لقد أُنزِل القرآن الكريم ليكون نوراً يهدي به الله تبارك وتعالى من اتبع رضوانه، وليكون حجةً بالغةً قائمةً على الخلق إلى يوم الدين، وفي كل آية من آياته تتجلى مظاهر الإعجاز البلاغي، والفكري، والفقهي، والحكمي، مما يجعل كل حرف فيه معجزة بحد ذاتها، ومن بين هذه الآيات العظيمة ما جاء في سورة النمل، التي تحكي لنا قصة النبي سليمان عليه السلام مع ملكة سبأ.
ففي قوله تعالى: “أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ” [النمل: 25]، تتجلى قدرة الله سبحانه وتعالى في علمه المحيط بكل شيء، فهو يعلم السر وأخفى، ويعلم ما تخفيه القلوب وما تُظهره الجوارح، وهذا علم شامل كامل لا يدانيه علم، مما يدعونا للتفكر في عظمة الخالق وجلاله، ويحثنا على السجود له وحده، المستحق للعبادة دون سواه، وفي قوله تعالى: “اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” [النمل: 26]، تتجلى حقيقة التوحيد، فالله سبحانه وتعالى هو الواحد الأحد، الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، وهو رب العرش العظيم، الذي لا يشبهه شيء في عظمته وسلطانه.
أما قوله تعالى: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” [النمل: 27]، فهو يبرز جانب الحكمة في التعامل مع الأحداث، والتثبت قبل اتخاذ القرارات، وهو درس لنا في التروي والتثبت من الأخبار قبل قبولها أو رفضها، وفي قوله تعالى: “اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ” [النمل: 28]، نجد نموذجاً رائعاً للدبلوماسية الحكيمة، وكيفية إرسال الرسائل بذكاء وانتظار الردود بفطنة، مما يعكس مهارة النبي سليمان عليه السلام في إدارة الأمور.
وعن قول ملكة سبأ: “يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ” [النمل: 29]، يُظهر لنا الاعتراف بالقيمة الكبيرة لما جاء من عند نبي الله سليمان، ويعلمنا كيف نتعامل مع الأمور بحكمة وتقدير، ثم يأتي ختام الرسالة بكلمات عظيمة: “إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” [النمل: 30]، ليبين أن كل أمر يبدأ باسم الله، وفي هذه البسملة، نجد الرحمة الإلهية والحكمة الربانية في التعامل مع الخلق.
بالتالي، إن هذه الآيات ليست مجرد كلمات تُتلى، بل هي دروسٌ بليغة في الإيمان، والحكمة، والدبلوماسية، والتقدير، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن الكريم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
بسم الله الرحمن الرحيم
أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ۩۞ قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ.
إن التأمل في هذه الآيات الكريمة من سورة النمل يعطينا لمحات عظيمة من مظاهر الإعجاز القرآني في اللغة والمعاني والحكمة، سنستعرض تفسيرها معتمدين على أقوال كبار المفسرين والمعاصرين.
“أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ” (النمل: 25)
يُشير ابن كثير في تفسيره إلى أن الله تبارك وتعالى يُنبّه الناس إلى السبب الأعظم في عبادته، وهو علمه الكامل بأسرار السماوات والأرض، فالخبء هو كل ما هو مستور وخفي، سواء كان في السماء من السحب والأمطار أو في الأرض من كنوز ومعادن، أما المفسر الكبير الطبري فيرى أن الآية تبرز قدرة الله عز وجل في إخراج ما يخفى عن الأعين من السماء والأرض، وفي هذا دعوة للتوحيد والخضوع لله تبارك وتعالى.
“اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ” (النمل: 26)
يؤكد الإمام القرطبي أن هذه الآية تعزز مفهوم التوحيد، إذ تنفي أي إله سوى الله، وتصفه برب العرش العظيم، مما يدل على عظمته وسلطانه، ويضيف الزمخشري أن العرش هو أعظم المخلوقات، وربوبيته على العرش إشارة إلى هيمنته على الكون كله.
“قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ” (النمل: 27)
يفسر ابن عاشور هذا القول بأنه قرار حكيم من سليمان عليه السلام للتحقق من صدق الهدهد، فهو لم يقبل الخبر فوراً ولم يرفضه، بل اتخذ موقفاً متأنّياً ليعرف الحقيقة. وهذه إشارة إلى أهمية التثبت قبل اتخاذ القرارات.
“اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ” (النمل: 28)
في هذا الجزء، يوضح ابن كثير أن سليمان كتب رسالة إلى ملكة سبأ يدعوها فيها إلى الإسلام، وأمر الهدهد بإيصالها بطريقة دبلوماسية، ثم يراقب رد فعلهم، وهذا يعكس حكمة سليمان في إدارة الأمور واستخدام الرسائل لإيصال الدعوات.
“قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ” (النمل: 29)
تصف الآية ما فعلته ملكة سبأ عندما وصلتها رسالة سليمان عليه السلام، يقول الطبري إنها جمعت أشراف قومها لاستشارتهم في الأمر، ووصفها للكتاب بأنه كريم يدل على احترامها لمحتواه وإدراكها لأهميته.
“إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ” (النمل: 30)
تشير هذه الآية إلى بداية رسالة سليمان عليه السلام، كما يوضحها المفسرون، حيث تبدأ بالبسملة مما يبرز أهمية التوحيد والرحمة في الرسالة، ويشير السعدي إلى أن ابتداء الرسالة بالبسملة يعكس خلق سليمان وحكمته في تذكير القارئ بعظمة الله ورحمته.
