واقصد ) روسيا في حربٍ مُعلنة مع جبهة طويلة وعريضة ،هي جبهة الغرب ( امريكا و حلف الناتو و مَنْ معهم من دول اوربا ليسوا اعضاء في الناتو ) ، وهذه الجبهة تحارب روسيا ،في السلاح وفي المرتزقة ، في أوكرانيا !.
الملاحظة الثانية هي مدى جديّة التهديد ؟
لنا الحق ،وكذلك القارئ المتتبع ،ان نشكّك في جديّة التهديد . ليست المرّة الاولى تهدًدْ روسيا امريكا و الغرب ، ولكن بقي التهديد وعداً دون تنفيذ . لماذا ؟
هل تخشى روسيا من ردود فعل قاسية من دول حلف الناتو ؟ هل تتحاشى روسيا مشاركة فعلية لجيوش دول غربية في حرب أوكرانيا ،مما يفقد روسيا ميزة الانفراد بالجيش الأوكراني و الانقضاض عليه؟ تساؤلات واردة وممكنة . روسيا لا تريد حرب مفتوحة مع الغرب في أوكرانيا و لا الغرب يريد ذلك ،وكل طرف منهما يعتقد انه يستنزف الآخر ، وكل طرف منهما يعّول على عامل الوقت ، على الزمن وما يحمله من متغيرات.
لنمضي في التحليل، معتقدين بجدّية التهديد ، وهذا ما يقودنا إلى الملاحظة الثالة ، وهي عنوان المقال ، بأي دولة تبتدأ روسيا بالتسليح ، ليبيا ام سوريّة أم ايران ؟
— ابدأ في ليبيا ، والمنقسمة شرقاً و غرباً ، وهو تقسيم سياسي و جغرافي في آنٍ واحد ، وتسعى حكومة طرابلس او حكومة الغرب الليبي ، او حكومة الوحدة الوطنية ،وهي المعترف بها دولياً و أممياً إلى توحيد البلاد ،ومن خلال مسار سياسي حثيث ،يجمع فواعل المشهد السياسي الليبي ،المتنوعة و المختلفة ، و جهود الامم المتحدة ،وكذلك جهود و اجراءات الاتحاد الأوربي .
الشرق الليبي ، بقيادة المشير حفتر ، هو من حصّة روسيا ، ولم تبخلْ روسيا على المشير حفتر الدعم في السلاح وفي المال ، و الدعم السياسي يأتي قبل الدعم العسكري . لم يتوقف السلاح الروسي عن الوصول إلى موانئ شرق ليبيا ،يعني إلى جيش المشير حفتر، أمّا التقارير التي تتحدث عن وصول الأسلحة لشرق ليبيا او لغربها ،لا تُعّدْ و لا تحصى ، وغالباً ما تُنشر في صحف مُعتبرة ، اذكر فقط على سبيل المثال ، التقرير الذي نشرته جريدة التايمز البريطانية ،منتصف نيسان ( أبريل ) الماضي ، عن وصول سفينة روسيّة محملة بالسلاح ،رست في ميناء طبرق ، إلى جيش المشير حفتر ( جريدة الشرق الأوسط اللندنية ،تاريخ 2024/6/4) .
لتبيان معضلة اغراق ليبيا بالسلاح ،في شرقها و غربها ، يكفي الاستشهاد بقرار مجلس الامن ، بتاريخ 2024/5/30 والذي بموجبه ،تّمَ تمديد التفويض الممنوح للدول الاعضاء بمهمة تفتيش السفن المارة في المياه الدولية ،قبالة ليبيا ، المشتبه بها بانها تنتهك القرارات الامميّة ، لمدة سنة اخرى . وكانت مهمة التفتيش ،والتي جاءت بمبادرة طرحها الاتحاد الأوربي ( أيريني ) ، قبل 4 سنوات ، حين شّنَ الجيش الوطني بقيادة حفتر هجومه على طرابلس ، وتبناها مجلس الامن بقرار ، وانتهت مدة التفويض في 2024/6/2 . طبعاً تحفظّت روسيا والصين والجزائر و دول اخرى على تمديد القرار .الترحيب الغربي بالتمديد لمهمة تفتيش السفن و التحفظ الروسي والصيني و دول اخرى على التمديد يظهر تباين المصالح بين امريكا و الغرب من جهة وروسيا و الصين من جهة اخرى ، ازاء الملف الليبي ،بل ازاء مصالحهما و دورهما في أفريقيا.
