في ظل الأحداث الجارية في قطاع غزة والانتهاكات المستمرة التي يمارسها كيان الاحتلال الصهيوني بحق الفلسطينيين، تتزايد أهمية الالتزام بالقوانين الدولية التي تحظر الإبادة الجماعية وتفرض على الدول واجب الامتناع عن تقديم المساعدة أو الدعم لأي طرف ينتهك هذه القوانين، إذ يحظر القانون الدولي الإنساني أي شكل من أشكال الإبادة الجماعية، ويشمل هذا الحظر كل من المعونة المادية والمعنوية التي قد تُسهم في استمرار هذه الجرائم. في هذا السياق، نجد أن العديد من المواد القانونية الدولية تدعم هذا الواجب وتؤكد على ضرورة التزام الدول به.
وتشكل اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 الإطار الأساسي الذي يحظر الإبادة الجماعية ويُلزم الدول الأطراف باتخاذ جميع التدابير اللازمة لمنع هذه الجرائم ومعاقبة مرتكبيها، كما تنص المادة الثالثة من الاتفاقية على أن التحريض المباشر والعلني على ارتكاب الإبادة الجماعية يعتبر جريمة، كما تنص المادة الرابعة على معاقبة الأشخاص، سواء كانوا حكاماً أو موظفين عامين أو أفراداً عاديين، الذين يرتكبون هذه الجرائم. بناءً على هذه المواد، فإن تقديم أي دعم، سواء كان عسكرياً أو اقتصادياً، للكيان الصهيوني في تنفيذ عملياته العسكرية في غزة يمكن اعتباره انتهاكاً لهذه الاتفاقية.
بالإضافة إلى ذلك، تنص المادة 16 من الاتفاقية الخاصة بحالة اللاجئين لعام 1951 على أنه لا يجوز لأي دولة تقديم الدعم أو التسهيلات للأطراف التي ترتكب انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، بما في ذلك الإبادة الجماعية، هذه المادة تفرض على الدول التزاماً قانونياً واضحاً بعدم المشاركة في أي أعمال قد تؤدي إلى تفاقم الوضع الإنساني في غزة، كما تعزز المادة 25 من ميثاق الأمم المتحدة أيضاً هذا الالتزام، حيث تنص على أنه يجب على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة أن تقبل وتنفذ قرارات مجلس الأمن الدولي، وقد أصدر مجلس الأمن عدة قرارات تحظر تقديم المساعدة لأي طرف يرتكب انتهاكات جسيمة للقانون الدولي الإنساني، بما في ذلك القرارات المتعلقة بناميبيا وجنوب أفريقيا والعراق، في هذا السياق، فإن أي دعم يقدم للكيان الصهيوني يمكن أن يُعتبر خرقاً لهذه الالتزامات الدولية.
وفيما يتعلق بالقانون العرفي الدولي، فإن المادة 1 المشتركة من اتفاقيات جنيف الأربع لعام 1949 تلزم الدول “باحترام وضمان احترام” القانون الدولي الإنساني في جميع الأحوال، هذا يعني أن الدول ليست فقط مطالبة بالامتناع عن انتهاك القانون الدولي الإنساني بنفسها، بل يجب عليها أيضاً أن تتخذ جميع التدابير اللازمة لضمان عدم انتهاك هذا القانون من قبل دول أخرى، بما في ذلك الامتناع عن تقديم أي شكل من أشكال الدعم للكيان الصهيوني في عملياته العسكرية في غزة.
وفي ضوء هذه المواد القانونية الدولية، يتضح أن الدول تقع عليها مسؤولية قانونية وأخلاقية بعدم تقديم أي شكل من أشكال المعونة أو المساعدة للكيان الصهيوني في انتهاكاته بحق الفلسطينيين في غزة، إن الالتزام بهذه القوانين لا يعزز فقط من سيادة القانون الدولي، بل يساهم أيضاً في حماية حقوق الإنسان ومنع تفاقم الأوضاع الإنسانية في المناطق المتأثرة بالنزاعات المسلحة.
بالتالي تقع على عاتق جميع الدول مسؤولية عدم الاعتراف بالانتهاكات الصهيونية لحظر الإبادة الجماعية الناجمة عن عملياتها العسكرية المستمرة في غزة، هذا الالتزام بعدم الاعتراف تم ترسيخه في اجتهادات المحاكم الدولية، وأكدت عليه العديد من قرارات مجلس الأمن الدولي التي تشدد على أن الانتهاكات الخطيرة للقانون الدولي “ليس لها أي شرعية قانونية، وتعتبر لاغية وباطلة”، وتشير هذه المصادر إلى أن “عدم الاعتراف الجماعي يمثل الحد الأدنى من الاستجابة اللازمة من جانب الدول” تجاه الانتهاكات الجسيمة.
