مع بزوغ فجر كل يوم جديد يتوافد الموظفون والعاملون إلى أماكن عملهم متجاوزين الشوارع المكتظة بحركة المرور المتزايدة في الصباح الباكر وفي مشهد يومي يعكس ديمومة عجلة العمل والإنتاج.
وفي خضم هذا النشاط اليومي تبرز ضرورة ملحة لتعزيز ثقافة السلامة في مواقع العمل كركيزة أساسية لضمان بيئة عمل آمنة وصحية .
في هذا المقال : سنستعرض أهمية تعزيز ثقافة السلامة المهنية في بيئة العمل وأثرها المباشر على تحسين الإنتاجية وجودة الحياة العملية مسلطين الضوء على الإجراءات الوقائية وأفضل الممارسات التي يمكن اتباعها للحد من الحوادث والإصابات في مواقع العمل المختلفة.
إن تعزيز ثقافة السلامة ليس مجرد واجب أخلاقي وإداري، بل هو استثمار في رأس المال البشري وأداة فعالة لتحقيق الإنتاجية والتميز المؤسسي.
و الإحصائيات السابقة الصادرة عن منظمة العمل الدولية تشير إلى أن إجمالي عدد الحوادث المسجلة :
- حوالي 2 مليون شخص يموتون سنويًا بسبب حوادث العمل أو الأمراض المرتبطة به .
- وان 270 مليون حادث مهني يسجل كل سنة .
- وان 160 مليون مرض مهني كل سنة يصاب به العمال في مواقع العمل .
- وان %4 من الناتج المحلي العالمي يفقد كل سنة في مواقع العمل من خلال تكاليف الإصابة والوفاة والغياب إلى آخره.
ان هذه الاحصائيات توضح إلى ان هناك كمية كبيرة من الألم والمعاناة المتوقعة من قبل العاملين الذين يذهبون إلى العمل لكسب لقمة العيش وان هذه الأرقام تشير إلى حجم هذه المشكلة عندما لاتكون هناك ثقافة فعالة لادارة السلامة والصحة المهنية في مواقع العمل.
وهذا يعني أن السلامة في مكان العمل ليست مجرد ترف بل هي قضية حياة أو موت بينما ننشغل بالسعي لتحقيق الإنتاجية والكفاءة وقد نغفل عن حقيقة أن السلامة في مكان العمل ليست مجرد إجراء احترازي بل هي ضرورة لا غنى عنها.
تخيل مكان عمل يخلو تمامًا من الحوادث حيث يعود كل موظف إلى منزله بسلام في نهاية اليوم أن ذلك ليس هذا حلمًا بعيد المنال بل هدف استراتيجي يمكن تحقيقه من خلال تعزيز ثقافة السلامة في مكان العمل .
وفي هذا المقال نستعرض كيف يمكن للمنظمات والشركات والمؤسسات تحويل بيئة العمل إلى ملاذ آمن وبيئة عمل ملائمة خالية تماماً من المخاطر المحتملة ونستعرض بعض الاستراتيجيات الفعالة التي يمكن تطبيقها ومن خلال أمثلة واقعية تبرز الفوائد الهامة للسلامة المهنية ونبين للقارئ العزيز في هذا المقال كيف يمكن للسلامة أن تكون مفتاح النجاح المستدام في بيئة العمل .
أهمية ثقافة السلامة في مكان العمل :
وفي عالم الأعمال الحديث المليء بالتحديات والمخاطر المتنوعة أصبحت ثقافة السلامة في مكان العمل ضرورة لا غنى عنها لتعزيز بيئة عمل آمنة وصحية فالسلامة ليست مجرد مجموعة من الإجراءات والتدابير الوقائية فحسب بل هي ثقافة شاملة تنعكس في سلوكيات العاملين وتوجهاتهم اليومية وان الاهتمام بثقافة السلامة في مكان العمل ينبع من دوافع متعددة تشمل الجوانب الأخلاقية والقانونية والاقتصادية ولكل منها تأثيره العميق في تعزيز بيئة عمل منتجة ومستدامة.
