يحمل وقت الصَّيف في طيَّاته العديد من المحطَّات، ويستدعي المزيد من العُمق في الرؤية والاستعداد للتعامل مع معطياته والتفاعل مع متطلباته، وهو مع كُلِّ محطَّاته ومنطلقاته يفتح أمام النشء خيارات أوسع وبدائل أجود، ومنصَّات مُتجدِّدة تضْمَن لَهُم مزيد الفائدة، وعُمق الاستفادة، ويبقى عَلَيْه أيضًا أن يصنعَ لَهُم مساحة مُتجدِّدة من المواقف الَّتي يستطيعون التعبير فيها بما يمتلكونه من عُمق الهدف وروح التحدِّي. ولأنَّهم الغاية والهدف، فَهُم أكثر رغبة في أن يجدوا في البرنامج الصَّيفي وأجندته فرصتهم ورغبتهم في توسيع المدارك واستيعاب أحداث الواقع والخروج من نمطيَّة الأداء إلى مرحلة جديدة يستشعر فيها الجميع في فصل الصَّيف وبرامجه قِيمةً مضافة لصناعة الفرص وتحقيق التحوُّل الشامل.
ونظرًا لِمَا تُمثِّله البرامج والمراكز الصيفيَّة من أهمِّية كبيرة في حياة الناشئة في تغطية مساحة الفراغ وتوجيهها إلى محطَّات جديدة في حياتهم تضْمَن قدرتهم على استيعاب الواقع وإعادة إنتاج الذَّات بروح ملؤها الشغف والطموح وتحقيق الإنجازات على مختلف الصعد، بدءًا من الفرد والأُسرة والمُجتمع لتتَّجهَ إلى مؤسَّسات الوطن جميعها من خلال الرصيد الفكري والأمني والمعرفي الَّذي يصقل شخصيَّاتهم ويبني ذواتهم ويُعبِّر عن حسِّ التضامن والتكامل في بناء الإنسان ويقوِّي عزيمة الإرادة في الرأسمال البَشَري بأنَّ ما يقدَّم له من محطَّات البرنامج الصَّيفي إنَّما يتَّجه لصقلِ شخصيَّته وبناء ذاته وتعظيم شأنه وترقية جوانب شخصيَّته لتصلَ إلى مستويات عالية من التوازنات النَّفْسيَّة والاجتماعيَّة والعقليَّة والروحيَّة، فصقل مواهب النَّشء واحتضانه وبناء قدراته وتعزيز مهاراته وإيجاد الممكنات المؤسَّسيَّة والمُجتمعيَّة الَّتي تحتضنه وترعاه وتحوي مبادراته وتؤمن بأفكاره وتُلبِّي مطالبه واحتياجاته، واستغلال وقته بالمفيد من العمل، محطَّات مهمَّة وأبجديَّات يجِبُ أن تكُونَ حاضرة في المراكز والبرامج الصيفيَّة، كما أنَّ هذه البرامج والمراكز فرصة لتعزيز قِيَم المواطنة لدى النشء من خلال تعويده على العمل التطوُّعي وبناء روح الفريق والمشاركة في البناء والتطوير المنهجي في إطار تحديد المهام والمسؤوليَّات، فما أجملَها من فرصة لتكوين نماذج مضيئة من أبناء الوطن لخدمة الوطن، وكم سيكُونُ لهذه المراكز والبرامج من أهمِّية إن وظِّفت بالشكل السَّليم وخُطِّط لها في إطار مستقبلي، ووضعت لها أجندة عمل واضحة وخطط دقيقة، وأعطي النشء فيها مسؤوليَّة إدارة ذاته ومسؤوليَّة القيام بمسؤوليَّاته ومهام عمله، وتجريب مبادراته.