وفي الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية بشأن الجدار في عام 2004، أقرت المحكمة بأن جميع الدول ملزمة بعدم الاعتراف بالوضع غير القانوني الناجم عن انتهاكات الكيان الصهيوني للقواعد الآمرة في الأرض الفلسطينية المحتلة، وأكدت على عدم تقديم المساعدة في الحفاظ على هذا الوضع، كما رأت المحكمة الجنائية الدولية أن “كمبدأ عام من مبادئ القانون، هناك واجب بعدم الاعتراف بالحالات الناشئة عن بعض الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي” وهذا الالتزام بعدم الاعتراف “لا يشير فقط إلى الاعتراف الرسمي بهذه الحالات، بل يحظر أيضاً الأفعال التي تنطوي على مثل هذا الاعتراف”.
وفي الرأي الاستشاري الذي أصدرته بشأن ناميبيا في عام 1971، رأت محكمة العدل الدولية أن الوجود غير القانوني لجنوب أفريقيا في ناميبيا أنشأ التزاماً على جميع الدول “بالاعتراف بعدم مشروعية وعدم صحة الوجود المستمر لجنوب أفريقيا”، وأكدت أن الدول ملزمة “بتوضيح لسلطات جنوب أفريقيا أن الحفاظ على العلاقات الدبلوماسية أو القنصلية مع جنوب أفريقيا لا يعني أي اعتراف بسلطتها فيما يتعلق بناميبيا”. عقب هذا الرأي، أصدر مجلس الأمن القرار 301، داعياً الدول إلى “الامتناع عن أي أعمال، وخاصة أي تعاملات مع حكومة جنوب أفريقيا تنطوي على الاعتراف بشرعية هذا الوجود أو تقديم الدعم أو المساعدة له”.
على نحو مماثل، في عام 1990، دعا مجلس الأمن، بعد أن أعلن عدم شرعية ضم العراق للكويت، “جميع الدول والمنظمات الدولية والوكالات المتخصصة إلى عدم الاعتراف بهذا الضم، والامتناع عن أي عمل أو تعامل قد يتم تفسيره على أنه اعتراف غير مباشر بالضم”.
وبناءً على هذا السياق القانوني، تُلزم الدول بعدم الاعتراف بشرعية العمليات العسكرية الصهيونية في غزة، على وجه الخصوص، يجب على الدول الامتناع عن تقديم أي مبررات – بما في ذلك مبرر الدفاع عن النفس – لتبرير سلوك إسرائيل في غزة، وكما هو الحال في قضية ناميبيا، فإن واجب عدم الاعتراف بسلوك الكيان الصهيوني في غزة يمتد إلى الامتناع عن أي أعمال أو تعاملات مع حكومة كيان الاحتلال الصهيوني قد تُفهم على أنها اعتراف بشرعية سلوكها.
كما لا يجوز للدول تقديم المعونة أو المساعدة للكيان الصهيوني في انتهاكه لحظر الإبادة الجماعية، وقد أكدت محكمة العدل الدولية هذا الواجب في الرأي الاستشاري الصادر بشأن الجدار، الذي أعلن أن جميع الدول ملزمة “بعدم تقديم العون والمساعدة في الحفاظ على الوضع” الناجم عن انتهاكات قواعد القانون الدولي تجاه الكافة، بالإضافة إلى ذلك، في الرأي الاستشاري بشأن ناميبيا، أعلنت محكمة العدل الدولية أن الدول “ملزمة بالامتناع عن تقديم أي دعم أو أي شكل من أشكال المساعدة إلى جنوب أفريقيا فيما يتعلق باحتلالها لناميبيا”، ومن المهم الإشارة إلى أن عدم ضرورة نية الدولة الثالثة في مساهمة مساعداتها لمثل هذه الانتهاكات هو أمر واضح؛ يكفي أن تُطلب الدولة وقف هذه المساعدة إذا كانت تدعم الانتهاكات.
أيضاً، تناولت العديد من قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي نطاق واجب عدم تقديم المساعدة في حالات انتهاك الالتزامات المختلفة تجاه الكافة، ففي عام 1975، دعت الجمعية العامة في قرارها رقم 2414 جميع الدول إلى “الكف عن تزويد الكيان الصهيوني بأي مساعدة عسكرية أو اقتصادية طالما استمرت في احتلال الأراضي العربية وإنكار الحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف للشعب الفلسطيني”، وتكررت هذه الدعوة في قرارات لاحقة في عامي 1981 و1983، حيث أكدت الجمعية العامة على ضرورة أن تتخذ الدول التدابير اللازمة لوقف دعمها للكيان الصهيوني بسبب “مواصلة سياساته العدوانية ضد الدول العربية والشعب الفلسطيني”، وأكدت الجمعية العامة على هذه الإجراءات في عام 1983، مشيرة إلى ضرورة مراجعة الدول لأي اتفاق، سواء كان عسكرياً أو اقتصادياً أو غير ذلك، يتم إبرامه مع الكيان الصهيوني.