- الدوافع الأخلاقية :
- تدفعنا إلى الالتزام بحماية حياة وصحة العاملين حيث يعتبر توفير بيئة عمل آمنة من المسائل الإنسانية الأساسية والتعامل بجدية مع سلامة الموظفين يعكس احتراماً كبيراً لكرامتهم وحقوقهم كأفراد وتعتبر حماية صحة وحياة الموظفين واجبًا أخلاقيًا يتعين على كل صاحب عمل الالتزام به ولا يمكن تجاهل المسؤولية الأخلاقية تجاه الأشخاص الذين يسهمون في نجاح المؤسسة وان توفير البيئة الآمنة تعني احترام حقوق الإنسان وتقدير كرامتهم وهو ما ينعكس إيجابيًا على العلاقات بين الإدارة والموظفين ويعزز مناخ العمل الإيجابي.
الدوافع القانونية :
تأتي كضمانة لحماية حقوق العاملين حيث تفرض التشريعات والقوانين ضرورة الالتزام بمعايير السلامة والصحة المهنية وان الامتثال لهذه القوانين لا يحمي الشركة من العقوبات القانونية فحسب بل يعزز سمعتها كمؤسسة مسؤولة وان الامتثال للوائح السلامة والصحة المهنية يجنب الشركات المخالفات والغرامات والالتزامات القانونية وان وجود القوانين واللوائح الصارمة التي تفرضها الحكومات لحماية الموظفين والعاملين في أماكن العمل يمثل الالتزام بمعايير السلامة وعدم الالتزام بها يؤدي إلى عقوبات قاسية وأضرار كبيره بسمعة الشركة او المنشأة مما يؤثر سلبًا على الأداء المالي والاستثمار المستقبلي بالإضافة إلى ذلك يمكن أن تتسبب الحوادث الكبيرة في تحقيقات قانونية قد تكلف الشركة وقتًا ومالًا وجهدًا كبيرًا.
الدوافع الاقتصادية :
فهي تلعب دوراً حاسماً في تشجيع الشركات على تبني ممارسات السلامة وان الاستثمار في السلامة يقلل من حوادث العمل والإصابات مما يقلل من التكاليف المتعلقة بالتعويضات والتوقفات التشغيلية ويزيد من إنتاجية الموظفين وكفاءتهم وانخفاض عدد الحوادث يقلل من التكاليف المرتبطة بالرعاية الصحية والتعويضات والتأمين والشركات التي تستثمر في السلامة غالبًا ما تجد أن تكاليف الاستثمار في برامج السلامة أقل بكثير من تكاليف الحوادث بالإضافة إلى ذلك ان تقليل الحوادث يمكن أن يخفض من تكاليف التأمين على العمل وان بيئة العمل الآمنة تساهم في زيادة الإنتاجية والكفاءة مما يؤدي إلى تحسين الأداء المالي العام للشركة.
إن فهم هذه الدوافع الثلاثة يعزز من قدرتنا على بناء بيئة عمل آمنة ومستدامة حيث تكون السلامة جزءاً لا يتجزأ من ثقافة المؤسسة ورؤيتها وقيمها وأهدافها الإستراتيجية .
ولتعزيز ثقافة السلامة في مواقع العمل والحد من الحوادث والإصابات يمكن اتباع مجموعة من الممارسات الفعالة ومنها:
- التدريب والتوعية :
- تقديم برامج تدريبية منتظمة للموظفين حول مبادئ السلامة العامة وإجراءات الطوارئ.
- تنظيم ورش عمل ودورات تدريبية لزيادة وعي الموظفين بالمخاطر المحتملة وكيفية التعامل معها.
- تقييم المخاطر:
- إجراء تقييم دوري للمخاطر المحتملة في بيئة العمل.
- تحديد وتحليل المخاطر واتخاذ التدابير اللازمة للحد منها أو التخلص منها.
- الصيانة الوقائية :
- الالتزام بجدول صيانة دوري لجميع المعدات والأدوات المستخدمة في العمل.
- التأكد من أن جميع الآلات والمعدات تعمل بشكل آمن وخالٍ من العيوب.
- استخدام معدات الحماية الشخصية (PPE) :
- توفير معدات الحماية الشخصية المناسبة لكل نوع من العمل مثل الخوذات والقفازات والنظارات الواقية وأحذية السلامة.
- التأكد من أن الموظفين يستخدمون معدات الحماية الشخصية بشكل صحيح وفي جميع الأوقات.