وعَلَيْه فإنَّ قدرة البرنامج الصَّيفي والمراكز الصيفيَّة المنتشرة في مختلف محافظات سلطنة عُمان، على تحقيق الصورة النموذج الَّتي يُمكِن أن تقدِّمَها في بناء قدرات الناشئة وضمان تحقيق الغاية الكبرى من وجودها في هذه الفترة من العام، الَّتي يحظى فيها الطلبة بإجازة صيفيَّة أصبحت في ظلِّ عدم استغلالها الاستغلال الأمثل واستيعاب النَّشء فيها، هاجسًا لدى أولياء الأمور والأُسر بما قد يواجه النَّشء من مخاطر يفرضه الواقع الإلكتروني والبيئات الافتراضيَّة والواقية ومظنَّة الانحراف والتغرير الفكري والتوجُّهات غير السليمة والأفكار السلبيَّة الَّتي تطرح في حياة النشء من قِبل الأصدقاء والحسابات الوهميَّة وغيرهم إن لم يجد فيها الناشئة ما يحصِّنهم من الوقوع في شِراكها، أو يبعدهم عن التفكير في ملوِّثاتها، أو يأخذ بأيديهم إلى جادَّة الصواب فيفتح لَهُم نوافذ الأمل والاطمئنان، ومزيد الرغبة في العطاء والإنتاجيَّة بما تحويه هذه البرامج والمراكز الصيفيَّة من فرص المنافسة وبناء الشخصيَّة والتسويق للذَّات عَبْرَ إدخال بعض البرامج المتعلقة ببناء الشخصيَّة والطموح وإنتاج المواهب وتعريضهم لمحطَّات اختبارات عمليَّة وتجارب معيَّنة تستهوي فيهم الشَّغف والعطاء والمنافسة والإنجاز.
لهذا فإنَّ قراءتنا للبرنامج الصَّيفي تنطلق في إطار الحوكمة من جملة من الاعتبارات الَّتي يفترض أن توليَها مؤسَّسات الدَّولة عنايتها، من حيث تأكيد مستوى الشراكة ووحدة العمل المؤسَّسي في رسم صورة مكبّرة لنموذج البرنامج الصَّيفي الَّذي تريده الناشئة اليوم، لتضيفَ إلى تنوُّع المناشط والبرامج والمناهج، ومستوى التنسيق وتكامل الأدوار وتفاعل الأُطُر وتقاسم المسؤوليَّات وتناغم الخطط محكَّات جديدة لبرنامج صَيفي منتج، ومراكز صيفيَّة أساسها الطموح وبلوغ الأهداف وتحقيق مسار تعليمي وتدريبي وترفيهي يبتعد عن التكراريَّة والسطحيَّة من أجْلِ عمل وطني مشترك يصبح فيه الإنسان أولويَّة الأولويَّات وسر تحقيق المنجزات، بحيث يصبح المسجد والمدرسة والنادي والقاعات الدراسيَّة بالجامعات والكليَّات والمعاهد منصَّات لاستيعاب أبناء عُمان وبناتها.
إنَّ حوكمة البرنامج الصَّيفي الطريق لصناعة منتج صَيفي أكثر ابتكاريَّة وجودة وتجددًا وواقعيَّة، فإنَّ وجود إطار عمل واضح للبرنامج الصَّيفي باعتباره مشروعًا وطنيًّا يستهدف طلبة عُمان وطالباتها في فصل الصَّيف، يستدعي في ظلِّ التراكمات والمعطيات الحاجة إلى بناء منهجي واضح يستوعب الجميع ويتعايش معه الكلُّ، يتقاسمون الشَّغف والعطاء، والعِلم والعمل لذلك يصبح توفر صيغة واضحة لعمله ومنهجيَّات مقنّنة لأدائه، تجنِّبه الازدواجيَّة وتُقلِّل من حالة الترهل الَّتي يواجهها تطبيقه، والإجراءات الَّتي تعرقل إنجازه، وتفتح للناشئة العُمانيَّة أبوابه بكُلِّ يُسر وسهولة، مستفيدًا من التقنيَّات الحديثة والبرامج التطبيقيَّة عَبْرَها، سواء في عمليَّات التسجيل أو توفير المحتوى العلمي والعملي والخبرة المناسبة، وتستوعب فيه كُلَّ المبادرات والمشاركات وفرص الدَّعم المقدَّم من القِطاع الخاصِّ ومن مؤسَّسات الدَّولة المختلفة، ذلك أنَّ الوصول إلى جودة الممارسة في البرنامج الصَّيفي وخطَّة عمله يستدعي تعزيز مبدأ التنوُّع في المسارات وتعدُّدها وتمكين المستهدفين مِنْها في الاستفادة من المتاح من بيئات تعلُّم وحلقات وبرامج إثرائيَّة وتطويريَّة، ومحاكاة الواقع بما يُسهم في تقوية جانب الميول المهنيَّة والشخصيَّة للملتحقين بهذه البرامج، مع مراعاة مستوى تناسب البرامج المقترحة مع الفئات والأعمار المستهدفة وشموليَّتها للجنسيْنِ بصورة متكافئة، ويراعي اختيارها وفق أُطر محدَّدة وضوابط مدروسة واستراتيجيَّات تعليم وتعلُّم متنوِّعة تعطي جانب التوعية والتثقيف والوعي والترفيه نصيبًا أكبر، وتعتمد على التعلُّم الذَّاتي وممارسة النشاط وفق الاختيار مع وضوح آليَّات التوجيه والمتابعة والرَّصد والتقييم.
