مرّت علينا أيام العيد المباركة، والتي كان يُفترض أن تكون سعيدة، لكنّ لمن المحزن والمؤسف حقًا أن تراود كثيرًا منا تساؤلاتٌ من قبيل: هل ما زال للعيد بهجة في نفوس المسلمين؟ وكيف لنا أن نفرح والهمومُ تحيط بالأمة من كلِّ حدب وصوب؟ وهل يحقُّ لنا أن نحتفل، وإخوةٌ لنا في الدين والعقيدة والعروبة يبادون في غزة، والأمةُ تشهد ذلك عاجزة عن النصرة؟!
أتخيّل الشاعر أبا الطيب المتنبي، ماذا لو بُعث حيًّا في هذا العيد، وعمّ كانت ستتفق قرائحه؟ هل كان سيكتفي بالتساؤل عن أيَّ حال عاد بها العيد؟!
على مدى سنوات يكرّر الكتّاب والشعراء قصيدة المتنبي: عيدٌ بأيِّ حال عُدتَ يا عيدُ، ويكاد هذا الشطر من البيت يكون عنوانًا دائمًا لكثير من المقالات في كلّ عيد، لأنّ الهموم تراكمت، والمشكلات باقية، والعجز العربي في أسوأ حالاته الآن، وجاءت الحرب على غزة لتزيد الأمر سوادًا، وغابت الفرحة بسبب العجز العربي عن الوقوف مع الأشقاء، لدرجة عدم التمكن من إيصال المعونات لهم، وهم الذين مرّت عليهم فصول السنة المختلفة، وهم يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، ويصلّون في العراء ويصومون الشهر الفضيل دون سحور وفطور، عدا الأرواح التي أزهقت، والنساء اللاتي ترملن، والأطفال الذين تيتّموا، والأمهات الثكالى، والمصابين من كلّ الأعمار، والمساكن والمستشفيات التي دُمِّرت، وصارت أثرًا بعد عين. فهل يمكن بعد ذلك أن نشعر ببهجة العيد؟ وهل يمكن أن ينطلي على الناس ما يردّده خطباء المساجد والإعلاميون عن أمة واحدة، قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد؛ إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»؟ فأين القوم من حديث الرسول عليه الصلاة والسلام، وأين هو توادُّهم وتراحمُهم وتعاطفُهم؟
إنّ غزة تصرخ ولا من يجيبها، وبقيت وحيدة تدافع عن شرف الأمة؛ فيما يتآمر عليها الكلّ بحجج مختلفة، رغم أنّ الهدف واحد هو القضاء على المقاومة لصالح الكيان الإسرائيلي المحتل ومن والاه من صهاينة العرب وجماعة أوسلو. ونحن لا نملك إلا الدعاء، رغم أنّ الدعاء بلا عمل هو نوع من العجز، ولا أدري ماذا استفاد المرابطون في غزة من كلمة «إننا معكم بقلوبنا».
لم أستطع أن أنسى تصريحًا لأحد المسؤولين العرب قبل سنوات، عندما رفض وصف الاعتداءات العسكرية لقوات الاحتلال الإسرائيلي التي ينتج عنها قتلى من الأطفال الفلسطينيين بأنها عمليات إرهابية، وكأنه يؤيد ذلك القتل بقوله: إنه لا يوجد دليل قاطع على علاقة إسرائيل بمنظمات إرهابية «إسرائيل نظرًا لتاريخها يرتفع فيها عنصر الأمن والأمان، لأنّ المجتمع من منظورها يواجه تحديات كثيرة زكت فكرة الأمن والأمان والسيطرة على الأرض وإحكام المنافذ، معتقدة أنّ هذا يسهم في حمايته»، فهل هناك هوانٌ أكثر من هذا؟! هذا مجرد مثال على «تصهيُن» بعض المسؤولين العرب، فقد سبقه وتلاه تصريحات مماثلة كثيرة، وكان يُفترض من هؤلاء المسؤولين أن يقفوا مع إخوانهم في الدين والعروبة، وأن يعوا تمامًا أنهم مسؤولون عن كلامهم ذلك أمام الله، وسيحاسبون عنه يوم القيامة؛ لكن المؤسف والمؤلم أنّ مثل هؤلاء يعيشون اللحظة فقط، وينسون الله سبحانه وتعالى وهول ذلك اليوم العظيم، وكأنّ الإخلاص لأمريكا سيُنقذهم، وأنّ المنصب سيدوم إلى الأبد. وفي اعتقادي أنّ هذه هي مشكلة الكثيرين ممن رهنوا حياتهم ومناصبهم بأسيادهم.