بالإضافة إلى ما سبق، فإن هناك أهمية كبيرة لفهم السياق القانوني الدولي الذي يحكم هذا الواجب، يعتبر واجب عدم تقديم المساعدة للكيان الصهيوني في انتهاكاته جزءاً من التزام الدول بتعزيز واحترام القانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان، هذا الالتزام يتضمن الامتناع عن أي تصرفات قد تسهم في استدامة أو تشجيع الانتهاكات الجسيمة، بما في ذلك حظر الإبادة الجماعية.
كما أن هناك تأثيراً مباشراً على العلاقات الدولية والسياسات الخارجية للدول التي تختار تقديم الدعم للكيان الصهيوني في ظل استمرار الانتهاكات، وإن تقديم المساعدة العسكرية أو الاقتصادية في مثل هذه الظروف يعرض الدول لمساءلة قانونية وأخلاقية على الصعيد الدولي، ويضعها في موقف يتعارض مع المبادئ والقيم التي تقوم عليها الأمم المتحدة. لذا، فإن احترام واجب الامتناع عن تقديم العون للكيان الصهيوني يعزز من سيادة القانون الدولي ويعكس التزام الدول بالسلام والعدالة الدولية.
باختصار، يمتد واجب الامتناع عن تقديم المساعدة إلى جميع الدول، ويتطلب منها اتخاذ خطوات ملموسة لوقف أي دعم يمكن أن يسهم في استمرار الانتهاكات الصهيونية، وهو واجب يشمل كافة أشكال التعاون، بما فيها الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية، وهو جزء لا يتجزأ من الالتزام العالمي بحماية حقوق الإنسان وتعزيز السلام الدولي.
ولتعزيز هذا الأمر، في قضية نيكاراغوا ضد ألمانيا عام 2024، التي طعنت فيها نيكاراغوا في نقل ألمانيا للأسلحة إلى الكيان الصهيوني باعتباره انتهاكاً لاتفاقية الإبادة الجماعية، أكدت محكمة العدل الدولية على أهمية تذكير جميع الدول بالتزاماتها الدولية المتعلقة بنقل الأسلحة لتجنب خطر انتهاك الدول لالتزاماتها، بما في ذلك تلك المنصوص عليها في اتفاقية الإبادة الجماعية، هذا الحكم يعزز من مفهوم أن الدول ليست فقط مسؤولة عن أفعالها المباشرة، بل أيضاً عن أي مساعدة تقدمها يمكن أن تسهم في انتهاكات حقوق الإنسان والقانون الدولي.
كما أن التأكيد على هذا الواجب من قبل محكمة العدل الدولية يظهر بوضوح أن الالتزامات الدولية تتطلب من الدول عدم المشاركة بأي شكل من الأشكال في الأعمال التي تنتهك حقوق الإنسان الأساسية، كما أن واجب الامتناع عن المساعدة يمتد ليشمل جميع الأشكال المحتملة للدعم التي قد تكون عاملاً مساعداً في تنفيذ جرائم الإبادة الجماعية.
هذه السوابق القانونية والقرارات الدولية تعزز من إطار القانون الدولي الذي يحكم الواجبات الواقعة على عاتق الدول في سياق منع الإبادة الجماعية، وإن الامتناع عن تقديم أي شكل من أشكال المساعدة يشكل جزءاً أساسياً من الالتزام الدولي بحماية حقوق الإنسان ومنع الجرائم ضد الإنسانية، أما الدول التي تتجاهل هذا الواجب يمكن أن تواجه مساءلة قانونية وأخلاقية على الساحة الدولية.
بالتالي، يمكن القول إن الدول ملتزمة قانونياً وأخلاقياً بعدم تقديم أي شكل من أشكال الدعم الذي يمكن أن يسهم في انتهاكات حقوق الإنسان أو الجرائم الدولية، هذا الالتزام يتطلب منها أن تتخذ موقفاً حازماً تجاه سياسات وممارسات الدول الأخرى التي ترتكب انتهاكات جسيمة، وأن تعمل على منع أي مساهمة غير مباشرة في هذه الانتهاكات من خلال وقف جميع أشكال التعاون والدعم.
من هنا، يتجلى بوضوح أن التزام الدول بعدم تقديم المساعدة أو المعونة في انتهاكات الإبادة الجماعية هو واجب قانوني وإنساني أساسي، يستند هذا الالتزام إلى قواعد القانون الدولي الإنساني واتفاقيات حقوق الإنسان التي تهدف إلى حماية المدنيين ومنع الجرائم الجسيمة ضد الإنسانية، وفي سياق ما يحدث في قطاع غزة، فإن الامتناع عن دعم العمليات العسكرية الصهيونية لا يعزز فقط من احترام القانون الدولي، بل يسهم أيضاً في تعزيز السلام والعدالة الإنسانية، ويؤكد على التزام المجتمع الدولي بحماية حقوق الإنسان وصون كرامة الشعوب المتضررة من النزاعات المسلحة.
عبدالعزيز بن بدر القطان / مستشار قانوني – الكويت.