يطرح تناولنا لهذا الموضوع هواجس كثيرة وتساؤلات عميقة، وشواهد مؤلمة، يندَى لها الجبِينُ ويستقبحها الذَّوق الرفيع، لعلَّها تستنهض في الشَّباب روح المسؤوليَّة وتفتح أعْيُنهم على مكمنِ الخطر، حتَّى لا يقعوا في فخِّ الابتزاز وظواهر الإجرام في العالَم الواقعي والافتراضي، وتعيد تقييم ثقتهم وطيبتهم وعفويَّتهم في التعامل مع الأيدي الوافدة عامَّة والحلَّاقين بصالونات الحلاقة خاصَّة، وهي رسالة موَجَّهة للشَّباب في أن يكُونُوا عَيْنًا لأنْفُسهم وحفظًا لخصوصيَّات أُسرهم وكتمًا لأسرارِ بيوتهم. فمَن منَّا ـ شبابًا ـ صغارًا ـ كبارًا ـ لم يدخل محلَّ صالونات الحلاقة الرجاليَّة، بل إنَّ واقع الشَّباب يشير إلى احتياجهم للحلَّاق في الأسبوع مرَّتيْنِ أو أكثر لحلاقةِ الذّقن (اللحية) وإضافة بعض النَّكهات التجميليَّة (تنظيف الوَجْه ومساج الرأس…إلخ).
على أنَّ تداعيات صالونات الحلَّاق وأسرار البيوت وخصوصيَّات الأشخاص باتتْ تدقُّ ناقوس الخطر والَّتي باتتِ الأيدي الوافدة العاملة في صالونات الحلاقة الرجاليَّة تتقنُ أساليب الدخول والولوج إِلَيْها مع الشَّباب الصغار والكبار، الأمر الَّذي قد لا يدرك الشَّباب حجمَ الضَّرر والخطر المترتِّب على هذه المكاشفة والصَّراحة والشفافيَّة الَّتي باتَ يُظهرها في الإجابة عن استفهامات واستفسارات والحديث الشيَّق الَّذي يطرحه الحلَّاق. فبمجرد جلوسه على كرسي الحلاقة يبدأ بتلطيف الجوِّ بالسؤال: «كيف حالك زين؟ ماشي جديد؟ ثمَّ بعد أن يجدَ مِنْه جوابًا موسعًا، يبدأ بالدخول في العُمق فيسأله: كيف حال الأُسرة والدوام والدراسة و…و…و…؟». أسئلة فتحت صفحات جديدة وفصولًا من الأسرار المصونة أو الكلمات والأحداث المدفونة في الذَّات والَّتي امتنع هذا الشَّاب أو الطفل عن البوح بها لوالدَيْه وأقرب النَّاس إِلَيْه، بَيْنَما حصل عَلَيْها الحلَّاق بِدُونِ جهدٍ ووصلت إِلَيْه بمجرَّد مفاتيح حديث عاديَّة، حيث يبدأ بسردِ قصَّته الشخصيَّة وحكايته مع أصدقائه وعلاقاته الأُسريَّة، وما يحصل في بيت الأُسرة والعائلة من مواقف وأحداث، مناسبات عرس أو عزاء، أو خلافات، أو طلاق، أو غيره من الأحداث الَّتي تعيشها الأُسرة في الفترة الأخيرة، وعن ظروفهم الاقتصاديَّة ومعيشتهم الماليَّة وما لدَيْه من عقارات ومهام عمل، وأعمالهم وما يمتلكون من مصادر رزق أخرى كالمقاولات أو الشركات أو الأسهم والسندات، وهكذا يمتدُّ الحديث ليجدَ هذا الشَّاب نَفْسه أمام حلَّاق يسمع له وهو يدغدغ لحيَته أو شَعر رأسه في حالة من الاسترخاء والهدوء ليستمرَّ الحديث في الخصوصيَّات ويجرَّه إلى الحديث عن والدَيْه وإخوته وأخواته أين يسكنون؟ وماذا لدَيْهم من المَركبات؟ وكُلِّ التفاصيل الَّتي لم يكن تخطر على بال أحَد، بَيْنَما يعيش هذا الحلَّاق جوَّ المُحقِّق «كونن» يتمِّم على ما أبداه هذا الشَّاب من معلومات، ويضيف إِلَيْه معلومة سمعها من شابٍّ آخر جاره أو ابن عمِّه أو صديقه، وقد تظهر لدى الشَّاب ردَّة فعل تستنكر هذا السلوك الَّذي صدر من أصدقائه أو أُسرته، حيث يبدأ الحلَّاق بإضافة بعض النَّكهات الَّتي قالها له الشَّاب الآخر أو سمعها من ثالث، فيبدأ وكأنَّ هناك خلافًا حاصلًا وغموضًا كبيرًا في العلاقات الأُسريَّة، ويستمرُّ الحلَّاق بطرح سؤال تلوَ آخر من حيث انتهى إِلَيْه هذا الشَّاب، أو يقف على كلام ذَكَره هذا الشَّاب بِدُونِ قصدٍ «زلَّة لسان» ليبدأَ الحلَّاق يدخل من هذا المدخل الجديد اللافت للنظر، والحامل لأسرارٍ نوعيَّة وخصوصيَّات يجِبُ تنزيه الألسُن مِنْها وإبعاد الأنظار عَنْها، حديث ممتع ومشوق قد يشير فيه الحلَّاق إلى أشخاص آخرين، وماذا يعرف عَنْهم وعن سلوكيَّاتهم أو سلوكيَّات بعض أقربائهم وعلاقاتهم وطبيعة هذه العلاقة وغيرها من الأحاديث الَّتي باتتْ تجرُّ بعضها بعضًا، في حديثٍ عابرٍ للخصوصيَّات، يأخذها الحلَّاق من الشَّاب الكبير كما يأخذها من الشَّاب الصغير أو حتَّى من الأطفال دُونَ سنِّ الثالثة عشرة الَّذين تتركهم أُسرهم للذهابِ بمفردِهم أو برفقةِ أصدقائهم إلى الحلَّاق، إما لقربِ صالون الحلاقة من البيت أو أنَّ الأُسرة اعتادت بالحلاقة معه، ليجترَّ هذا الحلَّاق الطفل للحديثِ معه وسؤاله أسئلة اعتياديَّة عن والدَيْه وإخوته وأعمالهم لِيدخلَ في بعض خصوصيَّاتهم، ليقدِّمَ له هذا الطفل معلومات جديدة تضاف إلى المعلومات الَّتي قدَّمها إخوته الكبار؛ لذلك يتفاجأ بعض الآباء بمعلومات عميقة يتحدَّث بها الحلَّاق حَوْلَ بيوتهم وأُسرهم لا يعلمون مصدرها، وكيف وصلت إلى هذا الحلَّاق؟ هل تعْلَم أيُّها الأب أنَّها وصلَتْ من أبنائك الصغار والكبار؟ فلقد أصبح الكثير مِنْهم كتابًا مفتوحًا يتحدث في كُلِّ شيء ويجيب عن كُلِّ ما يطرحه الحلَّاق.
وعَلَيْه، فإنَّ ما وصلَ إِلَيْه وضع الحلَّاقين وأسرار البيوت اليوم، أمْر مقلِق ومؤلِم في الوقت نَفْسه. وحقيقةً يجِبُ الاعتراف بخطرِها على حياة الأُسرة وأمْنِها واستقرارها العائلي، وأن تتخذَ الآليَّات والضوابط والتَّوجيه والنُّصح المُجتمعي للوقايةِ مِنْها، وعَبْرَ تعظيم تربية الأبناء على حماية الخصوصيَّات والمحافظة على أسرار البيوت وعلى بناء الذَّات القويَّة القادرة على حماية الأُسرة من كُلِّ أشكال التغرير والتعرُّض لها بسوء، خصوصًا مع اتِّساع المنصَّات الاجتماعيَّة ووجود الكثير من الحلَّاقين في هذه المنصَّات، وما باتَ يجتاح هذه الصالونات من فئات شابَّة وصغيرة السِّن من الحلَّاقين، لِتجدَ في سلوك البعض مِنْهم وتصرُّفاته وشخصيَّته ما يدعو إلى القلقِ على الأبناء والشَّباب لِماَ فيه من التغنُّج وجذب الأنظار، أو عكس ذلك، في مشهدٍ مُخيف باتتْ تتَّجه إِلَيْه الجنسيَّات الآسيويَّة الَّتي تسيطر على صالونات الحلاقة في فهمِ ما يَدُور في واقع المُجتمع وحياة الأُسر؛ لِتتحولَ هذه الأسرار إلى مدخلات يسقطها الحلَّاق على حياة الأُسرة والبيوت المطمئنَّة، وهو ما باتَ جزءا مِنْه يتَّجه إلى أشكال الابتزاز والاحتيال، ويستغلُّ الجناة والمُجرِمون في الوصول إلى ضحاياهم من خلال تردُّد هذا الشخص على صالون الحلاقة لِتكُونَ الأخيرة مفاتيح لَهُم مقابل بعض المال أو الرشاوى الَّتي يحصلون عَلَيْها في تنفيذ مخطَّطهم الإجرامي بالسرقة أو الاعتداء البدَني أو القتل والعياذ بالله.