لا أُريد الاطالة في التفصيلات ،والتي هي معروفة ،المهم معرفة توجّه روسيا في ليبيا .هل ستصعّد من منسوب التسليح لحفتر ؟
لا أعتقد روسيا تتصرف بذكاء في ليبيا المنقسم جغرافياً وسياسياً وقبليا وحتى أمنياً ، مثلما تتصرف إيران بذكاء تجاه شيعة وسُنّة و كرد العراق . بل يبدوا روسيا استعانة بالوصفة الإيرانية في تعاملها مع الدول التي ” تمقرطّت ” بتدخل غربي . مفاد قولي هو ان روسيا الآن لها علاقات جيدة و وديّة مع جميع فواعل المشهد السياسي الليبي ( مع حفتر ، ومع حكومة الوحدة الوطنية ، ومع سيف القذافي والقبائل المؤيدة للنظام السابق ) ،هي في” زواج مع حفتر وجيشه الوطني ،وفي عشق مع الآخرين ). سبقَ وان استقبلت روسيا في منتصف العام الماضي السيد محمد تكالة ، رئيس المجلس الأعلى للدولة في ليبيا .
لا يمكن لروسيا ان تتخلى عن ليبيا او ان لا يكون لها دورا في ليبيا ،ومن مصلحة روسيا دعم استقرار وسلطة دولة ليبيا ، وذلك لاسباب منها : لروسيا تاريخ و ارث عسكري وسياسي في ليبيا ولمدة طويلة بعمر النظام الليبي السابق ،كما ان روسيا لن تغفر للغرب خدعته وكذبه في تدخله العسكري في ليبيا و ما فعله و تداعيات ما فعله ،أضف إلى ذلك رغبة وسعي روسيا لتعزيز مصالحها في أفريقيا ،وليبيا هي احدى البوابات المهمة لهذه القارة ، ودول هذه القارة التي حققت نجاحات سياسية في تحررها من الهيمنة الغربية ،و خاصة الفرنسيّة .
لدعم استقرار وحكومة الوحدة الوطنية في ليبيا يتطلب من روسيا علاقات ايجابية متوازنة مع الجميع ، ومن اجل ان تحظى حكومة الوحدة الوطنية بدعم روسي او على الاقل بدور روسي ايجابي في ليبيا ، يتطلب من حكومة الوحدة الوطنية ومن المؤسسات السياسية الليبية الأخرى مراعاة التوازن في علاقات ليبيا الدولية وسياستها الخارجية ، و حالَ ليبيا ،ما بين روسيا و امريكا والغرب كحال العراق مابين امريكا و ايران ، ونجاح العراق في الحفاظ على علاقات طيبة و متوازنة مع الطرفييّن ( مع إيران و مع امريكا ) مردّه اتخاذ مبدأ المصلحة الوطنية وحسن العلاقات مع الجميع وعدم التمحّور اساساً للسياسة الخارجية والعلاقات الدولية .
ماذا عن سوريّة ؟
تواجه سوريّة ، ويعاني الشعب السوري من حصار اقتصادي وسياسي و احتلال عسكري أمريكي في شرق وشمال شرق سوريّة ، وتواجه ايضاً اعتداءات و انتهاكات اسرائيلية متكررة ، وهي امّس الحاجة إلى وسائل دفاع متطورة ،وخاصة في الدفاع الجوّي ،و روسيا تمتلك الوسائل ،و سبق وان زودت سوريّة لبعضٍ منها ( س 300) ولكن لم تسمحْ بعد لسوريّة بإستخدامها ضّد الاعتداءات الاسرائيلية، لذا نستبعد جداً من ان تكون سوريّة من ضمن الدول المُرشحّة للتسليح ضّدَ المصالح الغربية .
- ايران هي اكثر الدول خصومة وعداء مع المصالح الأمريكية في المنطقة ، ولكنه عداء سياسي و نفوذ اكثر مما هو مناوشات ومعارك عسكريّة ، وهي اصلاً لديها ما يكفيها من سلاح نوعي و متطور ، ولايران استراتيجية للمصالح و للسياسة اكبر من ان تكون مرتبطة بمصالح روسيّة او بشروط روسيا
- حركة انصار الله في صنعاء واليمن هي اكثر من باقي دول و حركات مؤهلة لمثل هذا العرض الروسي ، في التسليح ضّد المصالح الغربية ، وهي في حرب فعلية ضّدَ سفن و بواخر و دفاعات امريكا و الغرب ، فهل تُقدِم روسيا فعلاً بتزويدها سلاح مثلما يزّود الغرب الجيش الاوكراني لمقاتلة الروس ؟
قد تُقدِم روسيا على ذلك ،ولكن ستشترط ،ربما ،على عدم استخدامه ضّدَ اسرائيل ،حيث بين روسيا و إسرائيل حسابات أُخرى ، و روسيا لا تنظر إلى إسرائيل على انها جزء من الامن القومي الأمريكي ،ولا تضعها ضمن مساحة المصالح الغربية ،بيد انها ( اسرائيل ) ، و وفقاً للأدارات الأمريكية المتعاقبة ، جزء من الامن القومي الأمريكي .
واذا ارادَ فعلاً الرئيس بوتين ايذاء امريكا و الغرب في مصالحهما ،لن يجدْ افضل من اسرائيل هدفاً .
السفير الدكتور جواد الهنداوي – رئيس المركز العربي الأوربي للسياسات و تعزيز القدرات /بروكسل 2024/6/7 م