ثالثًا: «مدينة الحجر»..
في مطار الشارقة، كنَّا نُسابق الزمن ونُسارع الخُطى، ونبحث عن فراغات بَيْنَ طوابير البَشَر المسافرين نعبُر مِنْها نَحْوَ القاعة «٦»، للصعود إلى «العربيَّة»، رقم G « ٩٢٧٣»، المتَّجهة إلى «طشقند»، فلم يتبقَّ عن انطلاقتها سوى أربعين دقيقة لا غير، القاعات ـ الممرَّات ـ مقاهي ومطاعم ومتاجر السُّوق الحُرة ـ والطائرات تغصُّ بالمسافرين، ورحلتا مسقط ـ الشارقة، والشارقة ـ طشقند، لا يوجد فيهما كرسي واحد شاغر، سُوق السَّفر مزدهر، السياحة نشطة، شركات الطيران في دوَل الخليج تنمو وتُحقق أرباحًا عالية، فلماذا يعاني الطيران العُماني من خسائر متراكمة؟ ولماذا يخفِّض رحلاته ويُلغي وجهات نشطة ومقصودة على مستوى العالَم؟ أسئلة تتجدَّد فلا نحصل على إجابة مقنعة للأسف الشديد. فملف الطيران العُماني أصبح محلَّ استغراب ولغزًا حائرًا إزاء وضعه المتراجع الجميع .مطار «طشقند»، بسيط، متواضع والإجراءات سهلة، مرنة، خالية من التعقيد، والطائرة مليئة بالعائدين إلى بلدهم بعد أداء مناسك العمرة، حاملين معهم أغلى وأثمن غنيمة، «ماء زمزم»، معبَّأة في مئات العبوات بأحجام مختلفة، مياه مقدَّسة طاهرة فيها البركة والشفاء، كما يعتقد ويؤمن بذلك الملايين من المُسلِمين، ينتظرها الكثيرون في أوزبكستان، لإطفاء ظمأ الأرواح المتعطشة لتلقي بركاتها، علَّ الله يمنُّ عَلَيْهم بعافية بعد سقمٍ، وولدٍ بعد عقم، وزوجٍ بعد حرمان، ومالٍ وغنى بعد فقر مدقع… المعتمرون في قمَّة فرحهم وانتشائهم، فسوف يُسهمون في إسعاد الكثير من الأحبَّة والجيران والأرحام والأصدقاء… الترجمة العربيَّة لـ»طشقند»، «مدينة الحجر»، والاسم مركَّب من «طش»، ومعناه الحجر، و»كند»، مدينة، وهو مصطلح أذري، يعتقد بأنَّ أصلَه تركي. وتقع «طشقند»، إلى الشرق من «سيحون»، النهر الشهير الحي في ذاكرة التاريخ الإسلامي، وفضاء الفتوحات والثورات والقلاقل الَّتي شهدتها آسيا الوسطى إبَّان العصرَيْن الأموي والعباسي، وحُكم السلاجقة والخوارزميِّين… يعبُر هذا النهر أراضي ثلاث دوَل في قلبِ آسيا الوسطى، وهي «قرغيزستان»، حيث المنبع، و»أوزبكستان»، و»كازاخستان»، وينتهي في بحيرة «خوارزم»، بحر الـ»أرال»، ويبلغ طوله «2700» كيلومتر. السَّاعة الثالثة فجرًا لحظة مغادرتنا المطار، الليل لا يزال يخفي جَمال المدينة وملامحها العامَّة، فيما حشد المصابيح الكهربائيَّة تكافح ظلامه البهيم، لتطلعَنا على شيء من ملاحة طشقند ولوحاتها الجماليَّة ونظافة شوارعها والتشجير الطَّاغي على المشهد، وصوَر الحداثة وروعة التنظيم الَّتي تبثُّها المساحات المشمولة بتأثير الإنارة الكهربائيَّة… فيما تفصح سحنات الوجوه وملامح شخصيَّة الأوزبكي عن