ثم مـــــــاذا بعد..؟
تأتي رسالتنا الأولى إلى أولياء الأمور والشَّباب، إذ على كُلِّ وليِّ أمْر أن يُربيَ أبناءه على صون الخصوصيَّات والأسرار العائليَّة، ورسالتنا للشَّباب، الصغار والكبار أو غيرهم في أن يحافظَ كُلٌّ مِنْهم على نَفْسه وأُسرته وأسرار بيته، وأن لا يكُونَ كتابًا مفتوحًا للجميع، وأن يحكمَ لسانَه ومنطقَه، ولا يبدِ كُلَّ ما سُئل عَنْه أو طُرح عَلَيْه من أسئلة، بحيث لا تصنع مِنْه الطِّيبة والثقة الزائدة مساحةً للارتجاليَّة الَّتي يستغلُّها البعض في الإساءة إِلَيْه أو تعريض أُسرته وأهلِه للخطر؛ لذلك لا يجرّنك ـ أيُّها الشَّاب ـ الحديث مع الحلَّاق للدخولِ في خصوصيَّات الأُسرة واستباحة حرماتها لتكُونَ السَّبب في تدميرها، فحياتك وأُسرتك ومُجتمعك ووطنك أمانة فحافِظ على أسراره وخصوصيَّته من العابثين به.
أمَّا رسالتنا الثانية فهي للجهاتِ المعنيَّة، إذا كانت الحكومة قد اتَّخذت بعض الإجراءات المرتبطة بمتابعة صالونات الحلاقة الرجاليَّة، والاشتراطات الَّتي فرضتها على القائمين عَلَيْها من ناحية النظافة وتعقيم الأدوات وجودتها وتركيب كاميرات المراقبة ـ مع تأكيدنا على ضرورة تكثيف نُظم المتابعة والرقابة لِتشملَ الأسعار، والنظافة الشخصيَّة للحلَّاقين أنْفُسهم، والسلوكيَّات الَّتي باتتْ تظهر من الحلَّاقين في أثناء الحلاقة كاستخدام أجهزة الاتصال المرئيَّة، أو غياب وجود نمطٍ موحَّد أو هُوِيَّة داخليَّة لشكلِ وتصميم وديكورات محالِّ الحلاقة، فإنَّنا نؤكِّد اليوم على أهمِّية أن تشملَ الإجراءات أيضًا التزام صالونات الحلاقة بكُلِّ ما يحافظ على الهُوِيَّة والخصوصيَّة والسَّمت العُماني، وضرورة وجود ميثاق أخلاقي لمهنةِ الحلَّاق يتمُّ تعليقه في صالونات الحلاقة يحتوي على معايير الجودة والصحَّة العامَّة، والتزام الحلَّاقين بأخلاقيَّات المهنة، ومنعهم من الممارسات غير الحضاريَّة في أثناء الحلاقة مِثل: عدم التعرُّض للزبونِ بالدخول في خصوصيَّاتهم وأسرار عائلاتهم، أو دفعهم للحديثِ عن بعض القضايا السياسيَّة والاجتماعيَّة وغيرها، وإضافة بعض العبارات الموَجَّهة للشَّباب بعدمِ فتح المجال للحديثِ عن الخصوصيَّات الأُسريَّة، ومواد في قانون الجزاء أو غيره بشأن العقوبات والأحكام الواردة في هذا الشَّأن.
د.رجب بن علي العويسي