عَلَيْه، تتعدى مسؤوليَّة البرنامج الصَّيفي عادات التدريس والشرح والممارسة التعليميَّة المعروفة في المدارس إلى مرحلة جديدة تقف فيها على الواقع وتستقرئ سلوك الناشئة وأفكارها وتبني عَلَيْها محطَّات النجاح القادمة، كما أنَّ محتوى البرنامج الصَّيفي يقوم على شراكة فاعلة متكافئة من كُلِّ الأطراف، لأهمِّية أن يكُونَ التطبيق لها يتمُّ بأريحيَّة واستشعار للجميع وإحساس من الكلِّ بأنَّ ما يحمله البرنامج الصَّيفي في محطَّاته من مواقف وأحداث إنَّما تستجلي في الناشئة عزيمة الإرادة ومنهجيَّة العمل وحسَّ الشعور الذَّاتي ومهنيَّة التطبيق، وبالتَّالي أن يستهدفَ البرنامج الصَّيفي في عمله تأصيل جانب الثقافة الوقائيَّة للفردِ، وتعزيز الحسِّ الأمني وترسيخ الهُوِيَّة والقِيَم والسَّمت العُماني، وتعزيز فرص دعم تغيير السلوك وتطوير الإرادة الذاتيَّة للفردِ في الحياة والعمل، ومواجهة الضغوطات اليوميَّة والتعامل مع الأحداث والأفكار والإشاعات الَّتي يتعرض لها النَّشء، والأسلوب الحكيم في التعامل مع ما يبثُّ في وسائل التواصل الاجتماعي وما يتمُّ تناقله فيها، هذا بِدَوْره يستدعي تعريض المستهدفين إلى مواقف مماثلة وتجريبهم في مواقف حياتيَّة خارجيَّة متنوِّعة وتأكيد مسؤوليَّتهم الاجتماعيَّة ودَوْرهم الريادي الإيجابي في البيئة الواقعيَّة والافتراضيَّة.
أخيرًا، تبقى حوكمة البرنامج الصَّيفي وعمل المراكز الصيفيَّة فرصة مُتجدِّدة لاختبار مستوى العمل معًا من كُلِّ المؤسَّسات والقِطاعات العامَّة والخاصَّة، ومستوى تجذُّر الشراكة في كُلِّ ما يتعلق ببناء الإنسان، ومع القناعة بأنَّ البرامج الصيفيَّة ليست العصا السحريَّة في معالجة مُشْكلات التعليم والسلوك أو تحدِّيات الأمن الاجتماعي الَّتي تواجه الشَّباب في عالَم مشهود بتراكماته وتناقضاته وأيديولوجيَّته الَّتي باتت تتجه إلى إفراغ الناشئة من أخلاق دِينها وقِيَم وطنها ومواطنتها وهُوِيَّتها العُمانيَّة، إلَّا أنَّه وسيلة للتقليل من حجم التحدِّيات الناتجة عن أوقات الفراغ، وفرصة للترويح واحتضان الشَّباب في هذه الفترة الَّتي يحتاج فيها إلى مزيدٍ من الحوار والاحتواء والتوعية والتثقيف، وتجريبها في مواقف حياتيَّة تظهر مستوى الوعي المتحقق لدَيْها. ويبقى نتاج البرنامج الصَّيفي مرهونًا بما يضيفه من نواتج على السلوك والفكر، ويصنعه من نماذج وقدرات وقدوات يفخر بها الوطن.
د.رجب بن علي العويسي