مجموعة أعراق وأصول ومنابت تمتزج في هذا البلد الَّذي هيمنت على جزء من تاريخه واستوطنته وعاشت فيه حضارات وقوى استعماريَّة وارتبطت ثقافته بشعوب كثيرة، الأفغان، الترك، الفرس، العرب، المغول، الروس… وهو ما يُعَدُّ مكسبًا حقيقيًّا عندما تتَّحد هذه العقول والثقافات والقوى والخبرات فستثمر في خدمة الأوطان وتحقيق مصالحها وتنمية وازدهار المُجتمعات. فاجأنا جَمال «طشقند»، وفتنة حدائقها، وحُسن عمارتها وجودة الخدمات، وازدهار المُجتمع في مُعْظمِه، ورونق تخطيطها، والأناقة الَّتي تمتاز بها في كلِّ ملمح وبناء وصرح ومنشأة وميدان، إنَّها مدينة تختال بتاريخها العظيم وحضارتها الممتدَّة إلى أعماق الماضي، وتشي متاحفها العديدة في تنوُّعها وتخصُّصها، وحدائقها وجهود التشجير الواضحة، وما أبدعه الفنَّانون والمعماريون من لوحات وتصاميم معماريَّة مدهشة… بفرادتها واستيلائها على لبِّ الزائرين لها، فيما تحتشد الأسواق والأزقة والساحات والحدائق بالأداء الغنائي والموسيقى ومعارض الفنون والرسم المنتمي إلى مدارس وأذواق مختلفة، وبمنتجات الحرفيِّين وصناعاتهم المستمدَّة من ثقافة وتاريخ وأسلوب الحياة لدى الأوزبك. تُعَدُّ «طشقند» واحدة من أكثر مُدُن العالَم الَّتي تمتلك آثارًا وصروحًا ومعالَم حضاريَّة وتاريخيَّة لا مثيل لها في القِيمة والجَمال والقدم والتنوُّع، ولكنَّها ـ للأسف الشديد ـ خسرت مُعْظمها بسبب كوارث الطبيعة والاستعمار والحروب والتخريب والتدمير الَّتي تعرَّضت لها… السيارات الفارهة الَّتي تجوب الشوارع، والبيوت والمنازل والمُدُن الحديثة، وغياب مظاهر التسوُّل وباعة الشوارع ومظاهر استغلال السائح، وتوفر الأمن والاستقرار ومتانة وسعة الشوارع والجَمال والنظافة والتنظيم… الَّتي فاجأتنا وأدهشتنا، تعلن عن بلدٍ مزدهر يمتلك موارد ماليَّة جيِّدة ووضع معيشي يحقِّق الرضا المُجتمعي… يُعَدُّ «متحف الدَّولة لتاريخ أوزبكستان»، في مقدِّمة المتاحف الَّتي تجذب السيَّاح إليه في «طشقند»، افتتح في عام ١٨٧٦م، ويضمُّ أكثر من ٣٠٠٠٠٠ قطعة أثريَّة، تحكي تفاصيل عصور وتاريخ أوزبكستان وثقافة شَعبها، وأساليب الحياة عند الأوزبك، وحمل اسم ستالين إبَّان احتلال الاتِّحاد الروسي البغيض للمنطقة، وتوزَّعت الآثار والصور والمخطوطات والمجسَّمات واللوحات الفنيَّة والخرائط والشروحات على ثلاثة طوابق، خصص كُلُّ قِسم لفترةٍ تاريخيَّة معروفة… واستغرق التجول بَيْنَها أكثر من ساعتين. أمَّا مجمع حضرة الإمام، فيضمُّ ضريح العالَم الولي، الفقيه والمفسر وراوي الحديث أبو بكر القفال الشاشي، شيخ الشافعيَّة في آسيا الوسطى، الَّذي تعلَّم على يَدِ كبار العلماء كَاِبن خزيمة والطبري وأبو الحسن