- إجراءات الطوارئ والإسعافات الأولية :
- وضع خطط طوارئ واضحة ومعروفة لجميع الموظفين.
- توفير أدوات الإسعافات الأولية وتدريب بعض الموظفين على استخدامها.
- إشراك الموظفين في جهود السلامة :
- تشجيع الموظفين على المشاركة في تحديد المخاطر وتقديم مقترحات لتحسين السلامة.
- إنشاء لجان السلامة والصحة المهنية مكونة من ممثلين عن الإدارة والموظفين لمتابعة قضايا السلامة بشكل دوري.
- التوثيق والمتابعة :
- توثيق جميع الحوادث والإصابات وأسبابها وطرق معالجتها.
- تحليل هذه البيانات لتحديد الأنماط واتخاذ الإجراءات الوقائية التصحيحية لمنع تكرار الحوادث .
- تحسين بيئة العمل :
- التأكد من توفير إضاءة جيدة وتهوية مناسبة في جميع أماكن العمل.
- ترتيب وتنظيم أماكن العمل بشكل يقلل من العوائق والمخاطر.
- التواصل الفعّال :
- ضمان وجود قنوات تواصل مفتوحة بين الموظفين والإدارة فيما يتعلق بقضايا السلامة.
- توفير وسائل إبلاغ سريعة وفعالة عن أي خطر محتمل أو اي حادث قد يقع .
باتباع هذه الممارسات يمكننا تقليل الحوادث والإصابات في مواقع العمل بشكل كبير مما يؤدي إلى ضمان بيئة عمل آمنة وخالية من المخاطر وصحية للجميع.
- الاستراتيجيات الفعالة لتعزيز ثقافة السلامة :
- التدريب والتوعية :
ضرورة تقديم دورات تدريبية منتظمة حول الاجراءات المتبعة لتحقيق السلامة والصحة المهنية لجميع الموظفين ويجب أن تشمل هذه الدورات كيفية التعرف على المخاطر وطرق الإبلاغ عنها والحد من وقوعها بالإضافة إلى التدريب على استخدام معدات الوقاية الشخصية ويجب أن تكون برامج التدريب مستمرة لتغطية التحديثات والتغيرات في بيئة العمل.
على سبيل المثال : يمكن تنظيم ورش عمل شهرية تتناول مواضيع مثل التعامل مع المواد الكيميائية والإسعافات الأولية وإجراءات الإخلاء في حالات الطوارئ. - إجراءات السلامة الوقائية :
وضع سياسات وإجراءات واضحة تتعلق بالسلامة الوقائية الاحترازيّة ويجب أن تكون هذه السياسات معروفة للجميع ويتم مراجعتها بانتظام للتأكد من ملاءمتها وتحديثها وفقًا لأحدث المعايير ويجب أيضًا توفير جميع المعدات اللازمة للسلامة والتأكد من صلاحيتها للاستخدام ويمكن للشركات إنشاء دليل سلامة يحتوي على جميع السياسات والإجراءات ويكون متاحًا لجميع الموظفين والعاملين فيها . - التعاون والتواصل :
تشجيع الحوار المفتوح بين الإدارة والموظفين حول مسائل السلامة بحيث يمكن تشكيل لجان سلامة تضم ممثلين من مختلف الأقسام للعمل على تحديد المخاطر ووضع خطط للتحسين المستمر وإشراك الموظفين والعاملين في صنع القرارات المتعلقة بالسلامة مما يزيد من التزامهم واهتمامهم ايضاً يمكن تنظيم اجتماعات دورية للسلامة حيث يتم مناقشة المخاطر والتحديات الجديدة وطرح الحلول المناسبة حيالها . - التقييم والتفتيش الدوري والمتابعة المستمرة:
إجراء عمليات تفتيش وتقييم ومتابعة دورية لمكان العمل للتأكد من الامتثال لمعايير السلامة ويجب أن تشمل هذه التقييمات جميع جوانب بيئة العمل من المعدات إلى الإجراءات اليومية والتأكد من عدم وجود أية مخاطر محتملة قد تؤدي إلى وقوع إصابات أو حوادث ويمكن للشركات الاستعانة بخبراء ومستشارين متخصصين في تقييم المخاطر لإجراء تقييمات شاملة في بيئة العمل . - التحفيز والتشجيع :
تقديم مكافآت وتشجيع الموظفين الذين يلتزمون بإجراءات السلامة ويشاركون في تحسين بيئة العمل. ويمكن أن تكون هذه المكافآت مالية كانت أو معنوية مثل شهادات تقدير أو منح إجازات إضافية ويمكن للشركات تنظيم مسابقات داخلية تحفز الموظفين على تقديم أفكار مبتكرة لتحسين السلامة أو تحديد احتفالية تتزامن مع الأحتفال باليوم العالمي للصحة والسلامة المهنية الذي يحتفل به في ٢٨ من ابريل من كل عام.