وإذا تركنا غزة جانبًا وألقينا نظرة على حال الأمة، فإنّ الأمر يثير الشفقة؛ فالأحوال تتشابه في كثير من البلدان، مع اختلاف الدرجات فقط؛ ونستطيع أن نشاهد ذلك في سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان، المنسي والمتروك لكي يواجه مصيره المحتوم بمفرده. وحالُ المسلمين في الهند وغيرها من البلدان ليس بأفضل حالًا.
إنّ الأمة تعاني من غياب قيادات وطنية ودول كانت تقود، قبل أن يتراجع دورها إلى «مجرد تابع»، وأصبح من يملك المال هو الذي بيده الأمر؛ فكانت النتيجة أن تمزّقت الأمة وتفرّقت، واختفت السيادة الوطنية لمصلحة الدول الكبرى وإسرائيل، بسبب التهافت العربي للتطبيع معها، رغم ما قدمته المقاومة الباسلة في غزة من قوة وصمود، أظهر هشاشة عظام الكيان.
وُجدَت الأعياد للسرور والبهجة، لكننا – بسبب أوضاعنا – نجد أنفسنا مضطرين للحزن والبكاء على حال الأمة؛ ففي غزة آلاف المسلمين احتفلوا بالعيد، دون أيِّ بهجة وفرحة؛ بل إنّ أحزانهم زادت في ذلك اليوم، وهم يستذكرون أحبّاءَهم الذين رحلوا، ولا يملكون ما يُفرحون به أطفالهم، مع آلاف القبور التي ضمّت خلال تسعة أشهر فقط أكثر من أربعين ألف شهيد، تنتظر الزوار لقراءة الفاتحة على أصحابها والدعاء لهم. والحال في السودان كذلك، فقد هجر الناس بيوتهم مضطرين، وتشتتوا في المنافي الداخلية والخارجية بحثًا عن الأمن والأمان ولقمة العيش، في وقت كان السودان يسمى «سلة غذاء الوطن العربي وأفريقيا». ويبدو أنّ القادم أسوأ، فلستُ من المتفائلين في مستقبل السودان، رغم تفاؤلي الدائم بمستقبل فلسطين ومستقبل الأمة، شرط أن نُصلح ما بأنفسنا ونتصالح مع الله سبحانه وتعالى: (إنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ….) فتلك هي سنن الله تعالى في كونه، و(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ)، ووعدُ الله حقّ: (إِنْ يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ).
وإذا كان أهل غزة قد ضربوا مثلًا في الصمود، فإنّ كثيرًا ما يدور في خلدي سؤال: هل هناك من هو في مأمن من مصير كمصير أهل غزة خاصةً وفلسطين عامة؟ أو هل هناك من هو في مأمن أيضًا من مصير كمصير دول كانت آمنة مثل سوريا والعراق واليمن وليبيا والسودان وغيرها من البلدان؟! كانت تلك الدول آمنة مطمئنة، يأتيها رزقها رغدًا من كلِّ مكان، ولكن أصابها ما أصابها، سواء بأسباب داخلية أو خارجية، ولكنها فقدت ذلك الأمن والاطمئنان، وهذا المصير قد يصيب من يصيبه، إذا ما اتعظت الأمة وتركت تناحرها لأسباب تافهة، وتركت تهافتها للسيطرة على مقدرات الدول الأخرى، تنفيذًا لمخططات كبرى يديرها الآخرون، هي ليست إلا أدوات فيها.
ونحن إذ عشنا أفراح العيد، فإننا – ولله الحمد – نعيش أمنًا وسلامًا، وأطفالُنا فرحوا بالعيد والعيدية، ويعيشون بين أهاليهم ولبسوا الجديد، في وقت كان ينتظر فيه أطفال آخرون الموت في كلّ لحظة، ولم يجدوا حلوى العيد، ولا أهل لهم، وهذا في حدّ ذاته يكفي واعظًا.
زاهر بن حارث المحروقي
جريدة عُمان : عدد الاثنين 24 يونيو 2024م