الأشعري، ووُلد في مرو، وهو من أهمِّ معالَم «طشقند»، وبه العديد من المساجد والمدارس والصروح الإسلامية البارزة، الَّتي تؤرخ للدول والممالك والأُسر المتعاقبة على حكم أوزبكستان، وفي مجمع حضرة الإمام اطلعنا على المخطوطة النادرة لمصحف عثمان ـ رضي الله عنه ـ المنسوخة في القرن السابع، وأحضرها إلى سمرقند في القرن الرابع عشر الأمير تيمور وفقًا لِما وثَّقته اللوحة المعدنيَّة المعرِّفة بالمَعْلَم، المنصوبة عند مدخل الغرفة المخصَّصة لعرضِ النسخة النادرة من القرآن. وليس ببعيدٍ عن مجمع حضرة الإمام تقع ساحة ونصب تيمور لنك مؤسِّس الإمبراطوريَّة التيموريَّة، في آسيا الوسطى، القائد الَّذي لم يهزم قط، والتقطنا بمعيَّته عددًا من الصوَر التذكاريَّة… وبمحاذاة اللوحة التذكاريَّة لمعهدِ أبي الريحان البيروني، للدراسات الشرقيَّة، الَّذي صُمم وأنجز بناؤه بأوامر ودعم «مالي سخي»، من قِبل ـ حضرة صاحب الجلالة السُّلطان قابوس بن سعيد المُعظَّم ـ «دعمًا للقِيَم الدراسيَّة والإنسانيَّة في جميع أنحاء العالَم»، وافتتحه فخامة الرئيس الأوزبكي إسلام عبد غنيفتش كريموف، يوم الثلاثاء 15/ سبتمبر/ 2015م، التقطنا عددًا من الصوَر التذكاريَّة، وترحَّمنا على روح فقيد عُمان الكبير ومؤسِّس نهضتها الحديثة، الَّذي يكنُّ له الشَّعب العُماني والعالَم الحُب والتقدير والاحترام. أمَّا ميدان الاستقلال الَّذي يقع في قلبِ العاصمة الأوزبكيَّة، الَّتي تتنفَّس جَمالًا وأناقة، فيضمُّ العديد من مؤسَّسات الدَّولة كالقصر الجمهوري والبرلمان، ويزدان بالساحات والجنائن والمماشي، والنوافير والنّصب التذكاريَّة وهو مركز النشاط الثقافي والسياسي في قلبِ «طشقند». «شورسو بازار»، السُّوق التقليدي الشَّعبي تفتح ساحته على أربع بوَّابات كبيرة، ويسمَّى سُوق القبَّة؛ لأنَّه يقع تحت سقف قبَّة زرقاء ضخمة، أشْبَه بقبب البرلمانات، هذا السُّوق الَّذي يضمُّ مئات المتاجر يفيض بمنتجات الريف الأوزبكي من الفواكه الطازجة والمجفَّفة والخضار والمكسرات والحلويات المحليَّة واللحوم بأنواعها والأسماك والأجبان والبيض… ممَّا لم أرَ مثيلًا له في وفرة المنتج الزراعي المحلي. تتفرَّد «طشقند»، عن غيرها من المُدُن بالجنائن والحدائق والتشجير والنوافير واللوحات الجماليَّة المدهشة، بالميادين العامَّة والنّصب التذكاريَّة والنظافة العالية، والتنظيم المتقن في كلِّ شيء، في الشوارع الرئيسة والأحياء الداخليَّة، في المركز وكذلك الأطراف البعيدة، وهو ما أصابنا بالمفاجأة والإبهار، فلم نتوقعْ أن تكُونَ عاصمة أوزبكستان، بهذا الجَمال الَّذي لم نرَ مثيلًا له في عشرات المُدُن الَّتي زرناها حَوْلَ العالَم… «يتبع».
سعود بن علي الحارثي