- أمثلة واقعية :
مثال على حادثة في العمل :
حادثة سقوط عامل من ارتفاع في موقع بناء بسبب عدم الالتزام بالاجراءات الوقائية المناسبة كا عدم ارتداء حزام الأمان بحيث يمكن أن تشمل الحلول توفير التدريب المناسب على استخدام معدات الوقاية الشخصية وإجراء عمليات تفتيش منتظمة على كل مهمة من مهام العمل لضمان التزام الجميع بالإجراءات الوقائية اللازمة وتتضمن الخطوات العملية هنا توفير حزام الأمان المناسب وتدريب العاملين على استخدامه بشكل صحيح وإجراء تفتيشات دورية لضمان استخدامه.
- مبادرة ناجحة :
شركة نفذت برنامجًا شاملاً للسلامة أدى إلى تقليل الحوادث بنسبة 50%. يشمل البرنامج تدريبات دورية ومراجعات مستمرة للإجراءات وتوفير معدات الحماية الشخصية وتحليل المخاطر لكل مهمة عمل يقوم بها العمال فيها . وعلى سبيل المثال : إحدى الشركات في قطاع الصناعة تمكنت من خفض نسبة الحوادث بنسبة 70% بعد تبنيها لبرنامج سلامة شامل يتضمن تدريبا مكثفا على إجراءات السلامة وعمل تقييم شامل للمخاطر المحتملة وتقييم خاص لكل مهنة يقوم بها كل عامل في المصنع واختيار وتوفير معدات جديدة آمنة بها جميع معايير ومواصفات السلامة . - الآثار الإيجابية لتعزيز ثقافة السلامة :
تحسين الروح المعنوية :
إن وجود بيئة عمل آمنة قد تعزز من رضا الموظفين والعاملين وتزيد من ولائهم للمؤسسة التي يعملون فيها بحيث يشعرون بأن شركتهم تهتم بسلامتهم ويكونون أكثر استعدادًا لبذل جهد إضافي ويكون لديهم دافع أكبر لتحقيق النجاح وان رضا الموظفين عن بيئة العمل يمكن أن يقلل من معدل دوران الموظفين ويزيد من استقرارهم في العمل.
تقليل التكاليف :
ان انخفاض عدد الحوادث يقلل من التكاليف المرتبطة بالرعاية الصحية والتعويضات والتأمين وان الشركات التي تستثمر في السلامة غالبًا ما تجد أن تكاليف الاستثمار في برامج السلامة أقل بكثير من تكاليف الحوادث بالإضافة إلى ذلك ان تقليل الحوادث يمكن أن يخفض من تكاليف التأمين على العمل.
تحسين السمعة :
أن اي شركة تهتم بسلامة موظفيها تبني سمعة جيدة في السوق مما يجذب الكفاءات والمستثمرين وبذلك تحقق عوائد جيدة في الارباح والسمعة في الأسواق والشركات التي تبرز كمثال في الالتزام بمعايير السلامة تصبح أكثر جاذبية للعملاء والمستثمرين على حد سواء لأن السمعة الجيدة تعني أيضًا علاقات أفضل مع المجتمع المحلي والجهات التنظيمية.
الخاتمة :
ان تعزيز ثقافة السلامة في مكان العمل ليس خيارًا بل ضرورة لتحقيق بيئة عمل أمنة وصحية . والاستثمار الحقيقي في السلامة يعود بالفائدة على الجميع من الموظفين والعمال إلى أصحاب العمل والجهات الحكومية ويؤدي إلى تحقيق الهدف المنشود يمكن الشركات والمنظمات من تقليل المخاطر وزيادة الإنتاجية وتحقيق النجاح المستدام.
خميس بن سالم الحراصي- ماجستير إدارة أعمال