بهذه الانسيابية والجمال، يتضح لنا كيف تجمع هذه الآيات بين الدعوة إلى التوحيد، وإظهار قدرة الله تبارك وتعالى وعلمه، وحكمة الأنبياء في التعامل مع الآخرين، هي دعوة لنا جميعاً للتأمل والتدبر في كتاب الله والعمل بحكمته ومواعظه.
بالإضافة إلى تفسير الآيات الكريمة، سنقوم باستعراض جمالياتها، وإن الآيات الكريمة من سورة النمل التي بين أيدينا تحوي في طياتها جماليات لغوية وتعبيرية مميزة، إلى جانب مقاصد شرعية جليلة، وذلك استناداً إلى أهم الشراح الإسلاميين.
الجماليات اللغوية والتعبيرية:
أسلوب التعجب والاستفهام: في قوله تبارك وتعالى: “أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ”، نلاحظ استخدام أسلوب الاستفهام التعجبي الذي يدعو إلى التفكر في عظمة الله وقدرته، حيث يُظهر عجباً واستنكاراً على من لا يسجد لله الخالق المبدع.
التناسق البلاغي: الآية “يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ” تحتوي على توازن بلاغي بين ما يخرج من خفايا الأرض والسماء وما يُخفى في الصدور ويُعلن، مما يعكس شمولية علم الله عز وجل.
البيان والتفصيل: في قوله تبارك وتعالى: “اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ”، نجد تأكيدًا على وحدانية الله وربوبيته مع بيان عظمة العرش، مما يضفي رهبة وجلالًا في النفس البشرية.
استخدام صيغة الأمر: في الآية “اذْهَب بِّكِتَابِي هَٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ”، يُستخدم الفعل الأمر بأسلوب حازم ومحدد، مما يعكس الحزم في إدارة الأمور والرسائل، ويضيف عنصراً من السلطة والنظام في توجيه الأمور.
وصف الكتاب: في قول ملكة سبأ: “إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ”، استخدام كلمة “كريم” تعطي انطباعاً عن أهمية الكتاب وقيمته العالية، وهو تعبير بليغ يشير إلى الاحترام والتقدير.
المقاصد الشرعية:
التوحيد: تأكيد وحدانية الله في قوله: “اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ”، يعكس مقصدًا شرعياً أساسياً في العقيدة الإسلامية، مثل هذه الدعوة للتوحيد نجدها في قوله تعالى: “وَإِلَٰهُكُمْ إِلَٰهٌ وَاحِدٌ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَٰنُ الرَّحِيمُ” (البقرة: 163).
إثبات علم الله: في الآية “وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ”، يؤكد على شمولية علم الله بكل شيء، وهذا ما نجده أيضاً في قوله تعالى: “وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ” (الأنعام: 59).
الحكمة في التعامل: في قوله: “قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ”، يُظهر كيفية التحقق والتثبت من الأخبار قبل الحكم، وهو ما ينسجم مع قوله تعالى: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا” (الحجرات: 6).
الدعوة بالحكمة: في إرسال سليمان عليه السلام كتابه إلى ملكة سبأ، نجد دعوة بالحكمة والموعظة الحسنة، كما قال تعالى: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ” (النحل: 125).
البدء بالبسملة: ابتداء الكتاب بـ “بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ”، يعكس أهمية بدء الأعمال بذكر الله، كما نجد ذلك في سورة الفاتحة.
بالتالي، وبهذا التحليل العميق والمتأني، نجد أن هذه الآيات الكريمة من سورة النمل تجمع بين الجمال اللغوي البليغ والمقاصد الشرعية السامية، مما يجعلها نموذجاً للإعجاز القرآني الذي يدعو للتدبر والتفكر في كلام الله تبارك وتعالى، والاهتداء بحكمته في جميع جوانب الحياة.
من هنا، إن عالم الإعجاز القرآني هو بحر لا ينفد، وكنز لا ينضب، يتجلى فيه عظمة الله وحكمته في كل حرف وكلمة، وفي كل آية وسورة، إنه عالم يعبر عن عظمة الخالق ويؤكد وحدانيته، يحيي القلوب الميتة، ويزيد المؤمنين إيماناً على إيمانهم، ويجعل القلوب تخشع والأعين تدمع، ومن خلال الإعجاز القرآني ندرك أن هذا الكتاب العظيم ليس مجرد نصوص تُتلى، بل هو دستور للحياة، وهدى ورحمة للعالمين، فالإعجاز اللغوي يعكس بلاغة اللغة العربية وسموها، والإعجاز العلمي يظهر لنا توافق القرآن الكريم مع حقائق الكون وقوانينه، والإعجاز التشريعي يقدم لنا نظاماً متكاملاً للحياة، والإعجاز النفسي والروحي يعالج القلوب ويربي النفوس.
وتتجلى أهمية الإعجاز القرآني في كونه برهاناً دائماً على صدق الرسالة المحمدية، وحجة قائمة على الناس إلى يوم القيامة، إنه مصدر للإيمان واليقين، ودعوة للتأمل والتدبر في آيات الله، كما قال تبارك وتعالى: “أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا” (النساء: 82)، فالقرآن الكريم هو نور الله المضيء، الذي يهدي به من يشاء من عباده، وكلماته هي النبراس الذي يضيء دروب السالكين إلى الله، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يجعل القرآن العظيم ربيع قلوبنا، ونور صدورنا، وجلاء أحزاننا، وذهاب همومنا وغمومنا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
عبدالعزيز بن بدر القطان/ كاتب ومفكر – الكويت.